شعار قسم ميدان

نادي القتال.. هل العنف هو محور حياة الذكر؟

ميدان - فيلم نادي القتال

دعونا نستمع إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، ولننصت جيدا إلى عزف الآلات كلٌّ على حدة، ثم نراقب الانتقالات المفاجئة والمزج بين الحركات والتناغم بين حالة السكون والتصاعد العنيف للحن، سنشعر بأننا في حلبة صراع، معركة هادئة يزداد وهجها باللكمات التي يسددها الإيقاع في وجوهنا وعلى أسماعنا. لا تنطق الموسيقى بأي كلمات، لكن حالة من الأنوثة والذكورة نستطيع أن نتلمّسها في الموسيقى فنشعر كما يصف هاروكي موراكامي بأن سيمفونيات بيتهوفن تتكون من نغمات ذكورية عريضة وأخرى أنثوية حادة[1]. إن الفن يستلهم من الطبيعة البشرية عناصرها، فالفن أنثوي وذكوري أيضا، لكن إلى أي حد تصل تلك الذكورة؟

  

بالنظرة نفسها يمكننا قراءة رواية "نادي القتال" للأديب الأميركي تشاك بولانيك الذي اعتمد في أسلوبه السردي على ما يشبه ضربات القدر لبيتهوفن، جمل قصيرة متتالية -كما يصفها أحمد خالد توفيق- تصيب القارئ بالدوار لتصف لنا حالات شعورية لبطل الرواية الذي لا نعرف اسمه بينما نعرف كل شيء عن عالمه الخاص، وحياة هذا البطل والتي تبدو عادية جدا أخذت فجأة منحى أكسبها معنى جديدا، فبعيدا عن روتين الحياة الذي يقتل الرجال في مضاجعهم، قرر البطل أن يتخذ من القتال أسلوبا جديدا لحياته، الأمر هنا أشبه بالترنيمة المستمرة، فالقتال من أجل القتال يعيد من جديد صحو شهوة يستمد منها الرجال مفردات ذكورية مستترة خلف أجسادهم المنهكة.

    

غلاف رواية
غلاف رواية "نادي القتال" (مواقع التواصل)

    

"أنت لست وظيفتك، أنت لست النقود التي تملكها في البنك، أنت لست السيارة التي تقودها، أنت لست محتويات محفظتك"

  

أنت تعيش نمط حياة معين وكل شيء حولك يوهمك بشراء السعادة، تعمل لساعات طويلة وتجني الأموال وتركب سيارة وتشتري قهوتك الخاصة من أشهر المقاهي، أنت إذًا في قالب معين تسعى جاهدا ألّا تخرج منه، وهذه الأمور المادية تجعل منك رجلا ذا قيمة، وصالحا أيضا، لكنك في النهاية تستنفد من قواك وجسدك الهزيل ولن تساعده المنظومة الرأسمالية في شيء، إذا سقطت فهناك الكثيرون مثلك، أنت إذًا لعبة ماريونيت مظهرها جيد لكنها مجرد صورة في دليل استعمال شرائي.

   

في بداية فيلم "نادي القتال" المقتبس عن الرواية، نتعرف على جاك -بطل الرواية الذي لا نعرف فيها اسمه- ونتعرف على الأرق الذي أصابه لستة أشهر دون انقطاع، وفي دوامة الحياة والعمل نختلس النظر إلى حياتة الاستهلاكية التي يبحث فيها عن نفسه، ليصبح عبدا للمظاهر، يعرف المشاهد جيدا ما يشعر به جاك، حيث اختبرنا نحن، مثله تماما، هذا القلق والسعي الزائف للاستهلاك. هو رجل لأنه يؤدي هذه الوظائف الاجتماعية بشكل آلي، كالروبوت، لكنه لا يدرك أنه فقد هويته. يسأل جاك نفسه: "أيٌّ من أواني الطهي يعبر عن شخصيتي؟"، ثم يقرر أن يشتري كل الأنواع بحثا عن ضالته. إذا أردت أن تكسر القواعد مثل جاك فتّش عن هويتك الضائعة واصنع لنفسك قواعد جديدة؛ القاعدة الأولى في عالم الرجال: أنت لست سلعة.

