شعار قسم ميدان

أحيانا قد نحب الشر.. هكذا أسرتنا شخصية الجوكر

ميدان - جوكر

حينما كنا صغارا كان باتمان وسوبرمان هما البطلين المفضلين بالنسبة لغالبية الأطفال في عالم "الكوميكس"، غادر أطفال الأمس أسراب الطفولة وانضموا شيئا فشيئا إلى عالم الكبار، ليجدوا أن الدنيا لا تحوي أبطالا خارقين حقيقيين يسهرون على أمانها وتحقيق العدالة فيها، حينها تحول البعض منهم للإعجاب ببطل على الجانب الآخر من الحكاية، من عرفوه كشرير عالم الكوميكس الأهم والأشهر، المهرج الذي يفضل الكوميديا السوداء، الأناركي (الفوضى التي لا تؤمن بالنظام) الذي يجد العدالة الغائبة في الفوضى، والمجرم الذي لا يهتم بالمكسب المادي، صاحب البذلة الأرجوانية الداكنة والضحكة التي تسخر من حاملي لواء الجدية، الجوكر.

 

البداية.. الرجل الذي يضحك

يرجع الظهور الأول للجوكر في عالم الكوميكس إلى بداية الأربعينيات، وبالتحديد في ربيع عام 1940 مع ظهور العدد الأول من سلسلة باتمان، والتي أعقبت ظهورا قصيرا لشخصية باتمان في سلسلة "Detective Comics" عام 1939 (1). اختلفت الروايات عن بداية التفكير في خلق شخصية الجوكر، ولكن الأمر المؤكد الوحيد أن الكاتب الأميركي بيل فينجر هو من كتب الحكاية الأولى التي تضمنت ظهور الجوكر، فيما قام الرسامان الأميركيان جيري روبنسون وبوب كان برسم الشخصية، حيث استلهما ملامح الوجه من صورة للممثل كونارد فيدت من فيلم "الرجل الذي يضحك" إنتاج عام 1928 عن قصة لفيكتور هوجو (2).

  

في مقابلة ما زال تسجيلها متاحا على الإنترنت صرّح جيري روبنسون بخصوص بداية التفكير في خلق شخصية الجوكر قائلا: "لقد أردت أن أرى شريرا مذهلا قادرا على اختبار قدرات باتمان، ولكنه يجب ألا يكون مجرما عاديا أو كلاسيكيا بحيث يسهل التخلص منه، لقد أردت شخصية غرائبية، شخصية يمكنها التطور لكي تصبح قادرة على صنع صراع قائم على التناقض بشكل دائم مع باتمان، شيء شبيه بالعلاقة بين شيرلوك هولمز وبروفيسور مورياتي" (3).

   

 

أما عن مظهر الجوكر فيقول روبنسون: "لقد أردت شخصا مثيرا للاهتمام على المستوى البصري، فكّرنا في الاسم أولا، رأينا الصورة من فيلم "الرجل الذي يضحك"، هذه الابتسامة الخبيثة الدائمة الناتجة عن تشوه الوجه، أردت أن أرسم شخصا قادرا على صناعة انطباع من اللحظة الأولى، شيئا غريبا، شيئا يظل عالقا بالذاكرة، شخصا يملك خصائص جسدية فريدة كأحدب نوتردام".

 

نجحت المحاولة إذًا وظهر الجوكر كشرير يعشق السخرية، لديه مجموعة كاملة من الأسلحة الغريبة أهمها ورقات اللعب (الكوتشينة) ذات حواف حادة، كما أنه يمتلك عبقرية مذهلة في صناعة الأسلحة الكيميائية بشكل خاص، وفي حكايته الأولى واجه باتمان من خلال اختراعه لسم خاص يؤدّي إلى انفجار ضحاياه في نوبات من الضحك يعقبها شلل مؤقت ثم فقدان للوعي والموت في بعض الأحيان. فكّر بيل فينجر في أن تنتهي الحكاية بمقتل الجوكر نفسه، ولكنّ تدخلا حكيما من إدارة "DC" كوميكس منع هذا، ليصبح الجوكر منذ ذلك الحين وطوال ما يقرب من 80 عاما هو الخصم الأهم لباتمان والشرير الأشهر في عالم الكوميكس.

 

هذا عن بداية ظهور الجوكر في عالم القصص المصورة، ولكن ماذا عن بداية الجوكر في هذا العالم الخيالي، كيف أصبح هذا الرجل بهذا الشكل وبهذه الشخصية؟ لهذا حكاية أخرى.

  

ما وراء هذه الندوب

"أحيانا أتذكره بشكل ما، وأحيانا أخرى بشكل مغاير، إذا كنت سأحظى بماضٍ، فأنا أُفضّل أن يكون اختيارا من متعدد!"

