شعار قسم ميدان

بين أدوار العشق والكوميديا والغناء.. كيف صوّرت السينما المصرية شخصية "اللبناني"؟

ميدان - صورة اللبناني في السينما المصرية

يصبغ الفن ذواتنا بألوانه الخاصة، والسينما التي تنحت في الزمن تسعى لخلق صورة حقيقية شبيهة بالواقع، والأبطال فيها هم محض شخصيات تعكس ظلالها مزيجا بين الأفلام والحياة، وتتشكّل هيئتهم عبر صور متحركة يخلق تجاورها قصيدة مكتملة، ويختزل فيها الحضور المتكرر معنى ما.

  

تساعدنا السينما على تكوين/تخيّل صور تُحاكي الواقع، من هذه النظرة تطبع في ذاكرتنا صورا ذهنية لشخصيات ما، حياة ما، وإذا ذكرنا حضور الشخصية اللبنانية في الأفلام المصرية سيكون انطباعنا الأول أننا نألف ظهورها ولهجتها ذات النغمة "الناعمة" الرنانة. هذا الظهور ليس حديث العهد، بل ممتد ومستمر منذ السنوات الأولى من تاريخ السينما الكلاسيكية المصرية وصولا إلى الأفلام المعاصرة، لكن دعونا نتأمل ونعيد البحث في تاريخنا السينمائي الروائي الناطق (1932-2018)، كيف ظهرت الشخصية اللبنانية في الأفلام المصرية؟ وكيف كان حضور الممثل اللبناني بصفته فنانا في الساحة المصرية؟

  

"مصر ولبنان بلد واحدة، مصر ولبنان دي لغة قديمة.. إحنا كلنا عرب، فلتحيا العروبة"

(فيلم لبناني في الجامعة)

  

أولا: شخصية اللبناني على شاشة السينما

يرتبط الظهور اللبناني في مرحلة السينما الكلاسيكية بذلك المشهد القصير لفرقة لبنانية يتقدمها مُغنٍّ لبناني يرقص على نغمات "العتابا" و"الدلعونة"، وكان أشهرهم الممثل "إلياس مؤدب"، وهنا يعكس هذا الظهور الارتباط الأول للجمهور المصري باللبنانيين من المسرحيات الغنائية. تلك هي الصورة الأشهر والأقرب للشخصية اللبنانية في الفنون المصرية، والتي ستستمر لفترات لاحقة. ولا نغفل هنا أصوات نساء لبنان وهن يتألّقن بين أعذب الأصوات المصرية التي صدحت أيضا على شاشة السينما، وأصبح لـ "صباح" و"نور الهدى" و"سعاد محمد" و"نجاح سلام" مساحتهن الفنية الخاصة ولكن بطابع مصري، ومعهن ذابت اللهجة وأصبح التمصير بوابتهن للانتشار الجماهيري وتجاوز فكرة التصنيف والحصر فقط في دور الفتاة اللبنانية، وهو ما سنتناوله بالحديث لاحقا.

  

وليد توفيق ورغدة في فيلم
وليد توفيق ورغدة في فيلم "من يطفئ النار" (مواقع التواصل)

    

حاور "ميدان" الناقد السينمائي المصري "رامي عبد الرازق" بشأن امتداد ظهور اللبناني في دور المغني في الأفلام المصرية ما بعد مرحلة الكلاسيكيات، يرى رامي أن الشخصية اللبنانية ظلّت محافظة على حالة المراوحة بين أن تكون شخصية فنان أو مطرب، تحديدا في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية وما تلاها. يذكر رامي أن المغني اللبناني "وليد توفيق" الذي جاء ظهوره على الشاشات المصرية في فيلم "من يطفئ النار" 1982 كمطرب شاب هارب من ويلات الحرب الأهلية يبحث عن حبيبته التي افترق عنها -وكانت رغدة السورية هي التي تؤدي دور الحبيبة اللبنانية الغائبة-، وكان ظهور وليد توفيق كمطرب لبناني وأخيه الشقيق "توفيق توفيق" في بعض الأفلام يعتبر استمرارا لحالة ارتباط الشخصيات اللبنانية في السينما المصرية بمجال الغناء، وهو يتشابه مع صورتها الشهيرة التي عهدناها قديما في الأربعينيات. بالإضافة إلى ما قدّمه الممثل اللبناني "حسن علاء الدين" الشهير بـ "شوشو" من ظهور في الأفلام المصرية خاصة مع "نيللي" وذلك فيما يرتبط بالتجارب الكوميدية والرومانتيكية الخفيفة في تلك الفترة، وهو ما يربطنا بصورة أخرى لشخصية اللبناني في السينما المصرية.

