شعار قسم ميدان

إن شاهدت مسلسل "الدمية الروسية" ولم تفهمه.. فهذا التحليل سيعطيك الإجابة

ميدان - ما الذي يدور حوله مسلسل "الدمية الروسية" حقا؟

تنبيه قبل القراءة: هذه المراجعة تتضمن حرقا لأحداث الحلقات الثماني من رائعة "الدمية الروسية".

  

في الحلقة الثالثة من "الدمية الروسية"، والتي حملت عنوان "جسد دافئ"، تحاول ناديا (ناتاشا ليون) أن تفك لغز الدلالة الروحية لميتاتها المتواصلة، بما أنها قد وضعت في الحسبان (ثم استبعدت) فكرة أنها تمر بتأثيرات جانبية لأحد المخدرات.

 
تحاول ناديا استشارة رجل دين، لكن مساعِدته الصارمة (تامي صاغر) تحول دون ذلك. وبعد أن تلح عليها ناديا وتعترف بشأن أورام الرحم، تعرض عليها المرأة تلاوة صلاة تعني بحسب قولها بـأن "الملائكة حولنا وفي كل مكان". تُقلّب ناديا عينيها عند سماع هذا الطلب بشيء من العاطفة الدافئة التي عادة ما نحس بها إزاء مغناطيسات الثلاجة ووسائد المقاعد المطرزة.

  

بعد عدة مشاهد، تجد ناديا نفسها مدفوعة لقضاء الليل في حراسة حذاء رجل متشرد لئلا يغادر الملجأ ويموت متجمدا. ثم تقابل رجلا آخر هو آلان (شارلي بيرنيت) في المصعد، وهو ما يأخذ أحداث المسلسل في منعطف آخر كليا عندما يكشف لها أنه هو أيضا يموت بشكل مستمر كما يحدث معها. 

   

  

من الممكن كليا أن يكون المشهد في مكتب رجل الدين مجرد فاصل ترفيهي عابر، أو أن يكون وسيلة لتفنيد أي اعتقاد بأنَّ المبنى الذي تعود فيه ناديا من الموت يكتنف أي دلالة رمزية. لكن الصلاة التي تتلوها هي ميلاد لفكرة يتردد صداها على طول الحلقات: كل شخص يُمكن أن يُحدث فارقا عميقا في حياة شخص آخر، أكان ملاكا أم لا.

 

من الممكن أن نطلق على "الدمية الروسية" تسمية "البصلة"، ذلك أنَّ الطبقات في مسلسل نتفليكس الجديد تبدو وأنها بلا نهاية. تفسيرك الشخصي للمسلسل، أي إن كان يتناول بشكل رئيسي موضوع الإدمان، أم الصدمة النفسية، أم سرديات ألعاب الفيديو، أم التساؤلات الوجودية، أم ضرورة الروابط الإنسانية، أم القدرة التي تمتلكها الحيوانات الأليفة على منحنا الإحساس بالخلاص، أم التجارب التطهيرية، يعتمد على تجاربك الحياتية التي لعبت دورا في تشكيلك.

 

وبطريقة ما، فقد تمكّن مسلسل "الدمية الروسية" من تناول هذه المواضيع وما يفوقها، غازلا أنسجة العديد من الثيمات والإحالات الثقافية ببعضها بعضا في مدة مشاهدة إجمالية تقع في ثلاث ساعات ونصف. ما يبدأ كمحاكاة خرقاء لفيلم "يوم غراوندهوغ" يتضح أنه أشد ظلامية وعمقا وتعقيدا بينما حلقات المسلسل تمضي عبر دلالات وإحالات ستنالُ إعجاب المشاهد اليقظ.

 

إن الإدمان هو أحد أكثر الموضوعات المباشرة لـ "الدمية الروسية". وقد تحدثت ليون التي شاركت في تأليف المسلسل مع الكاتبة المسرحية ليسلي هيدلاند والممثلة المنتجة آيمي بولر عن كيف تم استيحاء أجزاء من القصة من تاريخها الشخصي مع المخدرات، وإن لم يكن المسلسل قد تناولها على طريقة السيرة الذاتية.

   undefined

  

على مدار المسلسل، نرى ناديا وهي تنقضُّ على المخدرات والكحول بعد هيجان انفعالي تريد إخماده. عند كل مرة تموت وتعود فيها إلى الحياة في غرفة الحمّام حيث يتم استئناف القصة، يسمع المشاهدون الأغنية ذاتها لهاري نيلسون "علي أن أنهض"، وهو عمل موسيقي يتحدث عن الرغبة في التوقف عن الذهاب للحفلات، سجله الفنان الذي أفضت إدماناته الشخصية إلى موته المبكر عند سن 52. 

