شعار قسم ميدان

أفضل خمسة أفلام في القرن الحادي والعشرين

لكل ما هو قديم سطوة لا يمكن إنكارها على الحاضر، حيث يُضفي مرور السنوات رونقا لا يُضاهى على كل الأشياء، حتى ليصبح إناء مهمل مضى عليه بضعة قرون أثرا خالدا يُحفظ في المتاحف. وبالمثل، فطالما كان الزمن معيارا أساسيا للحكم على الفن، فهو الأقدر على تحديد الغث من السمين، فأما الغث فيضيع في النسيان، وأما السمين فيبقى في ذاكرتنا دائما. وقد تسرّب ذلك الإعلاء من شأن القديم للذائقة الشعبية، فتوجد أمثلة وتعابير في كل الثقافات تؤدي إلى ذلك المعنى، فنطلق كعرب على الماضي لقب "زمن الفن الجميل"، أو "الزمن الجميل"، ونجد تعبيرا مشابها في الإنجليزية يقول: "القديم من ذهب" (Old is Gold). لكن، أليس في ذلك نوع من الظلم بالنسبة للأعمال الفنية في الوقت الحاضر؟ فهل يجب علينا الانتظار مئة عام لتحديد إذا ما كان ما يُقدَّم اليوم جديرا بالتقدير أم لا؟

بدا هذا الاحتفاء الكبير بالقديم على حساب الحديث واضحا جليا في استفتاء قامت به البي بي سي عام 2015، سعت فيه لتحديد أفضل مئة فيلم أميركي على الإطلاق وفقا للنقاد ودارسي السينما، لتكون المفاجأة أن القائمة النهائية لم تتضمن سوى ستة أفلام فقط صُنعت في القرن الحادي والعشربن. دفع هذا البي بي سي للقيام باستفتاء من نوع مختلف بعدها بعام واحد، طلبت فيه من 177 ناقدا صحفيا حول العالم تحديد أفضل مئة فيلم في القرن الحادي والعشرين.

وقد قالت المؤسسة في بيانها الذي عرضت فيه القائمة النهائية: "اليوم، نجد أن صناعة الأفلام، سواء بميزانيات ضخمة أو ضئيلة، تزدهر كما كانت على الدوام. هل الزمن هو ما يحدد ما يستحق البقاء؟ ربما. لكننا أردنا أن نثبت هذه المرة أن القرن الحادي والعشرين قد قدم لنا حتى الآن أفلاما ستصمد أمام اختبار الزمن، وسنبقى نفكر فيها ونتحدث عنها فقط لو أعطيناها الفرصة وشاهدناها كما تستحق". [1]لتلك القائمة أهمية خاصة، كونها الأولى من نوعها، ويعطيها ثقلا إضافيا كونها تصدر عن البي بي سي، إحدى أهم وأعرق المؤسسات الصحفية حول العالم. فيما يلي، سنستعرض أول خمسة أفلام في القائمة.

من المفارقات المثيرة للسخرية أن فيلم "طريق مالهولاند" (Mulholland Drive) الذي يتربّع فوق قائمة البي بي سي لأفضل مئة فيلم في القرن الحادي والعشرين لم يبدأ في الحقيقة كفيلم من الأساس. فبعد النجاح الذي حققه مسلسل "توين بيكس" (Twin Peaks)، قررت شبكة "abc" أن تمنح المخرج دافيد لينش الفرصة ليخرج مسلسلا جديدا. متحمسا، بدأ لينش على الفور في إخراج أول حلقة من حلقات هذا المسلسل، وعندما انتهى، لم تلق الحلقة استحسان مديري الشبكة، فقد وجدوا أجواءها ظلامية أكثر من اللازم، ذات إيقاع بطيء، وعصية على الفهم. بقيت تلك الحلقة مدفونة في أحد الأدراج، وربما لم تكن لترى النور أبدا، لولا تحمس مدير أستوديو آخر للفكرة وإمداده للينش بالنقود اللازمة لتحويلها إلى فيلم روائي.

