شعار قسم ميدان

فيلم "الأيرلندي".. هل يمكننا أن ننتصر على الزمن؟

ميدان - فيلم الأيرلندي
اضغط للاستماع

   

"قبل بداية الفيلم، وربما حتى قبل الانتهاء من قراءة الكتاب الذي يتضمّن اعترافات بطلنا، كان علينا حسم اختيارنا، هل سنتورّط في فخ نظرية المؤامرة، أم أننا سنصنع فيلما عن طبيعتنا كبشر، عن الحب، والخيانة، والذنب، والغفران وعدم الغفران". (1)

 

بهذه الكلمات يُقدّم لنا مارتن سكورسيزي فيلمه الجديد والذي يحمل رقم 25 ضمن الأفلام الروائية الطويلة التي أخرجها سكورسيزي خلال الخمسين عاما الماضية. الفيلم، الذي كتب السيناريو الخاص به "ستيفن زيليان" عن كتاب المحامي والصحفي "تشارلز براندت"، يُقدّم نسخة مثيرة للتأمل لحكاية "جيمي هوفا" الزعيم العمالي الأميركي الشهير، الرجل الذي حظي بشهرة "ألفيس بريسلي" في الخمسينيات، وبشهرة "البيتلز" في الستينيات، ونازع رؤساء أميركا في هذا العصر على لقب الرجل الأقوى والأكثر تأثيرا في الولايات المتحدة، حتى اختفى بشكل غريب للغاية في منتصف السبعينيات، ليظل لغز رحيله أو اغتياله مرتعا للحكايات والخيالات حتى اليوم (2).

     

سكورسيزي لا يتورّط في سرد حكايات المشاهير كما نعلم، يهتم الرجل أكثر بحكايات الحالمين، الذين يبقون في الظل، مَن يتمنّون أن يصبحوا شيئا في يوم ما، وعادة لا يصبحون، والذين يحملون في داخلهم بقايا من روح طيبة، لكنهم يتورّطون في لحظات فارقة تدفعهم في بعض الأحيان للخطيئة الكبرى. سكورسيزي حكّاء خبير، هذه مَلَكة لم يفقدها الرجل عبر الزمان، ولهذا بقي دون غيره من مخرجي جيل السبعينيات كأحد أنجح المخرجين الأميركيين جماهيريا ونقديا حتى اليوم، لكن التحدي الأهم هنا كان في سرد حكاية لم يقبل بإنتاجها أيٌّ من أستوديوهات هوليوود، برغم أن الرجل قد جمع في بطولة فيلمه أهم نجوم جيل السبعينيات، "روبرت دينيرو" و"ألباتشينو" وأضاف إليهم العائد من الاعتزال وصاحب أوسكار أفضل ممثل مساعد من قبل "جو بيشي".

      

روبرت دينيرو ومارتن سكورسيزي وألباتشينو (رويترز)
روبرت دينيرو ومارتن سكورسيزي وألباتشينو (رويترز)

   

تحوّل المشروع في النهاية إلى حقيقة بفضل شبكة "نتفليكس" التي أنتجت الفيلم بميزانية تخطّت 160 مليون دولار أميركي، وأعطت سكورسيزي حرية إبداعية مكتملة لصنع ما يريد، حتى خرج لنا في النهاية ملحمة اقتربت مدتها من ثلاث ساعات ونصف.

   

يبدو سكورسيزي هنا مهتما بالبحث في طبيعة النفس البشرية بشكل خاص، فالرجل الذي كاد أن يكون رجل دين مسيحيا في شبابه، تحوّل مع مرور الزمن إلى واحد من أكثر صانعي السينما تصويرا للمحتوى العنيف، حيث لا تتوقف الدماء ولا يتوقف السباب في معظم أفلامه. لكنه هنا بشكل خاص يبدو، وفي نهاية خريف عمره، أقرب من أي وقت مضى لمحتوى يمكن أن نصفه بـ "التأملي"، حيث تتوقف ضحكات مَن يملكون القوة، ويبقى سؤال وحيد؛ مَن يمكنه الانتصار على الزمن؟

   

عصابات سكورسيزي

يبدأ الفيلم بشكل معتاد لمتابعي عالم أفلام العصابات الخاص بمارتن سكورسيزي، حيث تبدأ الحكاية عادة من نقطة في منتصف القصة، ثم تتداخل عقب ذلك الذكريات مع الأحداث الجديدة، يستخدم سكورسيزي هذه الطريقة في السرد عادة لجذب انتباه مشاهديه، وتوريطهم في مشاهدة نشطة تتطلّب قدرا من التحليل والتفكيك والتركيب.

