شعار قسم ميدان

"Spirited Away".. كيف يفقد الإنسان هويته في عصر الاستهلاك؟

ميدان - فيلم المخطوفة

"للحياة في المدينة

على المرء أن يمتلك نقودا

حتى لإذابة الثلج"

(قصيدة هايكو للشاعر الياباني إيسا)

 

لم يكن ذلك النهار غائما أو ينذر بشر، والفتاة "تشيهيرو" التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها خاضت رغما عنها رحلة انتقالية مع أبويها لبيت جديد وحياة جديدة، والرحلة لها قوانينها ومسافة لا تقطع على مهل. في منتصف الطريق اعترضتهم بوابة عريقة وسحرية ودون أي مجهود جذبتهم للعبور خلالها تاركين وراءهم السيارة وعناء الطريق والابنة المتذمرة طوال الوقت. كانت كأرض الأحلام لكنها خاوية على عروشها إلا من زقاق تتراص فيه مطاعم تفوح منها روائح أكل شهي يبحث عن زبائن، تقدم الأبوان متلهفين واغترفا الأطعمة الطازجة التي تبحث عن أفواه تلتهمها، والابنة لا تزال تفكر في الطريق والعودة من جديد، كانت تلاحقهما متأففة وتركتهما يأكلان بشراهة، لكنها عندما التفتت وجدت أبويها قد تحوّلا إلى خنازير مقززة تلتهم الأكل دون شبع، وتشيهيرو أصبحت في ورطة لا تستطيع الرجوع ولا إنقاذ أهلها الذين فقدا للتو هويتهم، والعالم من حولها أصبح أكثر شراسة ولا يمكن مواجهته.

  

يبدو أننا الآن أمام بطلة تخوض عراكا شرسا مع السحر الذي دمر حياتها رأسا على عقب، لكننا على مدار ساعتين هما مدة فيلم الأنيمي "Spirited Away" ننتقل مع "تشيهيرو" في العالم العجائبي الجديد الذي ساقها القدر إليه، لكننا نجدها مجرد فتاة عادية، متذمرة، هشّة، ضعيفة البنيان، بل ومنساقة تماما لقدرها الجديد رغم استماتتها في السعي للهروب من هذا الكابوس المزعج؛ يقول هاياو ميازاكي كاتب ومخرج الفيلم إنها "مجرد فتاة يمكنك مقابلتها في أي مكان في اليابان"[1].

   

  

اختار ميازاكي اللعب بالرموز، أن تكون بطلته إسقاطا على أي فتاة يابانية في عمرها نفسه، واختار أن يحوّل أبويها إلى خنازير لأنه يرى أن سلوكنا كبشر يشبه سلوك الخنازير[2]، واختار أن يأخذها في رحلة تيه في عالم سحري تحكمه المادة ليخبرنا أننا أصبحنا أجسادا ثقيلة تهيم بلا روح، كلها أمور تجعلنا نعيد النظر في الفيلم من جديد وفي ما يحمله من رموز تختزن في جعبتها معاني كثيرة تفسر لنا العالم كما يراه هاياو ميازاكي.

  

"أنا أقوم بصناعة الأفلام لأنني قادر على مراقبة الآخرين، الأشخاص الحقيقيين في هذا العالم"

(ميازاكي)

  

undefined

  

البحث عن الإنسان المفقود

اسمها تشيهيرو (荻野 千尋) [3] ويعني باليابانية ألف طريق للبحث أو الفهم[4]، وهذه الفتاة الصغيرة تحمل كامل النصيب من اسمها، فهي في هذه الرحلة تطرح الأسئلة، وتتعثر، تبحث عن الخلاص وعن شيء ما تفتقده، وهي أيضا تائهة في عالم غريب لا يشبهها، وتحمل كل الأسئلة التي نطرحها نحن عن هذا العالم وربما عن أنفسنا أيضا. إذا كانت الرحلة ستبدأ بطرح الأسئلة ستكون ذواتنا هي أول ما نسأل عنه، من نحن؟ وما حقيقتنا؟ بخلاف هويتها اليابانية، نستطيع أن نرى أنفسنا في هذه الفتاة، لأنها بشكل مجرد ترمز إلى الإنسان في صباه، وكل ما يعترض طريقها غير إنساني بالمرة، عندما تلتقي تشيهيرو بالفتى "هاكو" يطلب منها السير بحذر لأن شخصيات هذا العالم لو اكتشفوا أنها إنسانة سيهاجمونها، كأنه صراع هادئ بشأن إنسانيتنا، صراع خفيف دون الحاجة إلى الصراخ وخوض عراك شرس مع الأشرار أعداء البشر.

  

جاءت الديانة البوذية لتقدس العقيدة الروحية وتغذيها، واتخذت من التعمق في حقيقة روح الإنسان دربا لها تسير عليه ويخلفها فيه أتباعها من البوذيين، وأصبح النظر إلى حقيقة الإنسان هو بوابة الثقافة البوذية. لم تفصل البوذية الفرد عن المجتمع، وتهذيبه لن يتحقق بمعزل عن محيطه[5]، يقول الراهب البوذي هوي ننغ: "إن التهذيب الذاتي بعيدا عن حياة المجتمع لا يمكن أن ينجح، وأعتقد بأن البوذي يمكن أن يمارس التهذيب الذاتي خلال حياته وعمله"[6].