   

الكوميديان اللبناني

قديما، توغّل ممثّلو المسرح في بلاتوهات السينما، والفِرَق اللبنانية كانت مصنعا لالتقاط المواهب التمثيلية؛ حيث امتزجت اللهجة اللبنانية بأدوار الكوميديا، وسطع نجم "بشارة واكيم" و"إلياس مؤدب" و"فيكتوريا حبيقة" و"ڤيوليت صيداوي" و"ثريا فخري" في تأدية شخصية اللبناني خفيف الظل وشكّلوا ثنائيات فنية في أفلام الكوميديا المصرية.

   

إلياس مؤدب (مواقع التواصل)
إلياس مؤدب (مواقع التواصل)

   

في استكمال حوار "ميدان" مع الناقد "رامي عبد الرازق" عن رؤيته لظهور الشخصية اللبنانية في السينما المصرية، خاصة في البدايات الكلاسيكية للسينما، يرى رامي أن الشخصية اللبنانية في مرحلة سينما الأبيض والأسود اتسمت بشكل يتماس مع الطابع الفني، أي كانت غالبا ما تُقدَّم كشخصية فنان يُمثّل ويغني ويرقص كسنيد طريف وخفيف وممتع للبطل. ويقف رامي في حديثه عند ممثل ذكرناه سابقا وهو "إلياس مؤدب"، الممثل الذي وُلد لأب سوري وأم مصرية والذي كان أشهر مَن قدّم الشخصيات اللبنانية في هذه الحقبة، حتى إن محمد عبد الوهاب وأنور وجدي استعانا به في الأوبريت الغنائي الجميل "اللي يقدر على قلبي" في فيلم "عنبر" مغنيا جملته الشهيرة "جيتك من آخر لبنان"، وصنع مع إسماعيل ياسين "دويتو" عظيما قدّما عبره العديد من الأفلام الخفيفة ذات اللمسة الكوميدية الساحرة خاصة مع تراوح "الإفيهات" ما بين العامية المصرية واللهجة اللبنانية الرائقة، نذكر منها أفلام "حلال عليك" و"فلفل" و"البنات شربات"، وغيرها.

  

فيلم
فيلم "لبناني في الجامعة" (مواقع التواصل)

     

تتعاقب السنوات وتتغير الرؤية، إذ يمكننا الوقوف هنا على مساحة تغيّرت فيها صورة اللبناني في السينما المصرية، فإذا ما نظرنا إلى وجوده في الأفلام، نجده حاضرا بكامل هيئته ولهجته كما البدايات، ثم لا يلبث إلا أن يخلع رداءه اللبناني بالتدريج ليتماهى مع الجمهور المصري ويبدو مصريا. لكن، هل استمر الظهور اللبناني بالروح الخفيفة المرحة نفسها كما عهدناه؟

  

لم تكن الأجواء السينمائية في مصر تسير على أفضل حال في أواخر الخمسينيات، حيث فرضت الرقابة سطوتها وأطلقت التضييقات براثنها على الفنانين والسينمائيين ومنظومة الإنتاج الفني، وشكّلت حلقة ضغط على صناع الأفلام، احتمى الفنانون المصريون (سواء كانوا ممثلين أو مخرجين أو مصورين أو منتجين) بربوع لبنان، وهو ما فتح أمامهم أفقا جديدا للإنتاج السينمائي المشترك[1]، ونتج عنها مرحلة مهمة انتعشت فيها السينما اللبنانية بأيادي الفن المصري. تُوثِّق الإحصاءات أنه من بين 198 فيلما أنتجته السينما اللبنانية بين الأعوام 1929 و1993، نجد أن 43 منها أخرجها مخرجون مصريون كبار[2]، وهذا يحيلنا إلى مرحلة مهمة بلورت نظرة جديدة ومختلفة لظهور الشخصية اللبنانية في السينما المصرية.