لم يكن مديرو "abc" مخطئين تماما، ففيلم "طريق مالهولاند" أبعد شيء عن الجماهيرية -أحرز نجاحا متواضعا جدا في شباك التذاكر-، وربما الأسباب نفسها التي حالت دونه ودون المشاهد العادي هي ما جعلته محببا لدى النقاد ومحبي السينما من المثقفين أو المتخصصين. لا يملك الفيلم خطا سرديا متناغما وواضحا، بل خطوط كثيرة مبعثرة لا تتضافر مع بعضها البعض بالضرورة ولا يوجد لمعظمها نهاية منطقية. في الخط الأساسي، نشاهد بيتي، ممثلة صاعدة تحاول تحقيق حلمها في أن تصبح نجمة شهيرة؛ وعندما تدخل بيت خالتها حيث ستسكن في هوليوود، فأول شيء تجده هو امرأة غريبة خرجت من حادثة سيارة في الليلة الماضية وما عادت تذكر شيئا على الإطلاق. تحاول بيتي بحسن نية أن تساعدها، ويسعيان معا لمعرفة هويتها وماضيها؛ تعطينا تلك البداية إيحاء أن ما سنشاهده هو فيلم غموض أو جريمة سينتهي بحل العقدة في النهاية ومعرفة هوية المرأة، لكن كلما نُغرق أكثر في الأحداث، نعرف أن الأمر أكثر غموضا مما تخيلنا، وأن من يتلاعب به لينش هنا ليس أبطاله، بل نحن، المشاهدون.

فالفيلم على أكثر من مستوى هو لعبة معقدة، يدفعنا لينش فيها لاتجاه معيّن، وعندما نظن أننا وصلنا لفهم ما يريد، يحيد بنا في طريق آخر معاكس. ربما كان هذا البناء المُعقد للفيلم السبب في بقائه إلى الآن حيًّا في ذاكرة محبي السينما ونقادها، فعلى عكس الأفلام التي قد تقدم لنا متعة سطحية أثناء المشاهدة ثم ننساها فورا، يلعب "طريق مالهولاند" على مستوى آخر تماما، فكما قال الناقد آندي كلاين[2]، من المستحيل أن تفهمه منذ مشاهدة واحدة، ومن ثم تصبح أول مرة تراه فيها هي محض دعوة لتراه مرة أخرى بذهن أقل انفعالا، فقد بت تعرف كل المنحنيات الغريبة التي ستأخذها الحبكة، وتصبح أكثر قدرة على التأمل والتفكير في معنى ما تراه .وبالنسبة لمن رأوه مرارا بالفعل، لا يوجد اتفاق حقيقي حول ما يعنيه الفيلم، ما يجعله بمنزلة لغز لا يوجد حل واحد له، ويدعوك أنت لتعيد تركيب معانيه وتأويله من جديد.

في هونغ كونغ الستينيات، المزدحمة بالبشر والخالية من الدفء، ينتقل السيد تشاو والسيدة تشان للسكنى في منزلين متجاورين. وبالرغم من كون كلاهما متزوجا، فإنهما يبقيان وحيدين معظم الوقت، فزوجة السيد تشاو وزوج السيدة تشان يبدوان مشغولين للغاية، دائما في العمل أو يكونان مسافرين. يتقابل السيد تشاو والسيدة تشان كثيرا بشكل عشوائي بعدها، وعن طريق بعض الملاحظات الخاطفة، يتوصلان إلى أن زوج كلٍّ منهما يخونه مع زوج الآخر. في حالة من الصدمة والحزن، وفي محاولة تخطي ما تعرضا له من خيانة، تبدأ صداقة عميقة في النمو بينهما، لكن تلك الصداقة لا تلبث أن تأخذ منحى آخر تماما.