  

بهذه الكلمات يصف الجوكر ماضيه الذي لا يمكنه تذكره بشكل واضح، يحكي الرسام جيري روبنسون أيضا أنه ناقش هذا مع بوب كان وبيل فينجر أثناء إبداعهم للشخصية، وحينها قرروا أن يتركوا هذا الجزء الخاص بماضيه بلا إجابة، ظنا منهم أن كشف هذا الماضي سيضيع كثيرا من رونق الجوكر الذي يكتسبه من غموضه.

  

 

هكذا ظهر لماضي الجوكر طوال هذه السنين الكثير والكثير من الحكايات داخل عالم القصص المصورة، وخارجها في بعض الأحيان، حيث شاهدنا نسختين عن قصة هذا الماضي في الفيلم السينمائي "The Dark Knight" عام 2008، عن معالجة كريستوفر نولان لشخصية الجوكر التي فاز عنها الممثل الراحل هيث ليدجر بجائزة الأوسكار في فئة أفضل ممثل مساعد، وهي جائزة الأوسكار الوحيدة في فئة التمثيل طوال تاريخ أفلام الأبطال الخارقين.

    

يحكي جوكر هيث ليدجر في أحد المشاهد أنه حظي بهذه الندوب وهو طفل جراء تشويه والده لوجهه، والده المقامر السكير الذي كان يعود للمنزل ليلا ليذيقه هو ووالدته صنوف العذاب، وفي النهاية قرر أن يرسم هذه الندوب على شكل ابتسامة على وجه ابنه لأنه كان يرفض أن يراه باكيا طوال الوقت. وفي مشهد آخر يحكي الجوكر نسخة مغايرة ليخبرنا أنه نفسه هو من شوّه وجهه ليحظى بندوب على شكل ابتسامة رغبة منه في التخفيف عن زوجته التي تعرضت لتشويه وجهها على يد رجال إحدى العصابات (4).

    

ولكن القصة الأبرز عن ماضي الجوكر ستظل هي الرواية التي ظهرت في قصص "DC" المصورة وبالتحديد في عام 1951، ثم أعاد تقديمها وصياغتها المؤلف الشهير آلان مور في عام 1988 في قصة مصورة بعنوان "النكتة القاتلة" أو "The Killing Joke". في "النكتة القاتلة" نرى ماضيا مغايرا تماما للجوكر، هذا رجل طيب وودود، يعمل في مختبر كيميائي، له زوجة حبلى وتحتاج إلى المال، يقرر هذا الرجل نتيجة لهذه الظروف أن يعمل ككوميديان بجانب عمله في المختبر ليحظى ببعض المال الإضافي، ولكنه يفشل في هذا فشلا ذريعا، محطما ويائسا يستجيب لإغراء إحدى العصابات في أن يعمل معهم لعملية واحدة لسرقة بعض المال من شركة الكيماويات التي يعمل بها، على أن يتخفى بارتداء قناع أحمر كبير في هذه العملية، لينتحل شخصية مجرم يسمى "ريدهود"، يوافق الكوميديان الفاشل طمعا في بعض المال، ولكن ظهور باتمان المفاجئ يؤدي إلى فشل العملية، يسقط الكوميديان أثناء محاولته للهرب في حوض مليء بمواد كيميائية تؤدي إلى تشوّهه، وليفقد عقله أيضا عقب هذه الحادثة وعقب الوفاة المفاجئة لابنته وطفله الذي لم يولد (5).

 

   undefined

 

وهكذا يتحول هذا الرجل المطحون إلى "الجوكر"، هكذا يتحول مَعْمَلي سابق وكوميديان فشل في إضحاك الناس إلى مجرم يسعى للانتقام من المجتمع ككل، مجرم ما زال يملك حسا فكاهيا لكنه يصنع نكاتا لا تُضحك أحدا سواه. يوم واحد سيئ يمكنه أن يحول أي إنسان إلى مجرم، هذا هو تحدي الجوكر الذي حاول إثباته في قصة "النكتة القاتلة" والتي تم تحويلها إلى فيلم تحريك حمل الاسم نفسه في عام 2016. في هذه الحكاية يؤذي الجوكر باربرا جوردن ابنة مفوض الشرطة جيمس جوردن وإحدى الفتيات اللائي قمن بدور بات جيرل في القصص المصورة، يؤدي هذا الاعتداء إلى شلل باربرا الدائم، يعقب هذا اختطاف وتعذيب الجوكر لجيمس جوردن نفسه، وفي النهاية يحظى جوردن بفرصته للانتقام ويصبح قاب قوسين من قتل الجوكر، ولكن كلمات باتمان تؤدي في النهاية إلى دفع جوردن لإطلاق النار على ساق الجوكر بدلا من قتله، وليفشل الجوكر في تحويل جيمس جوردن إلى مجرم.