   

الجمال لبناني

في سعينا للتعمق أكثر في أفلام مرحلة الإنتاج المصري- اللبناني المشترك، حاور ميدان الناقد اللبناني (محمد رُضا) لنعرف منه الكيفية التي يرى بها الظهور اللبناني في أفلام تلك المرحلة؟ يرى رُضا أن أفلام تلك المرحلة اختفى فيها الحضور اللبناني الفاعل في الأفلام الكلاسيكية المصرية، وجاءت هذه الأفلام بلا قيمة تاريخية تذكر. وبما أن طبيعة مصر تختلف عن طبيعة لبنان فإن الكاميرا انشغلت بتصوير الجبال الخضراء والمصايف الفاتنة وتركت لممثلاتها -من كل هوية- حرية ارتداء المثير كتعبير عن مدى رحابة وليبرالية الشخصية اللبنانية. كان هذا نوعا من الغزل المزدوج جزء منه للبنان وجزء منه للجمهور المصري الذي أتيح له التمتع بالجمالين الطبيعي والأنثوي. ويؤكد رُضا أن الأفلام التي ارتبط فيها الظهور اللبناني بشخصية فتيات جميلات، هو ما يمكننا استدعاؤه في ذاكرتنا للوهلة الأولى عن الشخصية اللبنانية في ظهورها على شاشة السينما المصرية في تلك الفترة.

   

إلا أن صورة الجمال الأنثوي اللبناني لم تكن ظاهرة افتعلتها الأفلام المصرية، بل حقيقة تميزت بها المرأة اللبنانية حتى الآن. ففي عام 1971 حصلت اللبنانية جورجينا رزق على لقب ملكة جمال الكون، وهو لقب لم تحصده أي فتاة عربية غيرها حتى يومنا هذا. لجورجينا جمال خارجي فاتن، كانت الجميلة التي يتهافت وراءها الرجال وتغار منها النساء. ولأنها وجه يعكس هذا الجمال، أصبحت جورجينا -فجأة- بطلة رئيسة إلى جوار رشدي أباظة وصباح ومحرم فؤاد ومحمد عوض، فقط لأن الأضواء سُلّطت عليها والنظرات تلاحقها في كل مكان، وكان تمثيلها استغلالا لصورة المرأة اللبنانية الجميلة، فأدوارها السينمائية لم تكن مميزة على الصعيد الفني، كما أنها تخلّت عن لهجتها اللبنانية لتتحدّث بلهجة مصرية متخبطة. استغلال هذا الجمال لم يُضف إلى مسيرتها أي نجاح حقيقي، خاصة أنها اعترفت في حديث معها مؤخرا أنها لا تحب التمثيل[3].

    

فيلم
فيلم "الملكة وأنا" بطولة محرم فؤاد وملكة جمال الكون "جورجينا رزق" (مواقع التواصل)
     

وفي استكمال لحوار "ميدان" مع الناقد "رامي عبد الرازق" يؤكد حديثنا السابق حول التغير الذي طرأ على صورة اللبناني في أفلام المصريين في لبنان، ويرجع رامي أسباب التغيير إلى متطلبات السوق التي بلورت بوضوح شخصيات اللبنانيات الجميلات، وظل الأمر يتم على استحياء في الأفلام المصرية الخالصة وليس الأفلام اللبنانية التي شارك فيها مصريون. ويذكر رامي هنا فيلم "الساعات الرهيبة" حيث يستعين رشدي أباظة بمريم فخر الدين لتؤدي دور امرأة لبنانية جميلة تتعامل معه كوسيط بينه وبين عصابة التهريب، إلا أن ظهور اللبنانيات لم يكن حينها قد بدأ ينتشر بشكل موسع لدرجة الاستعانة بهم كنجمات أمام النجوم المصريين.

 

واستكمالا لرصد صورة الجمال اللبناني في مرحلة سينما الشباب المصرية -بداية الألفية- نذكر الظهور الأول للبنانية نور في فيلم "شورت وفانلة وكاب" والتي صرحت أن صُنّاع الفيلم على الأغلب اختاروها لبطولة الفيلم فقط لأنها "حلوة". ولا يمكننا أن ننسى الظهور الأشهر لنيكول سابا في فيلم "التجربة الدنماركية" رغم أنها لم تؤدِّ دور فتاة لبنانية، لكنها كانت البداية لاستقدام العديد من المغنيات اللبنانيات بالتحديد لخوض تجربة التمثيل في أفلام مصرية تجارية مثل هيفاء وهبي، قمر، الفور كاتس، مادلين مطر، دومينيك حوراني، وغيرهن. واختيار المغنيات اللبنانيات -لا الممثلات- نتيجة لانتشار نجمات الفيديو كليب اللبناني، وتم استغلال شهرتهن ليقدموا أعمالا تجارية بحتة، لكن باللهجة المصرية أيضا.

