شعار قسم ميدان

سينما ألفونسو كوارون.. رحلة الإنسان الدائمة نحو معالجة جروحه وآلامه

76th Golden Globe Awards - Photo Room - Beverly Hills, California, U.S., January 6, 2019 Alfonso Cuaron poses backstage with his Best Director - Motion Picture and Best Motion Picture - Foreign Language for

تحمل كل قصة الخطوط العريضة نفسها: يتصدع العالم كما نعرفه من حولنا، تبدأ الشقوق في الظهور، ونعلم أنه على وشك الانهيار، وحينها، لا يكون ثمة خيار أمامنا سوى الرحيل، نحزم الماضي والذكريات ونذهب في رحلة إلى المجهول. عند كل منعطف تواجهنا الصعاب، لا تختفي عقبة حتى تظهر أخرى، لكن لا بد من المُضي قُدما، فلا سبيل للرجوع. تقطع أطياف خيّرة لأشخاص طيبين رحلتنا من آن لآخر، نعيش معهم بعض الوقت ويصيروا لنا أصدقاء، وبالمثل نصادف أشخاصا ليسوا طيبين تماما يصبحون ضمن العقبات. لكننا في النهاية، وبعد متاعب كثيرة، نصل لأرض آمنة من جديد، ننتمي إليها ونؤسس فوقها عالمنا مرة أخرى، لنكتشف أن الرحلة غيرتنا، والتجربة جعلت منّا أشخاصا أكثر نضجا ووعيا بالحياة.

  

تلك هي الخطوط العريضة لما أسماه عالم الأساطير جوزيف كامبل في كتابه "البطل ذو الألف وجه" برحلة البطل، والتي تعد وفقا لكامبل العمود الفقري والخط الأساسي لأي قصة أو حكاية أو أسطورة.[1] لكن رحلة البطل تلك لا تتحقق بشكل حرفي في كل قصة، فأحيانا، لا يقع فضاء الرحلة في العالم الخارجي، بل يختبئ داخل الذات. وعوضا عن أن ننطلق في أراضٍ جديدة نواجه خلالها أشرارا ووحوشا، تتخذ الرحلة طريقها داخل أنفسنا، بأشرارها ووحوشها التي لا تقل ضراوة عن أشرار ووحوش العالم الخارجي. في أفلام المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، الحائز على الأوسكار عام 2014 عن فيلمه "الجاذبية" (Gravity) والمرشح لأوسكار ثانية هذا العام عن فيلمه "روما"، تتضافر الرحلتان، تلك التي تقع خارج النفس وتلك التي تقع داخلها، ليصيرا وجهين لطريق واحد تقطعه الشخصيات، بعضها في سبيل استكشاف الذات والعالم، وبعضها هربا من وطأة الآلام والمآسي التي رماها بهم هذا العالم.

  

"الوجود ليس إلا تجربة مشتركة من الوحدة"

يسكن أبطال كوارون فضاءات وحيدة، عالمهم المألوف يتصدع من حولهم، وليس هنالك ما يدلهم على أي وجهة يتخذونها ليصلوا للأمان من جديد. الأبطال في فيلمه المكسيكي "وأمك أيضا" يخوضون رحلة بمعناها الحرفي والمجازي، فالمراهقان توشيت وخوليو يغويان لويزا، السيدة الثلاثينية، لتذهب معهما لشاطئ لا وجود له، طمعا في تجربة جنسية استثنائية، دون أن يعرفا أنها نفسها تسعى للشيء ذاته، انتقاما من زوجها على خيانته. تتشابك الأهداف الثلاثة في رحلة على الطريق نفسه، لكن وراءها، تتفرع طرق أخرى يصير على كل من الثلاثة أن يسلكها وحيدا: توشيت وخوليو لعالم الرجولة بعد أن يسلبهما اكتشاف الأكاذيب التي ظلا يحيطان نفسيهما بها ما كانا يواجهان به الحياة من لهو المراهقة العابر، ولويزا في استكشاف ذاتها وما تريد من الحياة التي صار عليها أن تواجهها دون أحد.