   

تنتهي الحكاية بعرض باتمان للمساعدة على الجوكر، يخبره باتمان أنه يتفهم الآن ما حدث له وما حوّله في النهاية إلى ما هو عليه الآن، ولكن الجوكر يرفض المساعدة ويخبره أن الوقت لإنقاذه قد فات، ولكنه على الرغم من هذا وتقديرا لعرض باتمان يشاركه نكتة حقيقية، يضحك العدوان اللدودان عليها معا للمرة الأولى والأخيرة.

  

المهرج، المجرم، والمخيف.. بين السينما وأفلام التحريك

حظيت شخصية الجوكر بشعبية هائلة طوال كل هذه السنين، يتصدر "مستر J" تصنيفات أعظم أشرار الكوميكس بلا منازع، كما أنه ينافس حتى الأبطال الأخيار في شهرتهم حيث يعتبره البعض المنافس الرئيسي لباتمان على لقب أشهر شخصيات القصص المصورة على الإطلاق. أدّت هذه الشهرة الكبيرة إلى تقديم عدد كبير من المعالجات لشخصية الجوكر في الوسائط المختلفة، وفي مقدمة هذه المعالجات بالطبع ظهوره المتكرر في أفلام التحريك وأفلام السينما بالإضافة إلى بعض المسلسلات التلفزيونية المستوحاة من قصص "DC".

 

بدأ الجوكر في القصص المصورة كمجرم غامض صاحب نزعة فطرية للقتل، ولكن رغبة "DC" في جذب جمهور كبير من صغار السن دفعهم إلى تعديل قصصهم كافة في بداية الخمسينيات لتصبح مناسبة لأعمار أقل، هكذا تحول الجوكر إلى لص يعشق المقالب ولا يشكل تهديدا حقيقيا على الحياة، ومن رحم هذه المعالجة ظهر الجوكر في المسلسل التلفزيوني الأول عن قصص باتمان والذي تم عرضه في بداية الستينيات وأدّى فيه الممثل الأميركي الكوميدي سيزار روميرو دور الجوكر.

   

مارك هاميل يؤدي صوت الجوكر (مواقع التواصل)
مارك هاميل يؤدي صوت الجوكر (مواقع التواصل)

       

في بداية السبعينيات عاد الجوكر الذي نعرفه، المجرم الخطير ذو النزعة التي تجمع بين القتامة والسخرية، ليستمر الأمر على المنوال نفسه حتى شاهدنا مجموعة من أهم قصص الجوكر في نهاية السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، ومن هنا ظهرت شخصية الجوكر الأيقونية والتي يعرفها الجميع في مسلسلات وأفلام التحريك، رجل نحيف وطويل، يرتدي بذلة أرجوانية وحذاء مدببا ويمثل الخطر الأهم والأكبر على باتمان. تناوب على الأداء الصوتي للجوكر في هذه الفترة مجموعة من الفنانين أبرزهم "مارك هاميل" الذي يعتبره كثيرون إلى الآن أفضل من تقمّص روح الجوكر.

    

في نهاية الثمانينيات ظهرت المعالجة السينمائية الأولى لقصص باتمان متأثرة بجو القصص المصورة القاتم في هذه الفترة، أدّى الممثل الأميركي الكبير جاك نيكلسون دور الجوكر، ليصبح واحدا من أفضل الأدوار في تاريخ نيكلسون، وهو الدور الذي يعتبره الكثير من محبي الكوميكس أفضل تجسيد سينمائي لجوكر القصص المصورة، خاصة في جانبه الإجرامي المميز بعبقرية مذهلة في صناعة الخطط (6).

    

تمر السنون وتظهر ثلاث معالجات سينمائية أخرى للجوكر في الألفية الجديدة، الأولى والأهم حتى الآن هي معالجة هيث ليدجر وكريستوفر نولان في فيلم "The Dark Knight"، والذي قدم فيها هذا الثنائي "جوكر" مذهلا على مستوى الأفكار والمظهر، "جوكر" أقرب للحقيقة من جوكر القصص المصورة، "جوكر" أناركيا مخيفا ينتمى للفوضى ولا شيء غيرها. أما المعالجة الثانية فهي معالجة جاريد ليتو لشخصية الجوكر ضمن عالم "DC" السينمائي الجديد، وهي معالجة ترتكز بشكل رئيسي على الجانب السيكوباتي في شخصية الجوكر، وللأسف لم نر منها حتى الآن ما يكفي للحكم عليها خصوصا أن ظهور شخصية الجوكر كان قصيرا جدا في فيلم "Suicide Squad".
    

