شعار قسم ميدان

الماتريكس في عيده العشرين.. كيف غير فيلم خيال علمي العالم؟

ميدان - فيلم ماتريكس

كان فيلم "ماتريكس" (المصفوفة) هو الطلقة الأولى فيما يُعتبر اليوم عاما فارقا في تاريخ الأفلام الأميركية، عام ١٩٩٩، الذي جلب لنا أفلاما مثل "العيش كجون مالكوفيتش"، و"ماغنوليا"، و"ذا سيكس سنس" (الحاسة السادسة)، و"أوفيس سبايس" (مساحة مكتبية)، و"فايت كلوب" (نادي القتال)، و"مشروع ساحرة بلير"، وغيرها. ومع أن قلة من الناس يقولون إن فيلم "ماتريكس" هو الأفضل من بين أعمال تلك السنة، فإن هذا الفيلم تحديدا قد ترك تأثيرا كبيرا على طريقة تفكيرنا، تأثيرا سلبيا أكثر مما هو إيجابي كما سنرى، وبشكل لم تنجح فيه الكثير من أعمال الثقافة الشعبية الأخرى. يمكننا أن نتحدث عن كل تلك الأفلام الأخرى بإسهاب، لكن في عام ٢٠١٩، ثبت أن مورفيوس لوحده كان على حق. إذ إننا حقا نعيش اليوم، وفي هذا العام، في نوع من المصفوفة الافتراضية التي تشبه الماتريكس!

  

لكننا ربما لا نعيش بالضبط في مصفوفة حاسوبية كما في الفيلم. في عام ٢٠١٩، بالأحرى إننا فقط نحب أن نقول أشياء مثل "نحن نعيش في المصفوفة"، وقد يكون هذا هو التأثير الحقيقي والأعمق للفيلم، الذي نقل عدوى جنون الارتياب الشديد التي تقوم عليها قصته إلى الطريقة التي نعيش ونفكّر بها الآن. في حقبة يمكن لمحاميّ الرئيس ترامب أن يظهر فيها على التلفاز معلنا أن "الحقيقة ليست الحقيقة!" كما لو أن هذه "حقيقة" بحد ذاتها يجب أن يعرفها الجميع، وفي حقبة نتحدث فيها بشكل لا نهاية له، لا حول "ما الحقيقة؟" ولكن حول "ماذا لو كنا نعيش في محاكاة افتراضية؟"، فإنه يمكن أن نستشعر تأثير فيلم "ماتريكس" في كل مكان، وهذا مثير للدهشة، بالنظر إلى أنه لا أحد تقريبا يتحدّث عن الفيلم نفسه هذه الأيام. لا يعني ذلك أن الفيلم كان نبوءة. فهو لم يتنبّأ بما يحدث في عالمنا بالضبط. لكنه تنبّأ، وربما خلق، طريقة جديدة لرؤية هذا العالم. إذ كما أقنع كتاب "كاتش-٢٢" الجيل السابق أن "الجنون هو الرد العقلاني الوحيد على عالم مجنون"، فقد أقنع فيلم "ماتريكس" الجميع برفض القبول بالواقع معتبرا هذا الرفض شكلا من أشكال الإدراك المطلق!

   

  

عند العودة إلى الفيلم بعد مرور ٢٠ عاما على إطلاقه، سوف يلاحظ المشاهد فجأة أنه ليس بهذا التعقيد! حيث يُجرّ قرصان الكمبيوتر (نيو الذي يلعب دوره كيانو ريفز)، الكئيب مثله مثل العديد من أبطال أفلام أواخر التسعينيات، للانضمام إلى مقاومة لم يكن يعرف بوجودها ضد نظام لم يكن يعرف أنه مستعبد فيه. يعرض عليه الثوار فرصة الوصول إلى التنوير ولكن بثمن باهظ: عليه أن ينبذ كل ما يعرفه عن العالم الوهمي ويدرك أنه حرفيا جزء من آلة ضخمة تتحكّم بها قوّة قاهرة. سمّها الآلات، أو الشركات، أو الدول العميقة، أو النظام، إلخ. المهم أنه لا يمكن الهروب من سطوتها إلّا من خلال إدراك وجودها. هذه الفكرة بسيطة ولكنها أيضا تبسيطية بشكل جذاب وربما حتى خطير، إذ يمكن تبنّيها من قِبل أي شخص من أي أيديولوجية يشعر بالغضب والإحباط. وقد انسجمت هذه الفكرة تماما مع روح العصر الحالي بشكل لم تنجح فيه الأفكار البديلة الأخرى، إذ تقول إنه "يتم اضطهادك من قِبل عالم لم تصنعه وعالم لا يمكنك رؤية حقيقته، لكن الخبر السار هنا هو أن الحل يكمن في مجرد استعدادك لرؤيته على حقيقته"!