  

الفيلم المكسيكي
الفيلم المكسيكي "وأمك أيضا" (مواقع التواصل)

  

وفي فيلمه "أبناء الرجال"، يتحول انهيار العالم من مجاز لواقع، فيصاب البشر بعقم غير معروف السبب، الحضارة في كل مكان انهارت، ولم تبق سوى بريطانيا صامدة، لكنها أبعد ما تكون عن مرفأ آمن لمن تمكنوا من النجاة، فتوصد حدودها دونهم، وتحبس من يتسللون إليها في أقفاص. وفي أنقاض الوجود تلك، تضع الحياة في طريق ثيو، بطل الفيلم، أول امرأة حبلى منذ 18 عاما، ويكون عليه أن يوصلها للأمان. يقطع ثيو تلك الرحلة وسط الأسلحة والنيران في مساحات يسيطر عليها العنف والدمار والموت، وفي داخله، يجتاز رحلة موازية تنتشر على طولها آلام الفقد، لكنه يخوضها رغم كل هذا بحثا عن الخلاص؛ هو لم يستطع أن ينقذ ابنه من الموت منذ عشرين عاما، واليوم، يحاول أن يعطي الفرصة للحياة لمن سيصير آخر طفل يولد على وجه الأرض والأمل الوحيد للبشرية في النجاة.

  

 

كما تخوض راين رحلة مزدوجة أيضا في فيلم "الجاذبية"، فبعد أن دُمرت سفينتها الفضائية، تجد نفسها وحيدة في الفضاء الذي يُشكّل من حولها مساحة معادية، فيُلقي في طريقها بصخور عملاقة أصغرها قادر على الفتك بها. تصير حينها رحلتها في الفضاء رحلة تحاول خلالها العودة للأرض مرة أخرى؛ لكنها قبل ذلك رحلة إلى داخل ذاتها تحاول عبرها إيجاد إرادتها للحياة من جديد، فقد ظلت راين تطفو في الوجود بلا وجهة أو إرادة أو هدف بعد أن سلبها موت ابنتها الوحيدة رغبتها في العيش، والآن، صار إيجاد تلك الإرادة الشيء الوحيد الذي سيساعدها على النجاة.[2]

 

وفي نهاية كل تلك الرحلات، يضع كوارون أبطاله في وسيط مائي؛ فتصل الشخصيات الثلاث في "وأمك أيضا" لشاطئ البحر، ويوصل ثيو الفتاة ورضيعها لقوات الإنقاذ عبر مركب صغير، وتعود راين للأرض فتهبط أول ما تهبط في بحيرة صغيرة. إن الماء هنا يغسل الشخصيات من آلامها، ويُعمّد انبعاثهم الجديد في الحياة بعد أن أصقلتهم التجربة وأنضجتهم الرحلة.

  

الماء في أفلام ألفونسو كوارون يغسل الشخصيات من آلامها، ويُعمّد انبعاثهم الجديد في الحياة بعد أن أصقلتهم التجربة وأنضجتهم الرحلة
الماء في أفلام ألفونسو كوارون يغسل الشخصيات من آلامها، ويُعمّد انبعاثهم الجديد في الحياة بعد أن أصقلتهم التجربة وأنضجتهم الرحلة
  

يقول ألفونسو كوارون عن هذا: "الحياة شيء عابر، إنها أيضا مجموع خبراتنا الذاتية، هنالك أشياء لا نستطيع التحكم فيها، أشياء تقع خارج نطاق سيطرتنا، ففي النهاية، الوجود ليس إلا تجربة مشتركة من الوحدة. كلنا نخوض فترات من اليأس، نشعر خلالها أننا نطفو في الفراغ، بلا أي أرض نستند إليها. المشكلة حينها أننا نكون ضحايا لثباتنا الداخلي، للطريقة التي نفعل بها كل شيء بجمود، علينا أن نتعلم أن نغير هذه الحالة من الثبات إن أردنا أن نغير أي شيء على الإطلاق".[3] فقط بالتمرد على الثبات إذن، واتخاذ أول خطوة في طريق الرحلة، نستطيع أن نأخذ مصيرنا في اتجاهات أخرى.