 

هناك مشهد مذهل في الحلقة الثانية سيبوحُ بميول ناديا السوداوية للتدمير الذاتي عندما تستنشق من أنبوبة على شكل مسدس، وهو أيضا الشكل الذي يأخذه مقبض باب الحمام الذي تستمر بالعودة إليه. إن هذه البنية التكرارية للمسلسل تبدو أيضا كاستعارة للإدمان، ولعادة ناديا بتكرار الأنماط السلوكية ذاتها بلا كلل. ولعل الكلمة المشفرة التي تتشاركها مع عمتها روث وهي "مشغل صوتي" أكثر براعة في تصوير شيء يدور ويدور في مكانه.

 

لكن "الدمية الروسية" يتناول أيضا الندوب العاطفية لدى ناديا، والتي تعالجها ذاتيا بالكحول والمخدرات كوسيلة لإسكات صدمات الماضي. ("ليست المباني هي المسكونة، بل الناس"). وهي ليست بارعة في اللجوء للمخدرات حتى، في الحلقة الثانية، عندما تبحث عن تاجر مخدرات، يخبرها أحد الكيميائيين الذين تصادفهم أنه كان "يعمل على مركب جديد يساعد الناس في مواجهة الاكتئاب"، وهي مواد مدعمة بالكيتامين.

 

لكن الحلقة السابعة هي ما يوسّع سياق المسلسل، حيث تظهر ارتجاعات من طفولة ناديا التي قضتها مع أمها المضطربة نفسيا (كلوي سيفيني). مع تنامي الاضطراب في هذه التكرارات، تتجلى مشاعر الذنب والصدمة عند ناديا في شخصها كطفلة. خلال ذلك الوقت، كما تخبر آلان، "لم تكن الأمور تسير على ما يرام مع والدتي".

   

كلوي سيفيني (مواقع التواصل)
كلوي سيفيني (مواقع التواصل)

  

إن مكاشفتها لذاتها هي التصوير الأشد وضوحا للألم الذي تحمله معها إلى حياة الرشد، أما التصويرات الأخرى لهذا الماضي فأكثرُ غموضا. وعلى سبيل المثال، في الحلقة الثالثة، وقبل تقديم شخصية سيفيني، تمسك ناديا كوب القهوة في يد وعلبة من البطيخ المشرح في يد أخرى، ما يكون أشبه بلمحة عن الذكرى التي تحملها الحلقة الثالثة بشأن هوس والدتها المفرط بِشراء البطيخ من متجر البقالة. وفي الحلقة السادسة، تقوم ناديا بإعطاء "هورس" (بريندان سيكستون) آخر قطعة ذهبية تبقت لها من والديها الناجييْن من الهولوكوست، وتخبره أن هذه القلادة، وهي وِرثتها الوحيدة، "ثقيلة جدا".

 

والتساؤل عما يحدث بالضبط مع ناديا، ولاحقا مع آلان، هو أحد أكثر الأجزاء المشوقة من حكاية "الدمية الروسية". التكرارات المتواصلة لوجود ناديا، والتي يتضاءل فيها واقعها فيما الناس والأشياء يتلاشون من حولها، تحاكي بنية "الماتريوشكا"، والتي نعرفها كدمى روسية توضع داخل بعضها بعضا، والتي سُمي المسلسل تيمنا بها.

 

لكنها تحاكي أيضا بنية ألعاب الفيديو، حيث تموت الشخصيات وتعود للعيش عند أقرب نقطة ضغط عندها اللاعب زر "حفظ". تذهب ناديا، وهي نفسها مطوّرة ألعاب فيديو، إلى عملها لبرهة من الوقت في الحلقة الثانية، حيث تقوم بإصلاح خلل في كود قامت هي بكتابته يؤدي إلى توقف الشخصية في الزمن عوض أن تتحرك. لاحقا، وبعد أن تقابل آلان، تتناقش معه بشأن لعبة فيديو ساهمت ذات مرة في تصميمها والتي يصرُّ على أن إتمامها عملية مستحيلة. ويخبرها قائلا: "لقد قمتِ بصنع لعبة لا يمكن حلها بشخصية واحدة لكنها مطالبة بحل كل شيء بمفردها". وتصر على أن اللعبة قابلة للحل، إلى أن تجد، مثلما فعل آلان، أنها تستمر في السقوط بفخ الموت قبل إتمام مهمتها.

   undefined

  

النظرية القائلة بأن تكرارات ناديا المستمرة هي جزء من محاكاة من نسج دماغها لمساعدتها على التعامل مع صدمتها و"إتمام" شفائها هي نظرية مغرية. (في عدد من الميتات، تهوي ناديا فعلا إلى حفرة سحيقة لها باب أثناء مشيها على الرصيف وهي تشبه حفرة النار التي تهوي إليها شخصية اللعبة باستمرار). لكن هذه الأطروحة تتعقد عند منتصف المسلسل، عندما يبدو أن آلان، الشخص الغريب، مربوط بمصير ناديا بطريقة ما.