 

يمكننا تفسير اتساع هذا الحال -اختيار المغنيات اللبنانيات- في إطار الرقابة المجتمعية المصرية بمرحلة الألفية الجديدة التي لم تتقبل تعري الفنانات المصريات، بينما بدا الأمر مقبولا إذا ما كان التعري من غير المصريات. عام 2002 تعرضت داليا البحيري لانتقادات لاذعة لارتدائها "مايوه بيكيني" في فيلم "محامي خلع"، لكن ظهور اللبنانيات في الأفلام المصرية بملابس مشابهة بدا عاديا ومقبولا، وهو أمر يبدو أنه متجذر في مخيالنا الثقافي المرتبط بـ"حرية" المرأة اللبنانية في ملابسها، وهو ما يضعنا تحديدا أمام ازدواجية فكرية تجعل فكرة "العري" مقبولة في سياق "الآخر" غير المصري، وهو ازدواج يمكن ملاحظة ملامحه باديةً في المشهد الفني حتى الآن.

  

يستطرد "رامي عبد الرازق" في حديثه لـ"ميدان" بالوقوف عند فيلم "المصلحة" بطولة أحمد السقا وأحمد عز، يقول إن الفيلم يعكس مدى تغير النظرة تجاه الشخصية اللبنانية في السينما المصرية، فتتبع الخيط الرفيع بين ما قدّمته رغدة السورية في فيلم "من يطفئ النار" رغم ضحالته النسبية وبين ما قدمته كندة علوش -السورية أيضا- لشخصية "الحسناء" اللبنانية في "المصلحة" والتي تشارك زوجها تاجر المخدرات البدوي أحمد عز في الإيقاع بزوجة الضابط أحمد السقا، هذا التتبع يجعلنا ندرك حجم التغير، وما أصبح مطلوبا من أي ممثلة لديها القدرة على الحديث باللهجة اللبنانية، وهو ما سبق وأن شاهدناه قبل "المصلحة" في الفيلم الكوميدي الخفيف "ورقة شفرة" من إخراج أمير رمسيس عندما قدمت الممثلة التونسية الشابة سمية الجويني دور فتاة لبنانية لعوب -"المنقوشة اللبناني" كما يطلقون عليها في الفيلم- والتي توقع بالأبطال الثلاثة من أجل الحصول على السلسلة التي تحتوي على مفتاح حل لغز.

  

كندة علوش في دور الفتاة اللبنانية في فيلم
كندة علوش في دور الفتاة اللبنانية في فيلم "المصلحة" (مواقع التواصل)

   

من زعامة المافيا إلى قيادة "داعش"

كان لفريد شوقي نصيب الأسد في أفلام المصريين في لبنان في مرحلة الستينيات والسبعينيات، ولأن "الأكشن" هو رقعة نجاحه الذهبية، انتقل بالأكشن إلى جبال لبنان، يقول فريد شوقي: "أحب الأكشن.. أكشن يعني ضرب في خناقة، وأنا أحب أن أضرب"، والتصق ظهوره الدرامي بشخصية "الفتوة" أو "القبضاي" الذي يمارس العنف والضرب أو شخصية زعيم العصابة أو تاجر المخدرات[4]. وربما أدى ازدهار الأكشن في أفلام فريد شوقي اللبنانية لجعل الصورة الذهنية لشخصية الرجل اللبناني مرتبطة بأنه زعيم مافيا أو تاجر مخدرات، وهو أمر سيتكرر ظهوره في مرحلة حديثة من السينما المصرية.

      

فريد شوقي في فيلم
فريد شوقي في فيلم "النصابين الثلاثة" (مواقع التواصل)

    

يتكرر المشهد بنمطية وببعض الاختلاف في المرحلة الحديثة من السينما المصرية، تحديدا في فيلمي "زهايمر" بطولة عادل إمام، وفيلم "المصلحة"، تهبط الطائرة إلى مطار بيروت لتبدأ بعدها الشخصيات المصرية في رحلة اللقاء مع رجل لبناني يسكن في قصر عاجٍ فوق جبل لبنان، ثم يبدأ بينهم الاتفاق على صفقة لبيع المخدرات، كلها صفقات مشبوهة تكرر صورة اللبناني -كزعيم مافيا أو تاجر مخدرات- المعهودة منذ أفلام فريد شوقي. المثير للتأمل هنا أن هذه الصورة لم تتغير حتى هذا اليوم؛ في حوار مع السيناريست "هشام هلال" ذكر أن المسودة الأولى لفيلم "كازابلانكا" كان مخططا فيها أن يكون زعيم عصابة المافيا لبناني الجنسية، لكن جاء اقتراح المخرج بيتر ميمي باختيار الممثل التركي خالد أرجنش لتأدية هذا الدور، وبعيدا عن ما آلت إليه الشخصية في النهاية، فإن التفكير الأول للسيناريست يؤكد بشكل ما ارتباط دور زعيم المافيا بالشخصية اللبنانية.