 

على عكس ما توحي الساعات الطويلة التي أمضاها المعجبون والمعلقون و"الفلاسفة" في تحليل الفيلم وإيماءاته إلى قصة أفلاطون عن الكهف والنظرية الفرنسية النقدية والتعليقات المسترسلة حول الفيلم الموجودة في نسخة البلو-راي منه، فالفيلم نفسه بسيط وبالعديد من الطرق. إنه ببساطةِ المؤشر الأخضر الوامض على الشاشة السوداء الذي تبدأ معه قصة "ماتريكس". عندما نسترجع أحداث الفيلم بعد عقدين يبدو لنا أن الأساس الذي بنى عليه الإخوة وتشاوسكي فيلمهم الذي غيّر مجرى التاريخ كان أساسا متقنا، وعميقا، وغامضا، ولكن في الحقيقة فإن العناصر التي تبني عالم الـ "ماتريكس"تتوضح بشكل فعّال وسريع في الثلث الأول منه فقط، ثم يتحوّل إلى فيلم مطاردة/ سرقة/ إثارة/ خيال علمي عادي.

 

ويشرح مورفيوس (لورانس فيشبورن) كل شيء لنيو كما يلي: "المصفوفة موجودة في كل مكان. إنها في كل شيء حولنا"، "إنه العالم الذي وضع غشاوة فوق عينيك لكي يعميك عن الحقيقة.. حقيقة أنك عبد، ولدت في عبودية.. في سجن لا يمكنك لمسه.. للأسف، لا يمكننا أن نقول لأحد ما المصفوفة، عليك أن تراها بنفسك. إما أن تأخذ الحبة الزرقاء، فتنتهي القصة وتستيقظ في سريرك، أو تأخذ الحبة الحمراء وتبقى في بلاد العجائب وأريك مدى عمق الجحر في هذه الحكاية".

   

  

هذه الجملة، بغض النظر عن كل ما قيل في هذا الفيلم وبالتفصيل الممل في وقت لاحق، هي كل ما تحتاج إلى معرفته لفهم الماتريكس، واستيعاب كل ظاهرة خلقها الفيلم، سواء كانت حميدة أم خبيثة. في تلك الكلمات القصيرة في السيناريو، قام الإخوة وتشاوسكي بخلق مزيج مثالي يناسب الجميع، من الارتياب والعداء ضد الشركات إلى الإيمان الليبرتاري بأسبقية المصلحة الفردية والغضب الأيديولوجي الغامض ضد النظام. إنها المكافئ العصري للنظرة التافهة إلى عامة الناس على أنهم "قطعان من الغنم الذين يجب أن يستيقظوا". وعلى الرغم من أننا نسينا معظم مقولات الفيلم، فإن المواقف التي أطلقها قد نجحت في تسميم الكثير من سردياتنا. إننا نعيش اليوم في العالم النافي للواقع الذي بناه فيلم "ماتريكس".

 

لكن قبل الخوض في ذلك، يجدر بنا النظر إلى طبيعة العالم الذي أُنتج فيلم "ماتريكس" فيه، فقد كان هذا العمل غارقا في أفكار الثقافة الشعبية السائدة في العقد الذي سبق ظهوره، خاصة فيما يتعلّق بالخيال العلمي. في الحقيقة، يمكن القول إن أميركا تتبنى فيما يتعلّق بتصوّر كيف يكون شكل مستقبل ما بعد نهاية العالم في كل جيل عملا واحدا محددا من مخيلة هوليوود كمعيار، ويظل هذا العمل في العادة مهيمنا لعدة عقود. في الوقت الذي افتتح فيه فيلم "ماتريكس"، كان العمل المهيمن هذا، على مدى العقد الذي سبقه أو نحو ذلك، هو سلسلة أفلام "ذا تيرميناتور" (المبيد) للمخرج جيمس كاميرون. كانت سردية ذاك الفيلم الأساسية هي أن "الروبوتات والحواسيب سوف تهيمن على العالم في نهاية المطاف ثم تثور ضدنا". وتشكّل هذه السردية حجر الزاوية الذي قام فيلم "ماتريكس" بقلبه رأسا على عقب كنقطة البداية عوضا عن النهاية لسرديته. إذ يقول مورفيوس لنيو إن صعود الذكاء الاصطناعي أدى إلى ولادة "عرق من الآلات، لكن نحن لا نعرف من هاجم الآخر أوّلا، نحن أم هم".

