شعار قسم ميدان

"The Pursuit of Happyness".. وهم السعي إلى السعادة بالوظيفة

ميدان - "The Pursuit of Happyness".. وهم السعي إلى السعادة بالوظيفة
اضغط للاستماع

    

لم يعرف أنه اليوم الذي سيغيِّر حياته إلى الأبد، إذ دعاه مديروه في العمل إلى اجتماع غير متوقَّع، وأخبروه أن فترة تمرينه بالبورصة انتهت وأنه أصبح الآن مؤهلا للعمل؛ "كريس، لقد حصلت على الوظيفة". اغرورقت عيناه بالدموع فلم يمنعها، ربما يصف كريس شعوره بأكثر من السعادة، إنها اللحظة التي ننتظرها جميعا ليصل بطل الفيلم بعد عام من العناء والصعوبات إلى عتبات حلمه بالسعادة الأبدية. إذا كنت من محبي فيلم "السعي للسعادة" (The Pursuit of Happyness) فيؤسفني إخبارك أن ما أنت بصدد قراءته في الكلمات القادمة قد يزعجك قليلا، لأن كل السعادة التي يرنو لها هذا الفيلم مزيفة وخادعة.

  

"السعادة = المال. المزيد من الدعاية الرأسمالية، لا تُضيِّع وقتك في مشاهدة هذا الفيلم"

(من آراء الجمهور على "metacritic")

  

undefined       

أحداث الفيلم مستوحاة من قصة حقيقية لرجل الأعمال الأميركي كريستوفر جاردنر[1]، تحديدا في مرحلة فارقة في حياته -في ثمانينيات القرن العشرين- عندما حاصرته ديون الضرائب وفقد أمواله وبيته وفقد أيضا زوجته بعد تخليها عنه لعثراته المادية المتتالية، فأصبح مشردا في طرقات المدينة بلا مأوى هو وابنه الصغير. لم يبقَ أمام كريس سوى أمل وحيد، أن يحصل على وظيفة عمل في البورصة، تلك الوظيفة البراقة التي تَعِدُه بدخل شهري مُغرٍ وسيارة حديثة وابتسامة كبيرة على الوجه. يمضي كريس في طريقه وراء الحلم الذي يَعِدُه بالسعادة المشتهاة، لكن طريقه محفوفة بالعثرات وخيبات الأمل، ولأن نهاية فيلم كهذا يجب أن تكون سعيدة؛ يحصل كريس على الوظيفة كما ذكرنا آنفا.

  

يترك الفيلم بارقة أمل في نفوس الكثير من محبيه، عليك أن تلتفت لحلمك ولا تكترث لإحباطات الآخرين، اسعَ في عملك، ونم في الطرقات، وتلفّح بالأوهام، وعانِ بشدة لو أمكن، ففي النهاية ستصبح سعيدا. تبدو أمورا منطقية في عصر تقترن فيه السعادة بالمال فحسب، لكن الأمور لا تسير بهذه البساطة، بل تضعنا أمام معضلة شديدة الإرباك، هل سبل المعاناة وحدها ما تضمن لنا السعادة الأبدية؟ وما تعريفنا للسعادة؟

      undefined

  

"قصة متوقعة تخبرك كيف تأكل من القمامة دون أن تتذمر في نهاية الأمر"

   

الجنة الموعودة

يبيع كريس ماسحات ضوئية طبية، إنها مصدر رزقه الوحيد، يكفيه شهريا بيع اثنتين منها ليغطي احتياجاته المادية، لكن الحال لا تسير دائما كما يحلم، والشهور تمر عليه بدون بيع ماسحة واحدة. تتغير حياة كريس عندما يلتقي مصادفة بغريب في الشارع، رجل أميركي في عمره نفسه، أبيض بالتأكيد، يرتدي بذلة أنيقة وسيارة فارهة وعلى وجهه ابتسامة سعيدة يفتقدها كريس منذ شهور، يسأل كريس ذلك الغريب: "ماذا تعمل لتحصل على كل هذا؟"، فأجابه أنه يعمل سمسارا في البورصة، وظيفة سهلة للغاية لا تتطلّب حتى شهادة جامعية، تحتاج فقط إلى أن تتقن الحساب ومهارة التعامل مع الناس. في هذه اللحظة، وبدافع الحسد، أدرك كريس أن كل مَن حوله سعداء إلا هو، وأنه بحاجة إلى هذه المهنة ليصبح ثريا وبالتبعية سيصبح سعيدا، وهو ما نترجمه ببساطة لوقوف على حافة الحلم الرأسمالي، أو كما يقول الفيلسوف الإيطالي آلان دو بوتون إنه الشعور بأننا في ظل ظروف مختلفة كان من الممكن أن نكون شيئا آخر غير ما نحن عليه، فيتولّد بداخلنا القلق والنقمة[2].