    

  

ملمح آخر يكرّره سكورسيزي هنا هو الاعتماد على صوت الراوي الذي نشاهد الحكاية من وجهة نظره، وهو في هذه الحالة "فرانك شيران" الذي يقوم بدوره "روبرت دينيرو"، يُقدّم لنا شيران من خلال مونولوج داخلي يصاحب عادة لحظات تعرفنا على شخصية جديدة، معلومات خاطفة عما نراه، تتميز عادة هذه المعلومات بالعملية وحس الفكاهة في آنٍ واحد، وهو أمر مميز أيضا في سينما سكورسيزي.

 

يعتمد سكورسيزي هنا أيضا على تتابعات سينمائية طويلة تصحبنا في هذا العالم، نرى هذا أكثر من مرة، بدءا من مشهد البداية حيث نتعرف على محيط الرجل الذي نشاهد حكايته، ثم يستمر من خلال تتابعات نتلصّص من خلالها على عمله كقاتل محترف، أبرزها تتابع قتل أحد خصومه في مطعم إيطالي صغير، تتابع نصاحب فيه البطل من دون قطعات مونتاجية تقريبا، وصولا لتتابع النهاية الذي تتصاعد فيه الأحداث من خلال عدة مشاهد تصل ببطلنا إلى لحظة الفيلم الأهم.

 

في عالم عصابات سكورسيزي، والذي اشتهر بشكل خاص من خلال فيلمي "جود فيلاز" في عام 1990، و"كازينو" في عام 1995، نشاهد عادة حوارات طويلة بين رجال يملكون المال والسلاح، تنتهي عادة بمشادات عنيفة وحوادث قتل دموي في الكثير من الأحيان، نتيجة دعابة تمت إساءة فهمها، أو موقف شعر أحد هؤلاء الرجال فيه بأنه لم يحظَ بالاحترام الكافي. هنا يتكرّر كل هذا أيضا، فبينما نشاهد أحداثا مؤثرة في تاريخ إحدى أكبر الدول في العالم، يبدو الأمر في تفاصيل صغيرة مبنيا على مشاجرات، تسبّب في أحدها ظهور أحد الأشخاص في اجتماع مهم ببنطال قصير، فيما تسبّب في الأخرى تأخر طرف ما في الرد بالموافقة على حضور أحد الاجتماعات.

 

هؤلاء الرجال الذين لا يتورّعون عن القتل هم في حقيقة الأمر، وخلف كل هذه الأقنعة، مجموعة من الأطفال، تواقون للسلطة ومدمنون على جذب الاهتمام، هذا ما قدّمه لنا سكورسيزي أيضا من قبل، لكن الجديد هنا أن هؤلاء الرجال قد تقدّموا في العمر، ومعهم سكورسيزي أيضا.

 

الجسد لا يرحم

undefined   

"الفارق بين "جودفيلاز" وبين "الأيرلندي" أن عمري حاليا قد تخطى 75 عاما"

مارتن سكورسيزي

 

الجديد في معادلة صنع "الأيرلندي" هو أن سكورسيزي قد أتم 77 عاما بالتمام والكمال منذ أيام، وهذا الفيلم الذي جاء بعد محاولات مستمرة لصنعه طوال عشر سنوات قد جاء معبرا عن هواجس هذا الحكّاء الكبير في خريف عمره، اقترب الشتاء، اقتربت النهاية، ومعها تضاءلت أهمية كل شيء، لم يعد للسطوة والقوة والمال أثر سعيد على أبطاله، الرجال الذين كانوا يُلقون النكات حول موائد الطعام ووسط ضحكات حبيباتهم في "جودفيلاز" يعانون الآن من عواقب أفعالهم في "الأيرلندي".