 

بعبارة أخرى، استبدل "ماتريكس" فكرة "ذا تيرميناتور" بأن "نهاية العالم قادمة ولا يمكن إيقافها"، بالخطوة المنطقية التالية لها: "لقد حدثت نهاية العالم بالفعل ولكنك لا تدرك ذلك". وقد استوحى " ماتريكس" أيضا بعض أفكاره من مسلسل آخر ذي شعبية في ذلك الوقت، مسلسل "إكس-فايلز" (الملفات السرية إكس)، الذي روّج للفرضية القائلة بأن الغالبية العظمى من الناس كانوا دمى غير واعية في عالم تحكمه سرًّا الكائنات الفضائية الذين لا يراهم الناس. استكشفت السلسلة هذه الفرضية من خلال شخصيتين يلعبان دور "المؤمن" و"المتشكك" على التوالي. فيلم "ماتريكس"، الذي أقرّ منتجوه بأنه نسختهم الخاصة من "سردية الخلاص" الموجودة في قصص الأديان، قام بتغيير هذه المعادلة من خلال استبدال شخصية "الهادي" (مورفيوس) و"الضال الذي يحتاج إلى هداية" (نيو) بهاتين الشخصيتين، مستنسخا شعار "ملفات إكس" "الحقيقة هي حولنا" كما هي تقريبا. ففي الفيلم يسأل نيو: "ما المصفوفة؟"، فتجيبه ترينيتي: "الجواب هو حولنا".

   

  

لم يتوقف الإخوة وتشاوسكي عند "تيرميناتور" و"الملفات إكس"، بل بحثوا عن الإلهام لعالمهم المستقبلي الصدئ المليء بشرّ لا وجه له تتحكم فيه أشباه الشركات العملاقة من أعمال مثل "أليين" (الكائن الفضائي) وفيلم التحرّي المستقبلي "بلايد رانر"، أما الضابط سميث من فيلم "ماتريكس" فهو بالتأكيد مستوحى من أفلام "ذا مان إن بلاك" (الرجل في ثياب سوداء). كما أن شخصية مورفيوس تشبه إلى حد ما شخصية بالاسم نفسه من رسوم مجلّة "ساندمان" (رجل التراب) لنيل غايمان التي كانت قد أُطلقت قبل عقد كامل من الفيلم.

 

هذا لا يعني أن "ماتريكس" هو مجرّد تجميع لقطع غيار من آلات أخرى. فلقد زاد الإخوة وتشاوسكي عنصرين جديدين من لدنهم: الإحساس بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الإدراك هو من خلال الشكّ العميق بكل ما هو حولنا، وتبجيل "البطل" الذي ينجز كل شيء من وراء حاسوبه في المنزل.

 

إن الشخصية الأولى التي نراها في الفيلم ليست نيو بل ترينيتي، التي تظهر بمظهر شديد الإبهار حتى فيما هي تجلس وراء حاسوب، قبل أن ترفع يديها في استسلام بارد الأعصاب عندما يتم إشهار المسدسات عليها من الخلف. كان فيلم "ماتريكس" أول فيلم يجعل من الجلوس والتمرّد من الكرسي شكلا من أشكال الإثارة والأكشن، وربما قد كان ذلك نبوءة عن عصرنا الذي بدأ فيه المزيد والمزيد من الناس في العيش بالكامل على شبكة الإنترنت، حيث يكون من السهل دائما قبول التأثيرات المسكرة للشكّ الانفعالي. ينتهي الفيلم في لحظة صادمة للمشاهد نرى فيها نيو يخرج إلى شارع مدينة من عام ١٩٩٩، وكأنه يقول: هل رأيت كل ما حدث؟ قد يكون يحدث الآن في مدينتك وعالمك!