يُمثّل هذا الفيلم تنويعا على النغمة الأثيرة لدى المخرج وونغ كار واي: الوحدة والبحث عن الحب في عزلة المدينة الواسعة، تلك التي سمعناها من قبل في أفلامه الأخرى مثل "تشانكينج إكسبرس"، و"سعداء معا"، لكنها لم تصدح في أيٍّ من أعماله السابقة على "في مزاج رائق للحب" أو اللاحقة له بمثل تلك العذوبة التي نجدها فيه. فهنا رجل وامرأة يقعان في حب وُلد من أسى ولا مصير له سوى الفقد، يجدان أنفسهما تحت العين المراقبة للمجتمع، والصوت الأشد سطوة لضميرهما الذي يأبى عليهما أن يتحولا إلى خائنين، ومن ثم لا توجد مساحة لهما للحديث الصادق أو البوح. لقد سُلبا تماما فرصة التواصل عبر الكلام -سيشعران بتأنيب الضمير لو فعلا- فيتولى عنهما الحديث كل شيء آخر في الفيلم، من إضاءة وموسيقى وتأطير وألوان، ليصير "في مزاج رائق للحب" بمنزلة وثيقة شاعرية عن حب يُصاغ بغير الكلمات، ومشاعر تعبر عنها إيماءات خافتة وهمسات تخاف أن يسمعها أحد.

على أكثر من مستوى، يبدو فيلم "ستكون هنالك دماء" نسخة حديثة أكثر سوداوية من رائعة القرن العشرين "المواطن كين". فيدور كلا الفيلمين حول رجل يصعد من الحضيض لقمم المجد والسلطة والمال، لكن ذلك الصعود لا يأتي سوى على أشلاء الكثيرين، ويقوده ذهن لا يفهم للقيم معنى ولا يكترث سوى للوصول حيثما أراد.

في "ستكون هنالك دماء"، يقود ذلك الصعود دانيال بلاينفيو، رجل لا يُعرف له عائلة أو أصل، يسافر للجنوب ويحفر الأرض بحثا عن البترول. في حادث مُروّع أثناء التنقيب، يفقد رفيق له حياته، ويفقد هو قدرته على السير مستقيما وقد أصابه الحادث بالعرج. لكن ذلك لا يوقف سعيه الحثيث عن كنوز الذهب الأسود التي تجري في عروق الأرض، فيتقدم رغم إصابته، وقد تبنى ابن رفيقه، وأخذ يسافر من مدينة لمدينة يغوي أهلها بوعود الثراء والمال إذا ما باعوا لهم ما يمتلكونه من أرض؛ وعود لا تلبث بالطبع أن تتبخر فور حصوله على ما يريد، ليزداد بمرور السنين ثراء، وقسوة، وعزلة عن البشر.

يقول الناقد بيتر ترافيس عن هذا الفيلم: "دانيال بلاينفيو هو الوجه الخفي لقصة النجاح الأميركية، أو إن أردت أن تمد المجاز لأميركا نفسها، فيقوم بالاغتصاب والنهب تحت اسم تحقيق التطور، وينتهي به الحال مبعدا عن الجنس البشري الذي نسي منذ زمن بعيد كونه ينتمي إليه". [3]

عندما تسأل دودة القز أليس "من أنتِ"، لا يبدو أن أليس تعرف الإجابة حقا، فمنذ دخلت جحر الأرنب ذاك الصباح لم يعد شيء على حاله، فقد مرّت الصغيرة بتغييرات عديدة أفقدتها القدرة على معرفة من تكون. يبدو على شيهيرو هذا الارتباك نفسه عندما يسألها أحدهم عن اسمها فتجيب: بـسن، الاسم الذي أعطته لها الساحرة يوبابا وليس اسمها، ها قد بدأت بالفعل تنسى اسمها الحقيقي، ومعه أصلها وعالمها.

مثل أليس، بدأت رحلة شيهيرو بداية عادية، فكانت تجلس ذاك الصباح في المقعد الخلفي لسيارة والديها وعلى وجهها علامات التذمر؛ سينتقلون إلى مكان جديد، ولا يبدو أن شيهيرو سعيدة حقا بهذا التغيير. لكنّ منعطفا واحدا في الاتجاه الخطأ سيأخذها ووالديها إلى مكان آخر بعيد، تتلاشى عنده كل قواعد عالمنا؛ على الأعتاب، سيستسلم والداها لإغراء الطعام الشهي، فيزدردانه بنهم ليتحوّلا بعدها إلى زوج من الخنازير، ومن ثم تضطر شيهيرو الدخول لتلك الأرض الغريبة حتى تستعيدهما مجددا وتتمكن من العودة لعالمها.