 

إن آلان، بالعديد من الطرق، قطب معاكس لناديا، ومكمّلها. فهي متحررة وفوضوية ومشوشة ومجاهرة، تعاني رهاب الارتباط، وهو متكتّم، لديه وسواس قهري، مقموع، ينوي التقدم لخطبة فتاة. والحيوانات الأليفة التي تتعلق بها الشخصيتان، وهما قط يجوب الحي وسمكة وحيدة محصورة في حوض، تبدو وأنها تمثيلات خارجية لذواتهم الداخلية. 

 

في الليلة التي يتلاقى فيها ناديا وآلان لأول مرة، وهي تشتري من متجر البقالة بينما هو يدلق صلصة الريحان على الأرض، يكون آلان قد قرر إنهاء حياته. وهو ما يفضي بناديا للاستنتاج بأن فشلها في مساعدته عند هذه اللحظة يسبب نوعا من التصدع، أو "خللا في الكود"، الذي يجزئ واقعها إلى تكرارات متواصلة لها دروب مختلفة. لقد تشابكت أقدارهُما بلا رجعة، والوسيلة الوحيدة لكسر هذه الحلقة هي أن يحاولا مساعدة بعضهما بعضا.

 

كتفسير لكل شيء وقع في المسلسل حتى اللحظة، فإن وجود صدع في متتالية الزمكان أمر معقول علميا وممكن روحيا. فناديا وآلان، عند جمعهما معا كشطرين، يشكلان وحدة واحدة تولّد رد فعل قويا يحشرهما ضمن خيوط متوازية من الوجود إلى أن يتمكنا من تخليص بعضهما بعضا. هكذا يصبح كلاهما، ودون هراء عاطفي، ملاكا حارسا للآخر في الحلقة الأخيرة، عندما يتم فصلهما ويوضعان في تكرارات مختلفة. 

   

آلان (شارلي بيرنيت) (مواقع التواصل)
آلان (شارلي بيرنيت) (مواقع التواصل)

  

في نسخة آلان من الواقع، فإنه يذهب إلى حفلة ناديا، ويتصالح مع صديقتها ليزي (ريبيكا هندرسون) بعد خلاف بشأن جراء من فصيلة الدرواس (مجددا تلك القوة العاطفية للحيوانات الأليفة)، وينال وشاحا طرزت عليه عبارة "كارما جيدة". أما في نسخة ناديا، تقوم صديقتها ماكس (غريتا لي) بسكب المشروب عليها، لتعطيها لاحقا قميصا أبيض نظيفا لكي تلبسه. في المشهد الأخير، تتلاقى نسختان من ناديا وآلان عند موكب استعراضي، فيمشيان قرب بعضهما بعضا ويختفيان، ليتركا آلان بنسخته الواعية (بوشاحه) وناديا بنسختها الواعية (بقميصها الأبيض)، معا، وقد التم شملهُما.

 

هناك العديد من الأسئلة التي تظل معلقة بحكم البديهة. فكيف يعقل لهذه النهاية الحاسمة أن تتلاءم مع خطة ثلاثة مواسم من المسلسل؟ هل يعقل أن "الناديات" المتعددات بمعاطفهن الرمادية في ذلك الموكب الاستعراضي إشارة إلى مستويات متعددة من الواقع تجري إلى جانب بعضها بعضا وتتخطى حلقات الزمن؟ هل يعقل أن الإحالات إلى دولوريس هويرتا وتشابه الموكب الاستعراضي مع احتجاجات مسرح "بريد آند بابيت" هي إشارة إلى أن "الدمية الروسية" مسلسل يعتنق التقدمية السياسية؟ أثمة أي أمل روحيّ للأكاديمي اللزج، مايك (جيريمي بوب)؟ هل ستتمكن ناديا ولو لمرة من الذهاب إلى الإفطار مع حبيبها السابق المتألم، جون (يول فاسكيز)، وابنته؟

 

إحدى أكثر اللحظات التي أحببتها في "الدمية الروسية" هي عند الخاتمة، عندما تمازح ناديا الجار الكبير السنّ في بناية آلان. حيث يوبّخها بسبب التدخين، ويخبرها أن زوجته توفيت بسرطان الرئة. فتقول شيئا عن الحياة باعتبارها صندوقا من الأشرطة الزمنية. ويبدو كلاهما مأخوذا بالآخر. لا يحمل المشهد أي غاية أو معنى، لكنه يمثل لحظة تواصل مع شخص غريب، وهو ذاته النوع من التواصل الذي يصبح جوهر كل شيء بالنسبة لكل من آلان وناديا.

_________________________________________________

ترجمة: فرح عصام

هذا التقرير مترجم عن: The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة