شعار قسم ميدان

"عن الآباء والأبناء".. الوثائقي الذي أوصل سوريا للأوسكار

عن الأباء و الأبناء

"لا يوجد من هو مجنون كفاية ليختار الحرب إذا كان السلام متاحا، في أوقات السلام يدفن الأبناء آباءهم، وفي أوقات الحرب يدفن الآباء أبناءهم"

  

كروسيوس، حاكم مملكة ليديا القديمة، راوده كابوس مروع ذات ليلة بأن ابنه أتيس سوف يُقتل بواسطة رمح، أخذ كرويسوس ذلك الكابوس بجدية شديدة واعتبره نبوءة يجب العمل على تجنبها، لذلك قرر عدم إرسال ولده مع الجيش في أي حرب تخوضها مملكته.

 

كروسيوس كان قد آوى الأمير أدراستوس بعدما قتل أخاه عن طريق الخطأ، لكن خطط الملك لتجنيب ولده الحرب حدث بها بعض الثغرات، فقد سمع أن خنزيرا بريا هائجا بدأ في إخلال أمن مقاطعة ميزيا المجاورة، مما اضطر كروسيوس إلى إرسال بعثة عسكرية لقتل الخنزير بقيادة أتيس، أملا منه أنه لن يكون هناك عدو قادر على إطلاق سهم عليه، لكنه ولكي يشعر بأمان أكبر بعث معه أدراستوس للحماية تجنبا لأي حالة هجوم من قِبل عصابات مسلحة، وأثناء محاربتهما للخنزير أطلق أدراستوس سهمه خطأ على أتيس، فقتله. لاحقا، عفا كروسيوس عنه لقتله ابنه، لكن أدراستوس لم يعف عن نفسه، فقتلها.

 

يتأوّه كروسيوس على لسان هيرودوتس الأديب والمؤرخ الإغريقي في كتابه "التواريخ" لاعنا الحرب وتبعاتها وكيف أنها خيار المجانين، فلقد أودت بولده حتى مع تجنبه لكل ما يؤدي لها، لكن الموت يفرض إرادته على الجميع، وبشكل ما، كان هذا بسبب اختياره ومجازفته، فلقد أرسل بنفسه ابنه للهلاك، حيث إنه لو كان الحال أكثر سلما، فمن الممكن أن يموت شيخا كبيرا يدفنه ابنه بعد عمر طويل بدلا من أن يرسل هو ابنه إلى قبره.(1)

 

يتداعى الصراع الأزلي إلى أذهاننا عن علاقة الآباء والأبناء بالحرب عند مشاهدة الوثائقي "عن الآباء والأبناء" لمخرجه السوري طلال ديركي، صنع ديركي فيلما مربكا عن الإرهاب والجهاد، الحرب والأُسرة، الرجال والنساء والأطفال وديناميكيات العائلة، يكمن إرباكه في دقة وصفه الشديد وبُعده عن الانحياز، فالمخرج جزء من الحدث لكنه لا يتدخل بأي شكل، تتحدث معه الشخصيات الرئيسية وهي الأب أبو أسامة وأولاده، لكننا لا نسمع صوته أو آراءه فهو متخفٍّ كأحد الجهاديين وحياته مهددة بالخطر إذا كشفت هويته الحقيقية، يرسل الأب الزعيم الجهادي أولاده الذين يحبهم كثيرا ويعاملهم بمنتهى الرقة لهلاكهم المحتوم، يدربهم على استخدام الأسلحة ويمحور حياتهم حول الموت في سبيل الله، لكنه لا يندم مثل كروسيوس، لا يلعن الحرب لأنه لا يجعل من السلام خيارا.

 

بعد فوزه بجائزة أفضل فيلم وثائقي في واحد من أهم المهرجانات العالمية "ساندانس"، عُرض الفيلم السوري "عن الآباء والأبناء" في مهرجان الجونة ليقابل بردود أفعال متضاربة بين الانهيار بسبب قسوة الفيلم أو السخط واتهامه بتبجيل الإرهاب أو الانبهار بواقعيته الشديدة التي يصعب تحملها، ثم وصل الفيلم لأكبر وأشهر تتويج سينمائي بعد إعلان وصوله للقائمة النهائية لترشيحات الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، مما أثار التساؤل عن ماهية دور البطل في السينما، وهل من وظيفتها خلق التعاطف مع أكثر الشخصيات شيطانية وشرا بشكل محايد أم يجب عليها شجب وإدانة الأفعال الإرهابية بصورة مدرسية؟

 undefined

قرر المخرج طلال ديركي التخفي كأحد المنتمين لداعش لكي يستطيع تصوير فيلمه، بعد تخطيه على حد وصفه "الرعب العظيم"، وعلى عكس الأفلام التي تناولت الموضوع نفسه قرر ديركي تنحية الضحايا تماما عن فيلمه والتركيز على الجُناة، مكثفا ذلك التركيز على العلاقات بين الآباء والأبناء، آباء يقتصر مزاحهم مع أبنائهم -ذوي العيون البراقة التي لا تزال تتعرف على العالم- على الإشارات للذبح والأسلحة والصعق بالكهرباء، وأطفال يجدون متعتهم في قتل الطيور الصغيرة والبحث عن الألغام، ويصرخون "الله أكبر" حين يقفزون في حوض السباحة ويسمون فقرات لعبهم المختلفة عمليات على غرار العمليات العسكرية.(2)