    

  

"هناك أجيال تعمل في وظائف تكرهها فقط لتستطيع شراء أشياء لا تحتاج إليها"

   

هل وجود امرأة هو كل ما نحتاج إليه؟

بنبرة متحيرة قليلا، يطرح تايلر داردن على صديقه جاك هذا التساؤل ليجعلنا نفكر، هل كل ما يحتاج إليه الرجل ليشعر بذكوريته يتمثّل في وجود امرأة في حياته؟ أم أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؟ في رواية "نادي القتال" يتجاوز البطل كل الثوابت ليخبرنا أن الحياة النمطية المعتادة لا تسبب السعادة حقا، فوظيفة مثالية وامرأة وأسرة وبيت جميل أمور لا تجعل من الرجال رجالا، بل إنها تسلب أرواحهم، تسحقهم في دوامة كبيرة من حياة يتغذى قوامها على الرأسمالية، عندما يمتلك الفرد منا أشياء يصبح أقوى، المهم أن تملك المال لتدفع، وحده المال لا شيء سواه، لكن بطلنا جاك -الذي لا نعرف اسمه في الرواية- بعد أن قتله الأرق ليالي طويلة أدرك أن هناك حياة بأكملها لم يختبرها بعد، وأنه يشعر بحاجة دائمة إلى أن يخوض عراكا وأن يوجه مسدسا صوب رأسه الهش، حينها فقط تنتابه نشوة لا تضاهيها مجالسة النساء.

  

يمكننا تأطير الدوافع البشرية في سلسلة من الاحتياجات تنتهي بتحقيق الذات وتبدأ على التوالي بالرغبة في الإحساس بالشبع والأمان والانتماء والحب[2]، كل مرحلة منهم تشغل تفكير الإنسان وشهوته، وفي النهاية تصل إلى حالة الإشباع الكامل لدوافعنا، لكن ماذا لو أن هذه الحلقات مفقودة؟ وتحول الفرد منا في سعيه اليومي إلى مجرد طاقة مهدرة لا يجني منها شيئا سوى المزيد من الأرق والتعب؟ هنا ستتحول الدوافع الغريزية إلى أشياء غير ضرورية ونبدأ رحلة جديدة في التفتيش عن مبتغيات تستكمل دوافعنا.

  

لم يكن بطلنا يسعى لشيء خارق، كل ما أراده أن يشبع حاجته من الأمان والحب: "أحببت مجموعات العلاج لأن الناس يعطونك كامل اهتمامهم"، وأن يتغلب على أرقه، وأن يشعر حقا برجولته التي يفقدها لأنه يفقد ذاته، وبذلك، كانت القوة والرغبة في السيطرة وسيلته لفهم دوافعه وشهواته، بلكمة يسددها في وجه أحدهم يشعر بالانتشاء. ثاني قاعدة في عالم الرجال: اضرب بقوة واحصل على ندوب لا يُمحى أثرها.

   

"نحن الرجال نمنح بعضنا القوة"

  

undefined       

عندما يبكي الرجال

يبدأ تعارفنا على البطل في الرواية والفيلم من خلال مواظبته على حضور جلسات مجموعة "الرجال باقون معا" لمساندة مرضى سرطان الخصيتين، نعرف أنه غير مصاب بالسرطان لكنه يدّعي المرض لرغبته في إطلاق السموم الروحية من جسده والتطهر بالاستماع إلى الخزي الذي يتعرض له الرجال والبكاء معهم. في هذه الجلسات يتداوى الرجال بالحديث عن التبعات النفسية والاجتماعية التي تسبب فيها السرطان الذي يشبه الأفعى التي تلتهم ذكورتهم، هكذا نطل على عالم الرجال من أشد المواضع ضعفا، عندما تُسلب منهم فحولتهم، فيبكون في أحضان بعضهم البعض. من هنا نتعرف على هرمون التستوستيرون الذي بعلاجه للسرطان يزيد من الهرمونات الأنثوية داخل أجساد الرجال؛ يشير بولانيك إلى أن أول خطوة يفقد بها الرجال ذكورتهم هي أن يكونوا كالنساء، في الهرمونات، وفي البكاء، وفي كل سلوك أنثوي يطرأ عليهم. ثالث قاعدة في عالم الرجال: لا تبكِ، لا تكن مثل النساء.

   

عانى بولانيك في طفولته من غياب أبيه، وكذلك بطل روايته، يقول: "ما تراه في نادي القتال هو جيل من الرجال ربته النساء"، وهو ما يضعنا أمام نظرة جديدة للأسرة التي ينشأ أطفالها على تربية أحادية سواء كانت ذكورية أو أنثوية. يبدو أن بطلنا تائه منذ طفولته في عالم الرجال كأنه متلصص من بعيد لا يعرف ما الذي يعنيه أن يكون رجلا. لم تقف الرواية طويلا عند هذه الإشارة، لكنها تضع نصب أعيننا معاناة يتعرض لها الصبية عندما يغيب آباؤهم، هل ستعلّم الأم أبناءها معنى الرجولة؟

      undefined

    