  

هذا المشهد نقطة تحوّل درامية في حياة كريس، ولها مردودها أيضا على المشاهد لأنها خادعة وتضعنا دون أن ننتبه إلى تلخيص مفهوم السعادة في سيارة وبذلة وابتسامة، هل هذه هي السعادة حقا يا كريس؟ السعادة شعور واختيار شخصي، ما يجعلك سعيدا لا يجعلني بالضرورة سعيدا، الأمر أبسط من أن نلخصه فقط في الركض وراء المال. كلنا نرى أن الناس الذين يُصنِّفهم المجتمع بالسعادة لديهم كل شيء، لكنهم في الحقيقة ما زالوا غير سعداء، كما أن هناك أشخاصا لديهم القليل جدا ويبدو أنهم من أسعد الأشخاص الذين قابلتهم على الإطلاق.

   

لا حديث هنا عن الصحة أو التعليم أو نيل أي قدر من الأمان، لكن سيارة فارهة وبذلة أنيقة هي الهدف الأسمى الذي يرنو له الفرد في ظل ظروف اقتصادية طاحنة
لا حديث هنا عن الصحة أو التعليم أو نيل أي قدر من الأمان، لكن سيارة فارهة وبذلة أنيقة هي الهدف الأسمى الذي يرنو له الفرد في ظل ظروف اقتصادية طاحنة
  

كانت ولا تزال السعادة هي المطلب الذي تبحث عنه الثقافة البرجوازية، لا مجال هنا للحديث عن السعادة الروحية، بل السعادة المادية كبديل. أن تكون سعيدا يعني أن تحقق رغباتك واحتياجاتك المادية، علاقة عليّة تضع السعادة كنتيجة حتمية للإشباع المادي وبدونها ستظل تعيسا لا قيمة حقيقية لك[3].

  

لم يلتفت كريس إلى أن الابتسامات المرسومة على وجوه الناس في الشوارع محض سعادة روبوتية مزيفة، هم في الحقيقة ليسوا سعداء، لكن انغماسه في مشكلاته ضيّق عليه الخناق وشعر بطريقة زائفة أن كل مَن حوله أكثر سعادة ورفاهية منه. تتماس أزمات كريس المادية مع أزمات الولايات المتحدة الأميركية في تلك الفترة بالتحديد، بداية الثمانينيات من القرن العشرين، في واحد من مشاهد الفيلم يلعب كريس بمكعب روبيك محاولا حلّه بينما التلفاز أمامه يعرض نشرة الأخبار التي تعلن أن البلاد تمر بأزمة اقتصادية وتواجه عجزا في ميزانيتها لم تشهده منذ سنوات طويلة، يخبر مذيع النشرة المواطنين: "اذهبوا إلى العمل وغيّروا الأحوال". الأموال هي مرفؤك الهانئ للنجاة، وكل ما تحتاج إليه أن ترضى بالمعاناة مع ابتسامة كبيرة سعيدة وقدر كبير من الذكاء، وحذاء قوي يتحمل معك شقاء السعي[4].

  

لا حديث هنا عن الصحة أو التعليم أو نيل أي قدر من الأمان، لكن سيارة فارهة وبذلة أنيقة هي الهدف الأسمى الذي يرنو له الفرد في ظل ظروف اقتصادية طاحنة.

   

كيف نجحت يا كريس؟

ما ينطبع في ذاكرتنا من الفيلم هو لحظات متفرّقة من التوتر والقلق والركض من هنا إلى هناك، السعي الدائم محفوف بكلمات تحفيزية، ثم يحصل كريس على الوظيفة، هكذا انتهى كل شيء، لكن كيف وصلت إلى مبتغاك يا كريس؟ كيف تقدمت في فترة تدريبك في البورصة وأنت لا تفقه شيئا في هذا المجال؟ لم يُجبنا الفيلم عن أسئلة كهذه، ربما لأنه غير منشغل بالطريقة، بل إن جلّ اهتمامه فقط في إبقاء شعلة التوتر مشتعلة حتى النهاية، على المشاهد أن يشعر أن حياته هو أيضا على المحك وأن البطل عليه أن يصل إلى مبتغاه ليشعر بالتطهير، لكنه لن يفهم في النهاية كيف نجح كريس بعد ساعات طويلة من الركض[5]. الكثير من الأسئلة أطرحها هنا في السطور لأنه لا توجد إجابات شافية يخبرنا بها الفيلم.