والآن ينتظر محبو الجوكر معالجته الجديدة في فيلم منفرد خارج عالم "DC" السينمائي، يظهر اسم السينمائي الكبير مارتن سكورسيزي بين منتجيه، كما تم الإعلان عن الممثل الموهوب واكين فينكس بطلا لهذه المعالجة، معالجة نتوقع أن ترتكز بشكل أساسي على قصص ماضي الجوكر، التي ربما تشكل قصة "النكتة القاتلة" مرجعيتها الأهم (7).

 

السيكوباتي / الأناركي / الماركسي!

undefined

 

إذا ما حللنا أفكار وسلوكيات الجوكر سنجد فيها أولا الصفات الكلاسيكية للشخصية السيكوباتية التي وصفها الطبيب النفسي الأميركي هارفي كليكلي في كتابه الشهير "قناع الصحة العقلية" الذي صدر في بداية أربعينيات القرن الماضي، وهذه الصفات هي الجرأة وانعدام الخوف، فقدان القدرة على كبح الغضب، وممارسة العنف، فقدان أي قدر من التراحم مع الغير (8). تتجلى هذه الصفات القاسية والعنيفة في العديد من قصص الجوكر، ولكنها تبدو مجتمعة بشكل واضح للغاية في القصة التي تحمل عنوان "موت في العائلة" والتي تم إصدارها في عام 1988.

    

في هذه القصة يذهب الجوكر بعيدا جدا في محاولته إجبار باتمان على كسر كوده الأخلاقي الوحيد، باتمان لا يقتل وهذا أكثر ما يغضب الجوكر، وهذا ما يدفعه هنا إلى اختطاف أحد أعضاء أسرة باتمان، وبالتحديد روبن، ولكي نوضح الأمر فهذا هو "جاسون تود" على وجه الخصوص حيث إن القصص المصورة تحوي أكثر من روبن. تتجلى صفات شخصية الجوكر السيكوباتية في تعذيبه بلا هوادة لروبن، هذا رجل غير قادر على كبح غضبه ولا يفكر في عواقب سلوكه العنيف، كما أنه لا يشعر بأي قدر من الرحمة، تستمر وصلة التعذيب حتى يترك الجوكر روبن ليموت وهو فاقد الوعي وسط انفجار هائل، ولا تنجح محاولات باتمان لإنقاذه، حادثة شكّلت نقطة فارقة في تاريخ الصراع بين باتمان والجوكر (9).

   

علامة أخرى سيكوباتية تُضاف إلى الرغبة في القتل ستكون بلا شك هي العنف الجنسي والذي نرى منه العديد من الأمثلة في علاقة الجوكر بهارلي كوين، طبيبته النفسية السابقة وحبيبته التي يؤذيها جسديا ونفسيا بشكل دائم. على جانب آخر نرى في أفكار وسلوكيات الجوكر ملمحا أناركيا واضحا رافضا للسلطة وراغبا في الفوضى، إلا أن الكاتبين الأميركيين روبرت بيسلي وروبرت فاينر في كتابهما "الجوكر: دراسة جادة لأمير الجريمة المهرج" يحللان هذه النزعة الأناركية بشكل مغاير، ليصفاها في النهاية بأنها نزعة ماركسية في مقابل نزعة باتمان الرأسمالية (10).

 

باتمان رجل غني يحاول إعادة النظام لجنبات نظام رأسمالي، أما الجوكر فهو عامل مختبر لا يملك سوى عبقريته في الهندسة الكيميائية، لا يملك سوى عقله ويديه، باتمان يدافع عن السلطة فيما يواجهها الجوكر بعد أن تحطمت أسرته وحياته بسبب الظلم الاجتماعي، يحافظ باتمان على كود المجتمع الأخلاقي فيما يحطمه الجوكر، قد يكون قاسيا ولكنه ليس سوى نتاج ما عاناه، باتمان في النهاية هو رجل أعمال يملك ملايين الدولارات فيما لا يهتم الجوكر بالمال ولا بالاحتياجات المادية، كما أنه يبدأ مشواره منذ ظهوره الأول في القصص المصورة في محاربة أغنياء جوثام ورجال سلطتها.

 

ربما لهذا أُعجب جيلنا بالجوكر إذن، ويمكننا تفهم دوافعه على الأقل، ولتظل جملته الخالدة صالحة كتعليق دائم على الأحداث كافة: "لمَ كل هذه الجدية"!

المصدر : الجزيرة