   

  

قد لا يكون الإخوة وتشاوسكي قد أدركوا أبعاد هذه الأفكار في حينها. لكن في السنوات القليلة التي تلت الفيلم، ظهرت في العالم الحقيقي فرص كثيرة شجعت الناس على رؤية فكرة "ماتريكس" الأساس على أنها عقيدة تدعو لإنكار شامل ومخادع بشكل مخيف لكل ما هو أمام أعينهم، ويمكن ترجمة هذه العقيدة تقريبا على النحو التالي: الواقع برمته مزيف ولا يجب علينا الاستماع لأي شخص عن أي شيء (لأنني أعرف كل شيء على الرغم من عدم خبرتي في كل شيء).

 

انتهى عام ١٩٩٩ مع استعدادات مبالغ بها لما يُسمّى بمشكلة Y2K (المترجم: خطأ الألفية الذي ادُّعي بأنه سيعطل كل حواسيب الأرض بسبب عدم برمجة عام ٢٠٠٠ في الأنظمة الموجودة). على الرغم من أن معظم الناس نسوا خطأ الألفية بحلول الساعة ١٢:٠٥ بعد منتصف الليل من يوم ١ يناير ٢٠٠٠، فإنه كان قد شكّل حافزا هائلا للتكهنات حول القوة المطلقة للآلات. أما العام التالي فقد جلب أزمة الانتخابات الرئاسية المتنازع على نتائجها في الولايات المتحدة، ثم وقعت هجمات ١١ سبتمبر/أيلول بعد عشرة أشهر من ذلك. مع كل حدث من هذه الأحداث، تضخمت صفوف أولئك الذين اختاروا الإيمان بوجود واقع بديل حقيقي أكثر من العالم الحقيقي. "خذ الحبة الحمراء" وستفهم أن وقود الطائرات لا يمكنه أن يذيب الصلب في الأبنية التي وقعت في ١١ سبتمبر/أيلول، أو ستؤمن بنظريات مؤامرة على نسق أن اليهود تم إخبارهم سرا بعدم الذهاب إلى مركز التجارة العالمي في ذلك اليوم، وعلى نسق أن المسلمين في نيوجيرسي كانوا يحتفلون عندما سقطت الأبراج، كما ادّعى الرجل الذي سيصبح أكثر رجل رافض للحقيقة في أميركا، وهو رئيسها الحالي دونالد ترامب.

   

الفيلم بعث حياة جديدة في التساؤلات والمناقشات الغريبة ولكن الجديّة حول ما إذا نحن نعيش داخل محاكاة افتراضية تجريها مخلوقات أكثر تطورا منا! 
الفيلم بعث حياة جديدة في التساؤلات والمناقشات الغريبة ولكن الجديّة حول ما إذا نحن نعيش داخل محاكاة افتراضية تجريها مخلوقات أكثر تطورا منا! 
    

كان كل ذلك أول الغيث الذي سيأتي ويُظهِر لنا القبح والعنصرية خلف الغلو في هذه المبادئ التشكيكية: أنت على الأرجح سترفض الواقع إذا كان الواقع قد رفضك بطريقة ما. أنت على الأرجح سوف تشتبه في أن مجموعات كاملة من الناس تتحكّم بمؤامرات كونية إذا كنت تكره أو تخشى تلك الجماعات في المقام الأول. كان من السهل أن نصل من تلك النقطة إلى الادعاء الحالي في أوساط اليمين من أميركا إلى أوروبا بأن البليونير اليهودي الأصل جورج سوروس "يتحكم في كل شيء".

 

اليوم، لم يعد فيلم "ماتريكس" مجرّد مرجع لفكرة ما، بل إن خلاصته قد حُفرت بعمق في الطريقة التي نفكر بها ونتحدث بها لدرجة نحن غير واعين بها. إن المظاهر الأبرز لطريقة التفكير هذه قد تكون هي الأكثر خبثا: من برنامج أليكس جونز الذي يمزج بين التهريج والتعليق السياسي، إلى نظريات المؤامرة السائدة من أمثال "Pizzagate"، و"QAnon"، والادعاءات المعادية للسامية حول تحكّم عرق من البشر-الزواحف في العالم التي روج لها دايفيد آيك والتي يبدو أن أليس ووكر تؤمن بها. هذه المظاهر تروّج لأسباب غير أخلاقية بالمرة لفكرة أن "الواقع" هو مجرد لوح من الزجاج يخفي الحقيقة، وأن الطريقة الوحيدة للوصول إلى تلك الحقيقة هي أن تلتقط حجرا وتلقيه عليه.