  

أما فيلم "جواب اعتقال"، فيؤدي فيه محمد رمضان دور "خالد" القيادي الشاب في جماعة الإخوان المسلمين -والتي لا يطلق اسمها بشكل صريح في أحداث الفيلم-، وهو رجل بسيط الحال رغم أنه الذراع الأمني الباطش للجماعة في مصر، يسافر خالد إلى لبنان لمقابلة "أبو مصعب" ثم نفهم من تدابيرهما معا أن الأخير قيادي داعشي في لبنان، وأنه يعقد الصفقات السرية مع خالد من أجل "تدمير مصر". لم يذكر اسم لبنان بشكل واضح لكن علمها يرفرف في خلفية أحد المشاهد، ربما لم يرغب صُنّاع الفيلم في تقديم دلالة مباشرة تُثير حنق اللبنانيين فبدا الأمر خفيا ولن يقف عنده المشاهد كثيرا ليتساءل لماذا لبنان بالتحديد؟ لكن اختيار لبنان لتكون معقل داعش في أحداث الفيلم يجعل صورة اللبناني تختلف عن زعامة المافيا الكلاسيكية.

    

   

تائه في أعقاب الحرب

يغلب على الحضور اللبناني في المرحلة الحديثة من السينما المصرية بعض الخفوت، وقد تتبعنا في "ميدان" أثناء حديثنا مع الناقد "رامي عبد الرازق" ملامح هذا الحضور والذي بات ينحصر في "حسناء" لبنانية ورجال مافيا، إذ لم يعد هناك اهتمام بتقديم أفلام ذات طابع غنائي يتم فيها استغلال مطرب لبناني أو أغانٍ لبنانية كما كان الحال في المرحلة الكلاسيكية.

  

يشير رامي في حديثه إلى واحد من الأفلام المنسية "بطل من الجنوب" إنتاج عام 2001 الذي تتصارع فيه كلٌّ من الأم المصرية "نجلاء فتحي" واللبنانية "كارمن لبس" على الحيازة الأمومية لشاب من أبطال الحرب ضد إسرائيل في الجنوب اللبناني قبل التحرير. "بطل من الجنوب" من الأفلام النادرة التي تدور معالجتها الدرامية على خلفية الحرب اللبنانية، وجنوب لبنان هو محور الأحداث. يصفه الكاتب يوسف القعيد بأنه "فيلم مصري يدوِّر على قضية لبنانية"، ويستاءل: ما الرسالة وراء هذا الفيلم في توقيت صدوره تحديدا؟ خاصة وأن الفيلم كتب في بدايته أنه إهداء إلى أبطال الجنوب اللبناني، أي أبناء المقاومة وأصحاب الأيدولوجيا، فبدا الفيلم مغازلة لمقاومة الجنوب وحزب الله دون أن يذكر ذلك بشكل صريح، لكن أيًّا كان توجّهه يرى القعيد أن الفيلم عودة للظهور اللبناني الذي اختفى من الشاشة المصرية منذ بداية الحرب.

 

"بطل من الجنوب" هو آخر أفلام نجلاء فتحي على شاشة السينما، وهو خاتمة غير سعيدة لأن الفيلم -الذي عُرض في مصر باسم "عزيز عيني"- لم يسمع عنه الكثيرون ولا يذكره أحد ولم يحقق النجاح المنشود لأنه اختفى من دور العرض المصرية في ملابسات غامضة، وتصرح نجلاء فتحي بعد سنوات طويلة في أحد الحوارات أنها على ثقة منه أنه كان هناك أيادٍ تسعى لإبعادها خاصة بعد هذا الفيلم. [5]

    

فيلم
فيلم "بطل من الجنوب" أو "عزيز عيني" (مواقع التواصل)

       

لبناني خلف "أعلام الرينبو"

كان ماضي "أمين" يؤرقه، خاصة بعد انتحار صديقه المقرب "عزت" الذي بدّل حياته رأسا على عقب، كانت تربط بينهما صداقة حميمة، وعزت وفق نص الفيلم كان لديه ميول جنسية مغايرة. لم يظهر نور الشريف "أمين" في فيلم "قطة على نار" بأي ميول شاذة، بل إن صديقه هو الذي يُمثّل إيحاءات تثير الشكوك حول ميوله، ولأن دور "الشاذ" مخاطرة يقوم بها أي ممثل مصري لن يقبلها جمهوره، غالبا ما يقع الاختيار على ممثل لبناني ليؤدي هذا الدور، كما الحال مع الممثل اللبناني "شوقي متى"[6] الذي أدّى دور "عزت".