"ضد البطل" هل من الممكن التعاطف مع الشيطان؟

undefined

يترك ديركي الكاميرا تحكي دون تدخل، يقول إنه لا توجد مشاهد معدة سابقا في الفيلم، وإن كل جمل الحوار حدثت بتلقائية أمامه دون الحاجة إلى توجيه الأطفال أو الكبار، يمكن وصف الفيلم وأبطاله ضمن أفلام "أنتي هيرو" أو ضد البطل، وهو الشخصية الرئيسية التي لا تملك مقومات أخلاقية إيجابية أو تصرفات تستحث التشجيع لكنها مثيرة للاهتمام بغض النظر، ما فعله ديركي بفيلمه هو رسم بورتريه صادق لأُسر من الرجال كبارها وصغارها، فيها النساء متواريات بعيدا عن الكاميرا وعن الفعل، آباء يقتلون من يختلف معهم لكنهم يحنون على أطفالهم ثم يلقونهم بأيديهم في ويلات الحرب.

 

مصطلح ضد البطل "الأنتي هيرو" هو مصطلح في النقد الأدبي والسينمائي يمكن إرجاع ظهوره لأول مرة لعام 1714 لوصف أبطال الأدب الرومانسي، وخاصة الأبطال الذين تم تسميتهم البايرونيين على اسم الشاعر الإنجليزي لورد بايرون، فهم أبطال ساخرون يكادون يكونون أشرارا لكن يتم التعاطف معهم من قِبل الجماهير، أما في الأفلام ظهر ذلك منذ بداية السينما على استحياء لكنه تعاظم مع أفلام الويسترين الأميركية، وأفلام النوار التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية.(3)

 

استخدام مفهوم ضد البطل يكون عادة في الأفلام الروائية، فهي ترسم بعناية بطلها لكي يكون محبوبا رغم كونه شريرا، أو كونه إرهابيا أناركيا، مثل شخصية الجوكر في فيلم "فارس الظلام" لكريستوفر نولان الذي يعيث في الأرض فسادا ويضرب بالقوانين عرض الحائط، يقتل دون هدف ويروع الآمنين لكن في نظر الجماهير كان هو البطل المحبوب وليس باتمان البطل المثالي الذي يحارب الشر، أو شخصية أليكس في فيلم "البرتقالة الآلية" لستانلي كوبريك، الذي يغتصب النساء ويقتل الرجال دون رحمة لكن الجماهير تحبه وتتخذه مثلا أعلى أحيانا، حتى إن كوبريك نفسه في لحظة من اللحظات ندم على صنعه للفيلم بعدما ظهرت عصابات في إنجلترا ترتدي ما يرتديه أفراد عصابة أليكس ويعتبرونه إلهاما لثورتهم على المجتمعات البرجوازية.(4)

 undefined

الغريب في "عن الآباء والأبناء" أنه وثائقي بالكامل، لا مجال فيه لرسم الشخصية، بل يتم مراقبتها فقط بحيادية وعدم انحياز، وتنتج عن هذه المراقبة قصة مركبة تظهر ضد بطل، فهو رجل واثق في مبادئه ثقة عمياء، مقتنع تماما بثورته على الغرب والعالم الكافر، يسعى لإقامة خلافة إسلامية من جديد وأن يحارب أعداء الله، يُشرك أبناءه في ذلك لأنه يريد أن يجعل منهم أبطالا وأن يكون مصيرهم النهائي هو جنة الخلد، يأكلون ويشربون فيها ويستمتعون بما يحلو لهم من الطيبات، لأن الدنيا ليست دار الإقامة النهائية لهم، إذا نظرنا للأمر كما ينظر هو له فيمكننا منطقته والدخول إلى عقله، هو لا يكره أبناءه كما نتصور، وهو أيضا ليس وحشا، هو أب، ليس الأب المثالي الذي نرسمه في عقولنا لكنه يفعل ما يؤمن أنه الأصح لأولاده الذين يحبهم كثيرا.

كون ما يحدث على الشاشة حقيقة كاملة يمنع المشاهد من التماهي مع البطل مثلما يتماهى مع الأنتي هيرو الروائي، الذي يعلم أنه من صنيعة الكاتب والمخرج، أما في حالة أبو أسامة فهو قاتل بحق، وأبناؤه جميلو المظهر الأبرياء سيكبرون ليكونوا قتلة بشكل حقيقي، يصنع ذلك حاجزا نفسيا بين الجمهور وبين التعاطف مع ضد البطل، لكنه يخلق جلبة وارتباكا عظيما في قلوبهم يجعلهم يصرخون في وجه المخرج والشاشة: "أتريد أن تُجمّل صورة الإرهاب؟"، مجرد وجود مثل ذلك السؤال يجعل وجود التعاطف افتراضا واقعيا، فالسخط الذي يُخلّفه مشاهدة قتلة مصورين كبشر حقيقيين بدون تصورات هوليوودية عن طريقة كلامهم العنيفة ولغتهم العربية المفخمة يمكن أن يُسبّب خوفا للمتلقي من الوقوع في فخ التعاطف، مما يجعله يغضب لأنه لا يمكن أن يسمح لنفسه بذلك. يرجعنا هذا لفكرة دور السينما، وهل هي مجرد شعاع من النور يتم إرسال ضوئه على قضية أو موضوع إنساني فيتلقاه الجمهور ويفسره كما يشاء، أم هل لها قيمة توجيهية وقدرة على تغيير الواقع كواجب اجتماعي وإنساني؟