 

من هنا يأتي التمهّل في إيقاع الفيلم، خصوصا في نصف الساعة الأخيرة، سكورسيزي يترك لأبطاله الفرصة للتفكير على الشاشة، يترك فرصة للصمت في ملء الفراغات، ويعطي بشكل واضح لما لا يُقال قيمته التي تعلو عادة على كل ما يُقال. يُعلي هذا بالتحديد من تجربة المشاهدة السينمائية التي يُقدّمها سكورسيزي، مشاهدة تأتي من معايشة الأبطال، واختبار حيوات أخرى يُتاح لنا أن نعيشها بشكل أكثر تكثيفا في شريط سينمائي مدته قصيرة بالطبع إذا ما قارناها بالزمن الفعلي للأحداث.

 

لم يكبر سكورسيزي وحده، ولكن أبطاله قد كبروا أيضا، نشاهد هنا دينيرو (76 عاما)، وألباتشينو (79 عاما)، وجو بيشي (76 عاما)، هذا الطاقم التمثيلي الذي تجاوز السبعين بأكمله قد عاد من النسيان بشكل حرفي، بين دينيرو وألباتشينو اللذين قاما بأدوار تمثيلية دون المستوى في العقد الأخير، وجو بيشي الذي لم يلمع قط سوى تحت إدارة سكورسيزي. الجسد لا يرحم، تبدو علامات كبر السن واضحة للغاية في حركات وإشارات الأبطال الثلاثة، حتى لو ظهرت وجوههم في سن أصغر بفعل تقنية "تقليل السن" (de- aging)، والتي وفرت لسكورسيزي حلا تقنيا باهظ الثمن ليُغنيه عن اختيار أبطال آخرين للقيام بأدوار هذا الثلاثي في سن أصغر، وهو ما رفضه سكورسيزي بشكل تام.

 

رغم ذلك فإننا نشاهد أداء مميزا من الجميع، دينيرو يقدم أداءه الأفضل منذ "جودفيلاز"، بل إنه يتفوّق على نفسه في نصف الساعة الأخيرة ويُذكّرنا بواحد من أفضل أدواره في "حدث ذات مرة في أميركا" الذي صنعه في منتصف الثمانينيات مع سيرجي ليوني، ألباتشينو يخطف الكاميرا من الجميع بمجرد ظهوره، يُجسّد بشكل مكتمل الحضور الطاغي لجيمي هوفا دون أن يتورّط في تقليده، ويُثبت للجميع أنه ما زال يملك هذه الكاريزما الفريدة من نوعها حتى بعد مرور كل هذه السنين، أما جو بيشي فيظهر رجلا هادئا وعقلانيا ومخيفا، هذا هو الدون الحقيقي في هذه المعالجة، هذا هو الرجل الذي لا تريد أن تتخطاه. التورّط مع هذا الثلاثي طوال الطريق يُعطي للفصل الثالث من الحكاية قيمة أكبر، نتورّط عاطفيا في علاقة الصداقة والحب والولاء بين هؤلاء الرفاق، وهكذا تكتسب النهاية تأثيرها الأعمق. نجح رهان سكورسيزي إذن، حتى لو كانت تقنية "تقليل السن" مزعجة بشكل ما خصوصا في المشاهد الأولى.

   

مَن يعيد لك الرفاق؟

undefined     

"يهوذا هو الخائن الأكبر، بقُبلة سلّم صديقه للأعداء. علم بشكل تام أن خيانته ستؤذي المسيح وتؤلمه. على الرغم من ذلك فقد فعلها، المسيح قد عرف أن يهوذا سيخونه، ولكنه اختار أن تتم خيانته بقُبلة يهوذا، أراد المسيح أن يشعر بألم كل واحد منا تمت خيانته من قِبل حبيب أو صديق مقرب". (3)

   