 

البعض الآخر من هذه المظاهر سخيف وتافه، مثل الاتجاه الحديث لبعض الرياضيين المحترفين الذين ينكرون كروية الأرض، والذين يقولون: "إذا لم أتمكن من رؤيتها، فلن أستطيع تصديقها". بعض هذه المظاهر لغوي فقط، ونراها في عناوين مقالات مثل "هنا طريقة أفضل لتقشير الثوم: طوال حياتك كنت تقوم بتقشير الثوم خطأ"، لأنه في عالم ما بعد فيلم "ماتريكس" فإن فكرة أننا كنا نعيش وهما طوال حياتنا لأننا أغبياء هي فكرة ذات شعبية ورواج!

   

لم يقدّم
لم يقدّم "ماتريكس" لمعجبيه فرحة اكتشاف واقع جديد، بل قام بتقوية النفي كردّة فعل ثقافية، أي نفي أي وقائع زمنية أو مادية أو عملية أو واقعية لا تعجبنا
   

بالفعل، فإن فيلم "ماتريكس" موجود في كل مقالة تدّعي أن "كل ما كنت تعرفه عن (…) هو خاطئ". إنه موجود في فكرة "تهكير الحياة" (life hack)، والتي توحي بأن حياتك اليومية هي مجرّد برنامج حاسوبي تحتاج إلى اختراقه. وهو موجود في شريحة معيّنة من اليسار المتطرّف، الذي يصر على أن الشركات تتحكم بك بطرق تعصى على فهمك المتهاون والمحدود (لأنك أخذت الحبة الزرقاء أيّها المغفل الساهي). كما يكمن لنا الفيلم وأفكاره في "أنبياء" الزمن المعاصر من أمثال مالكوم جلادويل الذين يروجون للأفكار غير العقلانية، وفي التشاؤم الفكاهي حول عصر ترامب على أنه أسوأ عصر ممكن. وبشكل أكثر وضوحا، فإن الفيلم بعث حياة جديدة في التساؤلات والمناقشات الغريبة ولكن الجديّة حول ما إذا نحن نعيش داخل محاكاة افتراضية تجريها مخلوقات أكثر تطورا منا!

 

بخلاف أفلام مثل "حرب النجوم" أو "هاري بوتر" أو غيرها من سلاسل الأفلام المحبوبة الأخرى، فإن "ماتريكس" لا يُلهم هواة متفانين يعجبون بالفيلم نفسه. لا يوجد الكثير من الناس الذين ما زالوا يتحدّثون عن نيو أو مورفيوس أو ترينيتي أو أوراكل كشخصيات، ولا يوجد الكثير من الميل للتكهن بما سيحدث مستقبلا لقصة هذا الفيلم. أما الجزء الثاني والثالث من سلسلة الأفلام فكانا مغرقين في الجدية المهيبة، مثل ألواح من الحجر مليئة بالوصايا وخالية من الدفء والعاطفة وروح الدعابة. إن هذا الفيلم لم يكن إذن قصة مغامرة أو إمتاع، بل كان بيانا سياسيا استخرج أتباعه منه الأيديولوجيا والمعلومات، ثم تجاهلوا القالب الذي كان قد صبّ فيه. والخلاصة التي أخذوها من الفيلم -والتي تجعل "الذيل الطويل" لفيلم "ماتريكس" طويلا وغريبا- كانت خلاصة سلبية (المترجم: مفهوم الذيل الطويل (long tail) هو مفهوم إحصائي، وفي سياق الأعمال الثقافية مثل الفيلم فهو يعني أثره على ظهور الأذواق الغريبة على هامش الأذواق السائدة.

 

في محصّلة الأمر، لم يقدّم "ماتريكس" لمعجبيه فرحة اكتشاف واقع جديد، بل قام بتقوية النفي كردّة فعل ثقافية، أي نفي أي وقائع زمنية أو مادية أو عملية أو واقعية لا تعجبنا. يمنح الفيلم الجميع سلطة القول إن ما يحدث لا يحدث حقا، حتى عندما يكون حدوثه واضحا وضوح الشمس!

—————————————————

ترجمة: كريم طرابلسي.

هذا المقال مترجم عن مجلةNEW YORK  ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.