  

في بداية تعرفنا على تشيهيرو نجدها متذمرة ولا تعامل أبويها بلطف، ربما لأنها منزعجة من التغير الجديد الذي يطرأ على حياتها، لكنه على الأغلب سلوك يسلكه الأبناء في العمر نفسه تجاه ذويهم. عندما تخسر تشيهيرو عائلتها وحياتها يتبدل سلوكها، تصبح أكثر تهذيبا، تخضع للقوانين وتلتزم بقواعد مجتمعها الجديد الصارم وتعلمت كيف تنحّي مخاوفها جانبا، فهي بدون هذا الانخراط لن تكون ما هي عليه الآن، أكثر شجاعة وجدارة بالثقة. بعد أن تحوّل والداها إلى خنازير تحولت تشيهيرو إلى شبح شفاف، ارتعبت من الفكرة، من أن تفقد هويتها وأن تصبح غير مرئية، وجزء من هذا الرعب يكشف رعبنا الإنساني من أن نكون مخفيين لا وجود لنا. تُرى ما الذي يرمز له شعور تشيهيرو بالفقدان والتيه؟

  

"أنا لست جرثومة، أنا بشر"

(تشيهيرو)

  

undefined

  

أرواح تائهة بين عالمين

جاءت أسرة تشيهيرو من الحياة المعاصرة في اليابان، الحياة التي تواكب العالم وتُشبهه ولا تجعل لثقافة الشعوب خصوصية أو تفردا وأصالة. على عتبات دخولهم للعالم الغريب الساحر يقول والد تشيهيرو: "كانوا سيحفرون نهرا هنا"، في استكماله -بحسب قوله- للتلميح إلى فترة التسعينيات التي تعرضت فيها اليابان لركود اقتصادي وتوجهت الحكومة لإنشاء مشاريع مالية فاشلة نتج عنها العديد من المتنزهات المهجورة تماما، فلا الطبيعة أخذت حقها ولا العمارة بنت أواصرها على ما ينبغي أن يكون، لكن هذا الركود كان نتيجة تعرض اليابان في الثمانينيات لأزمة "الفقاعة الاقتصادية" حيث تزداد الأسعار والمضاربات على السلع بشكل جنوني ثم فجأة يحدث هبوط حاد في أسعارها وحجم الإقبال عليها[7]، بعد هذا المشهد بين تشيهيرو ووالديها سيتعرضون لما يشبه الفقاعة تلك، سيأكلون حد التخمة ويتحولون كما ذكرنا إلى خنازير، هنا سيتحولون إلى شيء بلا قيمة وبلا روح، وسيُحتجزون في المزرعة مع غيرهم من الخنازير، دمرهم الجشع والاستهلاك الشره وأصبحوا محشورين في الفقاعة.

  

في الفيلم نتعرف على "يابايا" و"زينيبا"، وهما تمثيل لشخصية الأختين التوءم والتي تعكس كل واحدة منهم وجها من وجوه اليابان، فالأولى تعيش في قصر يغلب عليه الطابع الفيكتوري الغربي حيث البذخ في العيش والإسراف في الملبس والمجوهرات والطعام وكل شيء، والثانية يسكن بيتها البسيط أجواء الحياة اليابانية الأصيلة حيث اللوحات والزخارف وحتى الموسيقى المصاحبة لها. التوءم متناقض، تعكس الأولى الشر بينما الثانية تحمل صفات الطيبة والأصالة وهي المحطة الأخيرة التي تستقر عندها تشيهيرو وتشعر عندها بالسكينة، بينما الأولى كانت بمنزلة الورطة التي وقعت تشيهيرو في شباكها واستنزفتها إلى أقصى حد.

     undefined

  

"طالما لدينا مجتمع مستهلك لن يكون لدينا مستقبل مشرق مع عالم مستدام كما أراده ميازاكي"

(ريو)[8]

  

سيتكرر طوال الفيلم مشهد استهلاك الطعام، كأن الأكل بشراهة يسد خواء الأجساد التي تشعر بالوحدة أو اليأس أو اللاشيء. في بلدة جيوفين بتايوان يوجد بالفعل زقاق للمطاعم استوحى منه ميازاكي المشهد الأول الذي تحول فيه أهل تشيهيرو إلى خنازير حيث المطاعم مفتوحة للجميع، والأكل بمقابل لا حدود له. لا ينفصل ميازاكي عن عالمه المحيط وكل تفصيلة في الواقع نجد لها أثرا في هذا العالم الساحر والمخيف.