 

أما بالنسبة لحياة ألفونسو كوارون الشخصية، فقد وضعت الحياة بالصعاب في طريقه وهو في سن صغيرة جدا. فبعد أن انهار عالمه الطفولي البريء بهجر والده له ولأسرته الصغيرة، صار على كوارون أن يتعامل مع آلام الفقد والهجر.[4] لا أحد يتجاوز مثل هذا الألم تماما، لكنه يتعلم كيف يتعايش معه، وهذا ما فعله كوارون، فتخطى هذه الفترة الأليمة من حياته ومضى قُدما، لكن ظلت آثارها تعيش في داخله وتنطبع في أفلامه. فكان أبطال ثلاثة من هذه الأفلام، "الأميرة الصغيرة" و"توقعات عظيمة" و"هاري بوتر وسجين الأزبكان"، أطفالا يتامى يواجهون قسوة العالم بمفردهم، وفي أفلامه اللاحقة مثل "أبناء الرجال" و"الجاذبية"، يتحول الفقد فيصير من نصيب الآباء، فيموت ابن ثيو وابنة رايان ويتزلزل عالمهم بعنف جرّاء ذلك. أما في فيلمه الذاتي "روما"، نجد الفقد مزدوجا، فيرحل رب الأسرة كما فعل أبوه، ويموت جنين كليو خادمة الأطفال وأمهم الروحية قبل أن يتسنى له استنشاق أول نفس في الحياة.

  

العالم حول الرحلة

لا تقتصر أفلام كوارون حول الرحلات الشخصية التي يخوضها أبطاله في الحياة، فعلى حواشي الصورة، يتسلل العالم الخارجي من حولهم بكل ما يحفل به من ظلم وألم ومآسٍ. يجد خوليو وتوشيت في "وأمك أيضا" صعوبة للوصول لإحدى الحفلات، يظنون أن المظاهرات ضد النظام تعرقل الطريق كالعادة، لكن ما حدث في ذلك اليوم هو أن اصطدمت سيارة مسرعة بعامل بسيط في أثناء ذهابه للعمل؛ كان من الممكن أن يسير على جسر المُشاة، لكن ذلك كان سيؤخرّه عشر دقائق عن موعد الدوام. وفي طريقهم للشاطئ مع لويزا، ينعطف بهم الطريق ويمرون بقرى صغيرة لم يكونوا هم كأبناء للعاصمة ليتخيلوا ما تعانيه من فقر وعوز وحاجة، رغم أن ليو، خادمة أسرة توشيت (ليست ليو التي تظهر في أحد المشاهد سوى "ليبو" نفسها، مربية كوارون التي صنع فيلم "روما"عنها) تأتي منها. وعند وصولهم للشاطئ، ويقابلون صيادا بسيطا وأسرته، يصطحب الصياد السياح حول المنطقة، لكن الرأسمالية المتصاعدة في المكسيك ستُفقده عمله بعد عامين، فحينها سيفتح فندق ضخم أبوابه على الشاطئ، ما سيضطره للعمل بوّابا هاجرا للأبد حرية الصيد والماء.[5]

   undefined

  