  

يتكرر الأمر في شخصية "هاني برجاس" التي مثّلها اللبناني "عادل كرم" في فيلم "تراب الماس"، وهي شخصية سياسي لديه ميول جنسية شاذة، صدر الفيلم العام الماضي (2018) وهو وقت كسرت فيه السينما المصرية بالفعل فكرة المخاطرة تلك، وأدّى ممثلون مصريون أدوار "المثلية الجنسية"، لكن يعود "تراب الماس" باستعارة ممثل لبناني ليؤدي هذا الدور تحديدا، وهو دور ثانوي وإن كان مؤثرا في أحداث الفيلم. لكن يبقى دائما السؤال: لماذا نستعير ممثلا لبنانيا تحديدا لمثل هذا الدور؟

  

على جهة أخرى لنا وقفة مع الفيلم الكوميدي "عندما يقع الإنسان في مستنقع أفكاره فينتهي به الأمر إلى المهزلة" ومشهد اصطدام "محمد فتحي" بمظاهرة لرجال مثليي الجنس وهي أول شيء يقابله عند نزوله أرض لبنان، وهذا المشهد يعكس بالتأكيد انطباعا ذهنيا مترسّخا يربط بين اللبناني وقضية الهوية الجنسية، ربما لأن وسائل الإعلام ومواقع التواصل مؤخرا أصبحت مرآة المجتمعات إلى العالم بأكمله، وعلى الرغم من تضليل الصورة التي تعكسها هذه المرآة إلى حد بعيد، فإن الأثر الواقعي لها، أدى لانعكاسات تختزل المجتمع اللبناني فيما يظهر على قنواتها الإعلامية، والتي يتكرر فيها بشكل متكرر ظهور المتحولين جنسيا أو المثليين، وربما أكثر من غيرهم من البلدان العربية، مما يعكس هذه الصورة التي يرتبط فيها المثليون بكونهم لبنانيين.

   

الممثل اللبناني
الممثل اللبناني "شوقي متى" في دور "عزت" في مشهد من فيلم "قطة على نار" (مواقع التواصل)

      

ثانيا: الممثل اللبناني من المسرح إلى "الأفيش"

لم يكن الفن هو البوابة الوحيدة التي استقطبت اللبنانيين إلى مصر، بل إن توافد المهاجرين الشوام من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق كان ظاهرة مؤثرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتعود جذورها إلى حكم محمد علي وعلاقاته الوطيدة بحكام الشام، ثم الحدث الأهم وهو افتتاح قناة السويس عام 1869 في عهد الخديوي إسماعيل الذي فتح أبواب توظيف الشوام في مصر،  خاصة أصحاب الثقافة والمتمكّنين من اللغة العربية واللغات الأجنبية. ومع قدومهم إلى مصر ساد الانسجام مع أهلها واختلطت الأنساب وتشعبت روافد الاقتصاد والتجارة والفن أيضا. والبداية مع المسرحيات الغنائية، البوابة السحرية التي انتشرت بها فِرَق لبنان على مسارح المحروسة.

   

أرسى المسرح المصري جذوره في ثقافة المصريين، وبعدها بسنوات قليلة ظهر فن السينما واستعار من المسرح أدواته، وتحديدا الممثلين، تلك الوجوه التي ألفها الجمهور وانطبعت أجسادهم وأصواتهم في الأذهان، وبين عشرات الوجوه المصرية المعروفة كانت الفرق الشامية قد افترشت لنفسها مكانة أيضا بين المصريين، بلهجتهم "الجذابة" وأغانيهم المبهجة، كان هذا في سبعينيات القرن التاسع عشر، حيث الفِرَق المسرحية الشامية -التي ترأسها مارون النقاش، ثم اسكندر فرح، وجورج أبيض- تتلمس طريقها إلى مسارح القاهرة التي كانت هي الأخرى في مراحلها الأولى من التأسيس والانتشار[8]،[9].

  

لكن البدايات اللامعة لم تستمر كثيرا، والظهور اللبناني الكلاسيكي لم يعد كما السابق، وفي استكمال ميدان للحوار مع "رامي عبد الرازق" فإنه يصف ظهور اللبناني في أفلام السنوات العشرين الأخيرة بأنه أقرب لـ "الحيطة المايلة" -بالتعبير المصري الدارج- فكلما ظهر نموذج سلبي نسائي أو رجالي على مستوى الدراما يتم إزاحته بشكل أو بآخر على إحدى الشخصيات اللبنانية في الأفلام خاصة التجاري -المبتذل- منها.