  

استهلاك الإنسان

يمكننا استعارة وصف إيريك فروم للإنسان المعاصر بأنه "حوّل نفسه إلى سلعة" وسمح لنشاطاته الاقتصادية أن تتحكم فيه[9]. في العالم الغريب في الفيلم يوجد شبح يسير دائما خلف تشيهيرو، هذا الشبح الهادئ المسالم يبحث عن من يرافقه ويحنو عليه، لكنه أيضا يحمل في جعبته الذهب، لم تعبأ الفتاة بالأمر، لكن الكائنات في هذا العالم الغريب تحولوا إلى عبيد له، يطعمونه ويهتمون بمزاجه من أجل النيل من عطاياه، هم ليسوا بشرا لكنهم يسلكون سلوكهم المادي الشره، ونحن بشكل مجرد أدركنا الجشع الذي يتوغل نفوسهم ليطعموا شبحا يغدق عليهم بالذهب، وتحولت مشاعر الحب والاهتمام إلى سلعة يمكن شراؤها بأي مقابل، لكن ما حدث أن الشبح لم يشبع ولم تعد الأطعمة التي تقدم له تكفيه، تضخم حجمه وأصبح وحشا مخيفا لكنه فارغ من الداخل لأن المادة لا تشبعه بقدر العاطفة والحب، وفي نهاية المطاف تخلّف عن الشبح نفايات ضخمة من فرط الطعام، تذكرنا هذه النفايات بالأثر السيئ الذي نتركه خلفنا في المطاعم، الأسواق، البيئة التي أفسدناها بشراهتنا.

  

في المقابل عندما أعطى الفتى "هاكو" لتشيهيرو الطعام لتأكله كانت وجبة خفيفة لكنها شعرت بعدها بالشبع، كان هاكو هو الحب الذي تبحث عنه الفتاة، وبأقل مجهود استطاعت أن تمتلئ من الداخل لا بالطعام بل بالعاطفة التي تفتقدها، وحينها لم يعد قلبها شاغرا كما السابق. هناك دائما حالة من البين بين في الفيلم، لا شيء مكتمل في هذا العالم الافتراضي، هناك حضارة وحاضر، عالم روحاني وعالم رأسمالي، هناك دائما وسائل مواصلات لكن لا يوجد جسر رابط بين الأشياء والأشخاص والأماكن، وتشيهيرو يعتريها الاضطراب والتيه.

  

undefined    

"إن صناعة أفلام التحريك تعاني لأن غالبية العاملين فيها منفصلون عن الواقع ولا يطيقون النظر إلى إنسان حقيقي"

(ميازاكي)

   

يوظف "كاماجي" -إحدى شخصيات الفيلم- العديد من الكائنات الصغيرة -أشبه بالحشرات- ليعملوا تحت إمرته، نحن مرة أخرى لسنا أمام بشر، بل كائنات غريبة، وكل السلوكيات الممارسة من قبلهم أفعال بشرية للغاية؛ في استعباد هذه الكائنات في العمل نشعر بالألم ونتذكر أعمالنا التي تضغطنا والحياة التي لم تعد رحيمة بنا، كأننا في دوامة من عمل روتيني ممل ينهش أرواحنا المنهكة، لكننا ننساق وننسى أن نتألم أحيانا.

    

  

يمكننا صياغة عشرات الأسباب التي تصف أسباب حبنا لـ "Spirited Away"، واحد منهم أنه لا يخاطب الأطفال في سن العاشرة فحسب، فالبالغون يجدون أنفسهم في هذا الفيلم، يجدون روحهم قابعة هناك. في واحد من أعذب مشاهد الفيلم حيث تستقل تشيهيرو في النهاية القطار لتعود من جديد لحياتها نشعر بالسكينة معها، ونتذكر مرة أخرى الرحلة الطويلة التي خاضتها الفتاة ونخوضها نحن كل يوم في الحياة، ولا شيء يجعلنا نتحمل عناء الطريق سوى السكينة التي نحصل عليها في رحلات العودة اليومية كأننا بحاجة إلى السكون في أرحام أمهاتنا.

  

يقول ميازاكي: "إذا كان لديك عمل مستمر بدون توقف ولا مساحة لتتنفس على الإطلاق فسيكون الأمر مجرد إنهاك مستمر، لكن إذا أخذت لحظة هدوء يمكن أن يتفاقم التوتر في الفيلم إلى بُعد أوسع. إذا كان لديك توتر دائم بمقدار 80 درجة طوال الفيلم فستفقد مشاعرك ويصيبك الخدر"[10]، هكذا يفكر ميازاكي في السينما كما الحياة. في مشهد القطار أراد أن يجعلنا نلتقط أنفاسنا، أن نهدأ قليلا لنستوعب كل هذا الضغط الذي تتورط فيه تشيهيرو لتصل في النهاية إلى حاجتها الروحية في السكون بعيدا عن صخب الحياة بالخارج. يحتاج المرء منا إلى رحلة سحرية تنتزعه من حياته وتصل به في نهاية المطاف إلى نفسه التي ينسى مواجهتها والبحث عنها، حينها سنجد ضالّتنا ونأنس لظلّنا الذي يرافقنا كل صباح تحت ضوء الشمس.

المصدر : الجزيرة