يستخدم كوارون اللقطات الواسعة ليصوّر العالم من حول شخصياته الثلاث، والواقع الذي يحيط بهم ويتجاوزهم، لكنه يظل يحدد جزءا كبيرا من طبيعة العلاقة بينهم. فبينما يأتي توشيت من أسرة ثرية لوالد يعمل سياسيّا بارزا، فخوليو ليس إلا ابن لامرأة من الطبقة العاملة. يجعل هذا الفارق الطبقي التوتر يحوم تحت سطح صداقة الفتيين التي تبدو في البداية مثالية، لكنه لا يلبث أن يتكشّف عندما تجد الخلافات طريقها بينهم. يكشف لنا كل هذا التعليق الصوتي (voice over) الذي يمدنا بالسياق الأكبر للأحداث، ويكشف لنا ما يحيط به من ظروف وتقلبات. فيترك الفيلم بطليه على أبواب عالم النضج في الجامعة، والبلاد في أول تجربة ديمقراطية لها في الوقت نفسه، يقول كوارون عن هذا: "كنت أنا وكارلوس (أخو كوارون وشريكه في كتابة الفيلم) متفقين أن هذا الفيلم سيكون عن بلوغ خوليو وتينوش سن الرشد وبالدرجة نفسها عن بلوغ البلاد سن الرشد".[6]

  

أما في "أبناء الرجال"، وبالرغم من وقوع أحداثه في مُستقبل مُتخيّل، فإن تصوير كوارون لذلك المستقبل عام 2006 حين إطلاق الفيلم يبقى أقرب شيء لحاضرنا اليوم. ففي بريطانيا حيث تقع الأحداث، تسري البارانويا والاضطهاد المبالغ فيه للاجئين من بلاد العالم الأخرى التي أصابها الدمار. وتُذكّرنا المعاملة غير الإنسانية لأولئك الضحايا ببريطانيا اليوم، التي أيضا تحاول إغلاق حدودها على نفسها دون المهاجرين واللاجئين من بلاد يمزقها الفقر والحرب، والولايات المتحدة حيث يسعى ترامب لبناء جدار عازل يفصل بلاده عن جيرانها الفقراء من أميركا الجنوبية، وحدود مطاراتها التي تُرحّل من لم يدخلوا إليها بشكل قانوني عنوة، مفرقة بينهم وبين أسرهم، هادمة للحياة التي ظلوا لسنوات يشيدونها. وقد جاءت مشاهد العنف والدمار بالدرجة نفسها من الواقعية، وكأنها جزء من تقرير صحفي عن بلاد العالم المنكوبة التي دمرتها الحرب، كالعراق حينها، وسوريا اليوم. يصوّر كوارون كل هذا عبر كاميرا محمولة، ليدخلنا في قلب الحدث، ويجعلنا نشاطر شخصياته شعورها بالخطر والخوف والنبذ. ومما يستحق الذكر أيضا أن فكرة اقتباس رواية "أبناء الرجال" جاءت لكوارون أول ما جاءت في أعقاب أحداث سبتمبر/أيلول 2001، ما يدل على قدرته الفائقة على استشراف المستقبل من حيث يقف في الحاضر.

   

فيلم
فيلم "أبناء الرجال" (مواقع التواصل)

 

هكذا تمتزج الذات بالعالم في أفلام كوارون، فيتمكّن من أخذنا لقلب شخصياته، ويصنع لنا صورة واقعية عن الواقع من حولهم في الآن نفسه، دون أن يشعر المُشاهد قط أن كوارون يقحم الأشياء في غير موضعها، أو أنه يلجأ للخطابية أو المباشرة، يقول كوارون عن هذا: "أحاول دائما أن أجعل الشخصية والسياق في الدرجة نفسها من الأهمية، بحيث يغذي الواحد منهما الآخر، ويصبح الفيلم عبارة عن قصتين متوازيتين يقعان على خلفية ثيمة واحدة. جزء كبير من بحثي أثناء صناعة الفيلم هو عن كيف أوصل هذه الثيمة دون مباشرة، دون أن أجعلها تظهر بوضوح، أن أعبّر عنها وأجعل المشاهد يشعر بها دون كلام". [7]