  

لبنان.. البطل والمكان

قديما، لم يشعر المصري بالغربة في علاقته بالفن اللبناني، لأن لغة الفن واحدة وسهلة الامتزاج في الثقافات الشعبية، ولأن الغناء والتمثيل بوابات مشتركة بين البلدين كانت السفن في حراك دائم ذهابا وإيابا لتنقل الفنانين بين البلدين، وامتد الأمر إلى الإنتاج السينمائي المشترك أيضا، وكانت لبنان حاضنة لعدد من الأفلام المصرية التي تدور أحداثها في ربوع بيروت، منها أفلام يوسف وهبي "غرام وانتقام" و"الطريق المستقيم"، وأفلام أخرى مثل "مصري في لبنان" بطولة كمال الشناوي ونور الهدى، و"لبناني في الجامعة" بطولة صباح ومحمد سلمان، و"قبلة في لبنان" بطولة مديحة يسري وأنور وجدي، وكانت قصص الحب والغرام بين الجنسيتين هي محور أحداث تلك الأفلام لتؤكد هذا الخط الواصل بين كلتا الثقافتين. وهنا يمكننا اعتبار بيروت وربوعها بطلا رئيسا في عدد من الأفلام المصرية، والحاضن الأكبر للسينما المصرية.

     

فيلم
فيلم "قبلة في لبنان" بطولة مديحة يسري وأنور وجدي (مواقع التواصل)

      

لبناني بلهجة مصرية

بسبب انتشار الفرق الشامية في مسارح القاهرة قديما لم يواجه الجمهور المصري أي صعوبة في التماهي مع اللهجة اللبنانية، لكنها ذابت بالتدريج في اللهجة المصرية، وتلاشت في مواضع أخرى، وهو ما شكّل أزمة في مساحة تخص الحضور اللبناني وهويته. في حديثه عن أول فيلم لبناني ناطق "بياعة الورد" يطرح الناقد اللبناني إبراهيم العريس لهجة الفيلم كإشكالية تتعارض مع هوية تراث السينما اللبنانية، فالفيلم الذي يؤرّخ كأول فيلم لبناني ناطق مصوّر بالكامل باللهجة المصرية، لكن العريس يجد للأمر تفسيرا يتعلق بالتوزيع ويتعارض مع فكرة الوطنية، والسبب أن مخرج الفيلم اللبناني "علي العريس" رأى أن اللهجة المصرية هي الوحيدة التي تخوّل للفيلم وصوله إلى الأسواق العربية وتوزيعه بشكل جيد، لا لصعوبة اللهجة اللبنانية، بل لانتشار اللهجة المصرية التي أضحت في ذهن الجمهور العربي مرتبطة بأي أعمال سينمائية، ومن زاوية أخرى، لم يفكر علي العريس في ضرورة تمسك الفيلم اللبناني بلهجة أهل بلده، وأن الفن لا يجب أن يقع في أزمة اللهجة تلك، لكن هذه الإشكالية ليست وليدة البدايات فحسب، بل امتدت لفترات لاحقة يُفضّل الناقد إبراهيم العريس تسميتها "ربط السينما اللبنانية بالمشروع السينمائي المصري"[10].

    

ذكرنا سابقا مرحلة احتمى فيها الفنانون المصريون بربوع لبنان، وهو ما فتح أمامهم أفقا جديدا للإنتاج السينمائي المشترك بين أواخر سنوات الخمسينيات وحتى بداية السبعينيات مع انتهاء فترة الحكم الناصري، نتج عنها ضعف المستوى الفني لتلك الأفلام التي رغم كثرة عددها فُقدت في غابة النسيان[11]. يرى المخرج اللبناني هادي زكاك أن فترة الستينيات على وفرة الإنتاج السينمائي المشترك مع مصر، فإن هوية اللهجة في تلك الأفلام ظلت مشوشة ورمادية وبطبيعة الحال غلب عليها اللهجة المصرية خاصة بين أبطال الأفلام، هذا التحكم في هوية اللهجة بهدف تجاري وإنتاجي بحت، فالفيلم باللهجة المصرية يجد فرصا أكبر في التوزيع والانتشار بعكس أي لهجات عربية أخرى حتى لو كان الأبطال مصريين ولبنانيين.

  

لكن إذا نظرنا إلى المستوى الفني لهذه الأفلام يؤكد زكاك أنها لم تكن قوية وذات قيمة فنية مثل الإنتاج السينمائي في مصر، كأن أفلام هذه الفترة أشبه بنزهة خفيفة تقدم سينما بهدف تجاري ترفيهي بحت استغلالا لوجود الفنانين المصريين في لبنان، وهو ما يُفسر غيابها عن الذاكرة الفنية، أنت لا تذكر أسماءهم ولا يعلق في ذاكرتك القصص التي تحكيها، كأنها متعة سريعة وبلا مذاق أحيانا[12]، وهذا يضعنا أمام أفلام ضاعت فيها الشخصية اللبنانية في السياق الدرامي، وأصبحت مجرد شخصيات نعرف أنها لبنانية لكنها تتحدث بغير لهجتها، ومن أشهر الممثلين اللبنانيين المشهورين بلهجتهم المصرية "محمد سلمان"، "سهيل تلحوق"، "جوليا ضو"، والمطربة "صباح"، وغيرهم.

 

"هناك حب متبادل بين المصريين واللبنانيين برهن على نفسه من خلال قيام السينما المصرية بالترحيب بممثلين من لبنان سواء كانوا انتقلوا إلى مصر منذ سنوات بعيدة أو لجأوا إليها من الخمسينيات وصاعدا"

(الناقد محمد رُضا)

  

اللبنانية الأقرب.. صباح
الفنانة صباح (مواقع التواصل)
الفنانة صباح (مواقع التواصل)

    

وعلى أعتاب نهاية التقرير، علينا أن نقف قليلا عند فنانة تمزج بين هويتين، ويصعب أن تحسبها لبنانية دون إغفال صورتها المصرية، إنها الشحرورة صباح. لم تحتج صباح أن تبذل الكثير من الجهد للاقتراب من ذائقة المصريين، حيث ارتبطنا بوجهها السينمائي الهادئ منذ منتصف الأربعينيات الذي مثّل إطلالتها الأولى كبطلة إلى جوار أنور وجدي في فيلم "القلب له واحد"، وكانت تلك اللبنانية المشاكسة تُجيد اللهجة المصرية في التمثيل والغناء لدرجة تكاد تشك معها أنها لبنانية الأصل. يقول الكاتب اللبناني حازم صاغية إذا كانت أسمهان هي الأميرة، وليلى مراد هي السيدة، وشادية هي الابنة القريبة إلى القلب، فإن "صباح" شيء آخر، صباح هي مهنة الغناء.

  

وصف صاغية لصباح بمهنة الغناء لا يحددها في صورة ذهنية معينة كالأخريات من فنانات جيلها، فالغناء متلوّن ومتعدد الأوجه واللهجات، وكذلك صباح، فهي تشبه بابلو بيكاسو الذي رسم كل شيء وتقاطع مع كل مدارس الفن التشكيلي. لا يمكننا إلا الموافقة على نظرة صاغية لصباح، هذه المرأة استطاعت أن تكون مصرية راقية في أغنية "الحلو تقلان ليه"، وريفية لبنانية في "جيب المجِوز يا عبود"، وشعبية في "ع البساطة البساطة"، ووطنية أيضا في مشاركتها بالغناء في الأوبريت الوطني "الوطن الأكبر" احتفالا بالوحدة المصرية-السورية[13]. من جهة أخرى تختلف "صباح" عن "فيروز" في هذا التلون المحبب، فيروز لبنانية بالكامل ولم تتنازل عن الغناء بلهجة غير لهجتها الأم، بعكس صباح وغيرها من اللبنانيين الذين اختاروا تمصير لهجتهم من أجل انتشار أكبر، سواء في التمثيل أو الغناء، وهو ما يعيدنا من جديد إلى إشكالية تمصير اللهجة اللبنانية.

  

في النهاية، وعبر هذه الرحلة الطويلة التي تتبعنا فيها ظهور الشخصية اللبنانية على شاشة السينما المصرية من الجذور وحتى الآن، يمكننا أن نتلمس مواضع القوة والانتشار والإخفاق، ونتأكد أن اللبناني كان له الحضور الأكثر والأهم في ساحة السينما المصرية مقارنةً بالجنسيات الأخرى، وأن الكثير من الوجوه الكلاسيكية إذا فتشنا في أصولهم سنكتشف أنهم لبنانيون، وسنتعجّب لأننا أَلِفْنَاهم كمصريين، ولأن هناك رابطا خفيا وحميما بين المصري واللبناني في مجال الفن. نعم، تغيرت صورة اللبناني عبر السنين، وربما ستتغير أكثر وفق المتغيرات المجتمعية وتقلبات السوق ومتطلباته، لكنها باقية ولها حضور حتى لو أصابه التراجع أو الخفوت أو الاختزال.

المصدر : الجزيرة