كلمات الكاتبة الكاثوليكية "إليزابيث فوث" تبدو معبرة تماما عن الفصل الأخير في "الأيرلندي" والذي يبدو الأثر الديني فيه واضحا للغاية على هواجس "مارتن سكورسيزي" الذي صرّح مرارا أن السينما والدين هما ما يُشكّلان حياته. معالجة سكورسيزي هنا متأثرة تماما بمفهوم "الذنب" في الرؤية الكاثوليكية، وهو المفهوم الذي يأتي بموجبه كل البشر إلى الدنيا وقد ارتكبوا الخطيئة الأولى بالفعل بكونهم أبناء آدم. يظهر فرانك شيران/الأيرلندي كرجل مخطئ من البداية، عاد من الحرب العالمية الثانية بعد أن أصبح القتل بالنسبة له أمرا يوميا، ليُكمل ما بدأ كقاتل محترف يعمل تحت إمرة زعيم المافيا الأميركي من أصل إيطالي راسل بوفالينو، والذي يقوم بدوره "جو بيشي"، رغم ذلك يحمل هذا الرجل في داخله بقايا من روح طيبة، هذا صديق حقيقي، مفهوم العنف بالنسبة له مرتبط بشكل أكبر بكونه جنديا يحمي شعبه، وأسرته، وأصدقاءه، ويُنفّذ بشكل حرفي أوامر قادته.

 

يؤكد سكورسيزي هذا من خلال كلمات يكررها شيران كراوٍ أثناء قيامه بعمله: "أصبح الأمر كما كان في الحرب، أنفذ أوامر قادتي ويتم مكافأتي عقب ذلك"، هذه الرؤية هي ما شكّلت هذا العصر في عقل سكورسيزي، العصر الذي تم خلاله اغتيال مارتن لوثر كينج، ثم الرئيس الأميركي جون كينيدي، وأخيرا اختفاء جيمي هوفا. العنف هو الحل، والعِرقيات والأُسر والأحزاب تملك جنودا يُنفّذون دون تفكير. الخطيئة تسيطر على الجميع، وهكذا يصبح الشعور بالذنب هو العدو الأهم كلما مر الزمان.

  

لا أحد

undefined

  

"لقد فهمت أنك أخ لي"

   

بهذه الكلمات يختار مارتن سكورسيزي أن يصنع التواصل الأول بين "فرانك شيران" و"جيمي هوفا"، تواصل يتم عبر الهاتف، ليدفعنا سكورسيزي لمشاهدة ملامح وجه شيران/الأيرلندي لمجرد سماعه صوت هوفا حتى قبل أن يراه، تستمر الرحلة مع شيران، هذه هي الشخصية التي يقرر سكورسيزي أن يدرسها في هذه الرحلة، تماما بالقدر نفسه من التعمّق الذي درس به من قبل "ترافيس بيكل" في "سائق التاكسي"، أو "جاك لاموتا" في "الثور الهائج". الدافع الأبرز لاختيار "ألباتشينو" في دور "هوفا" هنا، ورغم عدم تشابهم الجسدي، أن سكورسيزي أراد أن يصنع الاختيار الأكثر ملاءمة لتصوير صداقة حقيقية على الشاشة، وهو ما نشاهده بشكل صادق وملموس للغاية بين شيران/دينيرو وهوفا/باتشينو هنا.

  

كل هذا يدفع في مسار اكتمال مسيرة شيران/الأيرلندي، بعد عبوره النقطة التي ستتغير معها حياته للأبد، ولكن عوضا عن الصدمات السريعة، يُقدّم سكورسيزي هنا، وبشكل قد يكون مغايرا لكل ما قدّمه لنا من قبل، لحنا هادئا وحزينا لطلب الغفران في نصف الساعة الأخيرة، اللحن الذي يصل في النهاية لدار مسنين كاثوليكي، يردد داخله بطلنا: "سامحني يا ربي لأني أخطأت، أتيتك حزينا ومعتذرا"، يطلب الرجل الغفران أخيرا من الإله، بعد أن أدرك أنه لن يأتي ممّن فقدهم.

  

في الثواني الأخيرة من الفيلم يبدو العالم فارغا من حول بطلنا، لا أحد يمكنه أن يهزم الزمن، يبدو تكنيك سكورسيزي في تثبيت الكاميرا حول أبطاله طوال الفيلم وإخبارنا بزمن وطريقة موتهم الدموي ذا أهمية، منذ البداية أخبرنا سكورسيزي أن كل هؤلاء سيخسرون في النهاية. يبدو اختيار "الأيرلندي" لعمله على أسرته وأصدقائه ندمه الأكبر، يتوسل بلا طائل للحصول على بعض الكلمات منهم، ويختتم رحلته بكادر بعيد ومظلم، وطلب بعدم غلق باب غرفته بشكل كامل، كي يبقى منفذا للضوء والهواء، وربما مغفرة الرب.

المصدر : الجزيرة