لفيلم "المخطوفة" بناء بسيط ظاهريا، حيث تدخل البطلة إلى مكان غريب وتواجه عددا من التحديات حتى تنال هدفها النهائي في الخروج وأبواها سالمان، لكن في ثنايا ذلك البناء البسيط، وضع المخرج هايو مايازاكي عالما من التفاصيل الصغيرة صنع مادتها من خيالات وأحلام. لا تحلق تلك الخيالات وهذه الأحلام بعيدا عن الواقع، بل تتخذ منه نقطة ارتكازها، حيث يعد الفيلم بمنزلة رحلة رمزية تأخذ بتفاصيل ذلك الواقع وتضعها في منحنيات غريبة. فكما قال مايازاكي بنفسه، يعد الفيلم بمنزلة تعليق عمّا رآه من فقدان اليابان التدريجي لهويتها نتيجة لاستسلامها، كأبوي شيهيرو، لإغواء الرأسمالية، ووقوعها في مصيدة المحرك الأساسي لذلك النظام الاقتصادي: الطمع. ومن ثم فلم يكن هنالك من مُنقذ أفضل، للأبوين، ولعالم وتراث مهددين بالتلاشي، من فتاة صغيرة بريئة تجد العودة إلى حيث تنتمي أغلى من الذهب.

من بين كل الأفلام التي تحتويها القائمة الكاملة للبي بي سي ربما لا يوجد فيلم أكثر تجريبية من فيلم "الصبا"، فقد حقق هذا الفيلم ما لم يحققه أي عمل سينمائي قبله؛ نجح خلاله المخرج ريتشارد لانكلاتر في التقاط خيوط الزمن، وأخذ يتتبع ما يفعله مرورها فوق الجسد وداخل الروح.

عبر اثني عشر عاما، دأب لانكلاتر على تصوير الفتى إلار كولتراين، منذ كان في السادسة من عمره وحتى أتم الثامنة عشرة، ومعه ممثلو الفيلم الرئيسيون، ليخلق فيلما يصور لنا كيف يبدو مرور السنوات في الحقيقة. في لقطة ما نرى إلار وهو في الثامنة، وبعد نصف ساعة من الفيلم، يكون قد أتم الثانية عشرة، السنين يتم اختصارها في دقائق، فمثلما يلجأ العلماء إلى تصغير صور بالغة الضخامة للفضاء لنراها بشكل أفضل، يفعل لانكلاتر الشيء نفسه مع الزمن.

مع مشروع سيمتد أكثر من عقد من الزمن، لا يمكنك حقا أن تكون متأكدا من أي شيء. بدأ لانكلاتر تصوير الفيلم بلا شيء في ذهنه سوى الخيوط العريضة والنهاية، أما كل ما يحدث في المنتصف، فقد ترك مهمة ملئه ليتولاها الزمن نفسه وما يحدثه مروره من معرفة أعمق لأنفسنا. فترك لانكلاتر في كل شخصية من الشخصيات الأساسية، ومنها بالطبع شخصية ماسون البطل، مساحة كبيرة ليرسمها الممثلون أنفسهم، مستوحين حيواتهم الشخصية وما مروا به من تجارب ومن قابلوهم من أشخاص، ليبنوا عبره الشخصيات التي يمثلونها على الشاشة. وفي هذا، آثر لانكلاتر تحويل انتباهه من اللحظات الكبيرة التي نوليها جميعا انتباهنا، والتركيز أكثر على أخرى صغيرة غالبا ما نغفلها، لكنها تُشكّل في مجموعها أعمارنا، ليخرج لنا فيلم "الصبا"، أقرب شيء تمكنّا من رؤيته حتى الآن لمرور الزمن ورحلتنا كبشر في الحياة وقد التقطته كاميرا.

المصدر : الجزيرة