أجساد محطمة وندوب

كما ذكرنا سابقا فإننا بامتلاك الأشياء يمكننا أن نشعر بالقوة، لكننا نغفل قوة فطرية ساكنة بداخلنا تحتاج أحيانا إلى محفزات لتكشف عن وجودها. ترى أن داخل أجسادنا توجد طاقة تحتل سبع طبقات أو مواضع تُعرف بـ"الشاكرا" (Chakra)، وهذه القوة تؤثر بدرجة كبيرة على قراراتنا وانفعالاتنا، فإذا شعرنا بالضيق أو التعب في الصباح أثناء ذهابنا إلى العمل فعلى الأغلب سيكون السبب أن مراكز الطاقة تلك مغلقة، إذا اهتم الفرد منا بفتح هذه الطاقات سيتحوّل مزاجه وحياته إلى الأفضل[3]. في الجلسات الروحية التي كان يرتادها البطل لممارسة اليوغا يحكي لنا عن الشاكرا، وعن الكهوف التي نُلقي فيها حيواناتنا التي تُمثّل قوتنا، وكل ما علينا فعله أن نفتح لهم الأبواب الموصدة ونطلقهم. يحكي البطل بنوع من النوستالجيا عن تلك الممارسات التي قضى فيها أياما بل أعواما لكنه لم يخرج قوته بعد. رابع قاعدة في عالم الرجال: اليوغا ستخدعك، والقوة بداخلك تحتاج إلى افتراس لا ترويض، وحده القتال يصلب قامة الرجال فلا تتجنبه.

   

"معظم الناس الطبيعيين يفعلون أي شيء لتجنب القتال"

  

من المهم الوقوف عند سردية العنف في الفيلم والرواية، هنا لا تسعى لكمات البطل إلى ممارسة الإيذاء العلني والبلطجة في شوارع المدينة، لكن العنف هنا يُعاد تعريفه من جديد، أن تخرج طاقتك وقوتك مع رجل مثلك باتفاق مبرم سابقا، لا يشبه الأمر أيضا رياضة الفنون القتالية، فالرياضة أيضا ستحوّل القتال إلى سردية مستهلكة، نحن نتقاتل لا بهدف الربح بل لإثبات الرجولة والانتشاء، أغلب الرجال في "نادي القتال" يصادفهم البطل في الشوارع وأماكن العمل، أغلبهم محاصرون ذاتيا وتشغلهم الأزمات الحياتية نفسها، وسرية القتال هي العهد الذي قطعوه على أنفسهم، والنزعة القتالية يمكننا إرجاعها إلى غريزة مارسها الإنسان منذ القدم، يرى إيريك فروم -استنادا إلى نظريات فرويد- أن الإنسان تخيفه الحضارة، تزعجه وتدمر ذاته، فالإنسان البدائي مارس العنف مع بني جنسه، لكن بازدهار الحضارة أصبحت الهمجية شبحا يلوّح من الماضي لا يلائم الطبيعة الإنسانية، لكنّ شيئا بداخله ما زال يدفعه بالسليقة تجاه الرغبة في ممارسة العنف[4]، عندما تختنق في إشارة مرور أو تجري محادثة مزعجة مع رئيسك في العمل ستشعر أن ضربة في وجهه هي كل ما تحتاج إليه لتهدأ، لكننا تدربنا على أن نكبح هذا العنف وإن كنا لا ننكر رغبتنا في ممارسته.

   

تشاك بولانيك  (مواقع التواصل)
تشاك بولانيك  (مواقع التواصل)

  

"نحن لا نملك أعمالا إبداعية تصف الرجال وتتحدث عن عالمهم"

(تشاك بولانيك)

    

يقدم تشاك بولانيك ما يمكننا اعتباره أدبا ذكوريا بامتياز[5]، هنا نحن في قلب عالم الرجال ومتورطون فيه من خلال بطلنا المجهول المصاب بالأرق والوحدة والضعف وهواجسه النفسية، وأمسكنا دون أن ندري بخيط يربط بين العنف والقتال ومفهوم الذكورية، أنت رجل فعليك أن تخوض معارك، ابتعد عن المعارك الحياتية الخاسرة، المعارك يجب أن تكون جسدية بالأساس، حينها فقط ستكتشف مدى قوتك كرجل.

   

يقول بولانيك إن كل شخص في "نادي القتال" بعد أن يمسح الدماء السائلة من وجهه المهشّم سيمضي في طريقه ويستمر في حياته أيًّا كان حلمه، فقط ما يحدث داخل النادي يساعد الرجال على المُضي قُدما، وهذا كل ما في الأمر[6]، إنه القبو المظلم الذي ابتكره بولانيك الذي يصلب أعمدته على تمارين جسدية ونفسية تستطيع أن تدفع الرجال للأمام، للمُضي قُدما باتجاه حياتهم التي تطلب منهم أن يكونوا رجالا. آخر قاعدة في عالم الرجال: خُض معاركك وكُن رجلا.

المصدر : الجزيرة