     

  

"من المفترض أن نكون جميعا سعداء ونشعر بالرضا لأن شخصا واحدا كان محظوظا وخرج من الفقر"[6]

  

كريستوفر جاردنر (مواقع التواصل)
كريستوفر جاردنر (مواقع التواصل)

     

السعادة مسكن البسطاء

نظّم عدد من المدن الأميركية عروضا سينمائية مجانية للمشرّدين ليشاهدوا الفيلم، لا تستهدف هذه العروض ترفيه هؤلاء المشردين، لكنها تمنحهم عظة حياتية يمكنها إلهامهم لتحسين حياتهم للأفضل. يأتي هنا سحر السينما في إسقاط كل أهدافنا على أكتاف البطل الذي نرى مستقبلنا فيه وخلاصه الشخصي يصبح انعكاسا لخلاصنا الذي نرجوه، وحصوله على وظيفة ووصوله للسعادة هو جرعة أمل جديدة تخبرنا أن السعادة لها طرق ممكنة في المجتمعات الرأسمالية، ولو كنت أميركيا من أصل أفريقي -مثل البطل كريس- فإن أمامك فرصة تعتمد على الحظ لتصبح سعيدا، لكن ماذا عن غير المحظوظين؟ في مقال لها في واشنطن بوست تطرح جوان لورير نظرتها في أن الرأسمالية الأميركية في فترة سابقة أكثر ثباتا وثقة كانت تشجع فئات مجتمعية من المهاجرين والطبقة العاملة والأقليات ليحسّنوا ظروفهم، لكن الآن، وتزامنا مع الفيلم، فإن المساعي الفردية هي الحل الوحيد، شخص واحد في الألف يملك نصيبا وافرا من الحظ يستطيع فقط أن ينجو في نهاية المطاف، أما البقية فسيبقون فقراء ومشردين في الشوارع يحملون أبناءهم على أعتاقهم[7].

  

يُستَلهم الفيلم من كتاب "السعي للسعادة" (The Pursuit of Happyness) الذي يروي فيه سيرة نجاحه، والعنوان استلهمه من إعلان الاستقلال الأميركي الذي أصدره الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جيفرسون عام 1776 ويجعل السعي فعلا مصاحبا للسعادة، السعادة لا تأتينا، بل نبحث عنها، لأنها بعيدة المنال، وهو ما يدفع بطل الفيلم كريس للتفكير، عليه أن يبحث عنها لأنها لن تأتيه بسهولة، وهو ما يحطم آمال البسطاء في أي نيل للسعادة.

    

كتاب
كتاب "السعي للسعادة" (مواقع التواصل)

   

كي لا نظلم كريس كثيرا علينا أن نفكّر أن حياته أصبحت أفضل الآن بعد أن حصل على الوظيفة، ودعونا نفصل شخصية كريس الحقيقية عن الشخصية الدرامية، خاصة أن الأخير واجه الكثير من الصعاب التي لم يواجهها كريس الحقيقي. بالعودة إلى بطل الفيلم، هل حالته النفسية أصبحت أكثر سعادة الآن؟

   

دعونا نتفق أن السعادة ليست من السمات المصاحبة للموظفين في أي مكان في العالم، الكثير من الوظائف تُقدِّم مردودا ماديا ووضعا اجتماعيا جيدا لكن لها انعكاساتها النفسية السلبية، وأصبح الناس لا يبحثون عن الثراء بقدر ما يبحثون عن المزيد من العمل والمزيد من الظهور بمظهر الشخص المحب للعمل، وكل ذلك على حساب حياتهم الاجتماعية والنفسية[8].

    

يعلّمنا الفيلم أن العمل الجاد يؤتي ثماره. عندما نحتاج إلى شيء ما أو نريده، فعلينا أن نعمل من أجله، الحياة لا تعطينا الكثير من النشرات المجانية. كلها أمور جيدة لا اختلاف عليها، لكنها تحصر المفاهيم الحياتية في قوالب وتطلب منا أن نحمل مشاعر شخصية إلى أمور مادية قد لا تعنينا. يمكنني أن أكون ميسور الحال وأعاني من بعض العثرات المادية لكني متصالح مع حياتي وسعادتي الشخصية، لكن يأتي كريس الذي تغريه الحياة غير البسيطة فأصبح ناقما على ما أملك، لأن كريس الباحث عن السعادة يخبرني أنها هناك في مكان آخر بعيد المنال. اجتهد في عملك، وتطلّع إلى حياة أفضل، لكن لا تربط سعادتك بابتسامة زائفة يحلم بها أحدهم طالما أنها ليست حلمك الشخصي.