undefined

هل يجب على السينما تغيير العالم؟

يقسّم الكاتب بيل نيكولز الفيلم الوثائقي إلى ستة أنماط في كتابه "مدخل إلى السينما الوثائقية"، ومنها النمط الملاحظ، يمكن وضع فيلم ديركي في خانة النمط الملاحظ، ويمكن تعريفه بأنه ملاحظة ومراقبة الأحداث بدون إحداث أي تدخل أو توجيه من صانع الفيلم لشخصياته، لكنه يملك أيضا نفحة بسيطة من النمط التشاركي الذي يتميز بنوع من الحوار والتدخل من صانع الفيلم مع شخوصه، يكمن ذلك في تنكر ديركي كمتعاطف مع الجهاديين وادعائه أنه مصور حرب، لكن يغلب النمط الملاحظ على الفيلم لأن من سماته رؤية الأحداث كما لو لم يكن هناك مخرج، كأننا وقعنا فجأة داخل القصة نشاهد حيوات حقيقية من لحم ودم لربما كانت ستحدث على أي حال إذا لم يكن هناك معدات تصوير وطاقم فيلم، لكن عادة ما يقع ذلك النمط في اتهامات أخلاقية، فلماذا لم يمنع المخرج ذلك الفعل البشع من الوقوع؟ لماذا لم ينقذ حياة فلان، أو يتوجه لآخر بالنصح ويُرجعه عن موقفه؟ يدخل ذلك في حيز جدال كبير لم يحل حتى وقتنا هذا ويمكن اختصاره في تساؤل: هل يمكن للسينما أن تغير العالم؟(5)

undefined

في مقال في الغارديان عام 2006 معنون بـ "هل يمكن أن تغير الأفلام العالم؟" تتحاور الكاتبة أنيتا سيثي مع عدة أشخاص في أحد المهرجانات وتسرد ردودهم ووجهات نظرهم في ذلك الموضوع، يرى أحدهم أن صناعة الفيلم عملية سياسية وأخلاقية ومغيرة للعالم، يعترض آخر قائلا بأن الناس يذهبون إلى الأفلام لكي يروا الحكايات، فهي ليست نشرة أخبار أو توجيهات مدرسية. لكن تلك الآراء يمكن تطبيقها بشكل أكبر على الأفلام الروائية، أما الوثائقيات فتحمل على عاتقها عبئا أخلاقيا وتوجيهيا كبيرا نظرا لطبيعتها الواقعية، وعلى مر التاريخ تم تعريفها من مناظير عدة منها القيمة التي تعود على المشاهد بسببها، ويمكن بسهولة تفريقها عن الأفلام الروائية ذات الميزانيات الضخمة عن طريق القيمة والمعرفة التي تثري بها عقل المشاهد عقب خروجه من دار العرض حتى وإذا كانت مجرد رؤيته لثقافة لم يتعرض لها من قبل.(6)

 

"هناك قوة حقيقية في الفيلم الوثائقي، قوة حقيقية في الأفلام عموما، فهي تتخطى الثقافات، تتخطى البلدان، وامتلاك شيء باستطاعته أن ينشر الوعي العالمي هو ضرورة في وقتنا هذا"

 

في عام 2004 قدّم مخرج الأفلام الوثائقية مورجان سبورلوك وثائقيا يسمى "أنا بالحجم الكبير" يتناول مخاطر وجبات المطعم الأميركي الشهير ماكدونالدز وتسببه في السمنة المفرطة لدى الأطفال، مما زاد الوعي بتلك المخاطر ودشنت الحملات لمقاطعة المطعم، وصل حجم التأثير إلى إقدام المطعم على إلغاء وجبات الحجم الكبير من قائمته بعد ستة أسابيع من عرض الفيلم.

 

أمثلة مثل تلك تُبيّن حجم التأثير الذي يمكن أن يصنعه وثائقي، خاصة إذا امتلك قيمة توعوية كبيرة، لكن "عن الآباء والأبناء" فيلم عصي على التصنيف، فهو يلفت النظر للرعب الذي يورثه الفكر الإرهابي للأجيال الأصغر، لكن دون أن يصرخ أو يوجّه مشاهديه، فمجرد النظر للأطفال وتصور مستقبلهم، بل وتصور أنه من الممكن أن يكون المتلقي نفسه هو ضحية أحد هؤلاء الملائكة الصغار، كفيل بالتوعية والتوجيه دون بروباغندا أو دعاية سينمائية ضد الإرهاب.(7)