شعار قسم ميدان

فيلم "الفيل الأزرق 2".. رعب وخرافات ومرض نفسي

ميدان - الفيل الأزرق

"لا تخافوا ولكن احذروا"

إذا دخلت "عنبر 8 غرب" بمستشفى الأمراض العقلية، فاعلم أنك قبل الدخول، عليك أن تخلع أفكارك التقليدية عن المرض النفسي، لأنك هنا أمام أشخاص يرتدون ثيابهم الملائكية البيضاء، لكنهم، في الجزء المظلم من عالمهم الخاص، ارتكبوا جرائم غير منطقية، وقتلوا أقرب الناس لهم بسبب الجنون أو بفعل مسٍّ من الشيطان كما يخبرنا فيلم "الفيل الأزرق".

يمتد الجزء الثاني من فيلم "الفيل الأزرق" ليستكمل حلقات جديدة للسلسلة المُغلقة في الجزء الأول، يفتح أمامنا إشكالية جديدة بأدوات سابقة وهم الأبطال، وبالتحديد البطل الرئيس "دكتور يحيى راشد" الذي نراقبه في أول ظهور في الفيلم وهو تائه، مخمور، يعود إلى بيته شاردا بعد غياب في حالة تؤكد أن حياته لا تسير على أفضل حال رغم زواجه من حبيبته "لبنى" وتكوين أسرة تبدو سعيدة، حالة الشرود تلك تُذكّرنا بالتعرف الأول على يحيى في الجزء الأول. تتطور شخصية "يحيى" وتُحاصر بالخيالات والأحلام الغريبة، لكنه لا يزال في فقاعته الخاصة التي يحاول "الشرير" اختراقها.

بالطريقة نفسها كما في الجزء الأول، يتم استدعاء "يحيى" إلى عنبر 8 غرب للاطلاع على حالة مريضة نفسية حلّت لتوها على المستشفى ثم ارتكبت جريمة بشعة، هنا نعرف أن "يحيى" ترك مجال الطب النفسي منذ أعوام، وأن استدعاءه تم لأن المريضة طلبته بالاسم بعد أن رفضت الحديث مع أي شخص سواه، وهذا الاستدراج هو البوابة التي سيتورّط فيها البطل في رحلته مع المريضة "فريدة" التي تحفّها الأسرار والألغاز.

دائما ما تكون الشخصيات الجديدة في أفلام الأجزاء المتصلة هي الطرف الغريب الذي لا يأمن له الجمهور في قاعة السينما. نشاهد الظهور الجديد لدكتور "أكرم/إياد نصار"، لكنه مجرد شخصية تقود البطل إلى عالم المستشفى ولا يتطور دوره في الأحداث بصورة كبيرة، في المقابل، تُمثل الشخصية الجديدة "فريدة/هند صبري" المحور الرئيس لدفع الأحداث وتطورها. نحن نعرف يحيى ونثق فيه، لكننا لا نعرف ما الذي تحمله فريدة تلك، ومع تتابع مسارات الأحداث التي تُغذيها الإثارة والرعب نقع في شِباك الغموض والشك، في كل اللقاءات بين يحيى والمريضة النفسية فريدة نطالع المشهد من زاويته هو، لكننا نكتشف لاحقا أن ما نراه بعيونه غير حقيقي وأن فريدة لم تطِر في الهواء ولم تسقط على الأرض كما شاهدنا، وأن يحيى هو من جذبها من ثيابها البيضاء وأسقطها أرضا، هنا تتزايد شكوك المشاهد في سلوك البطل الذي أضحى غير موثوق فيه، لنأخذ مسافة منه أيضا لمراقبته وفهم ما الذي يحدث بعيدا عنه؟

شخصية الدكتور أكرم في فيلم
شخصية الدكتور أكرم في فيلم "الفيل الأزرق2"

"لا تثق في مدمن أو سيكوباتي"

في مشاهد غرفة العزل التي تقبع فيها فريدة تحدث المواجهة بينها وبين يحيى، يغلب على تلك المشاهد لقطات "close Shot" التي تقربنا أكثر من الوجوه، هذا القرب والتفحص يترك لنا انطباعات مخيفة عن الشخصيات وبالتحديد فريدة التي أجادت هند صبري في تجسيد كل تناقضاتها عبر تقلب ملامحها بين الابتسام والانتفاض والجنون والشر. ومن زاوية أخرى فإن كل ما يفعله يحيى هو النظر لها ومطالعتها، وهو ما يوحي على مدار أحداث الفيلم بأهمية فعل النظر لفهم ما الذي يحدث.

ما زالت "حبوب الفيل الأزرق" هي الأداة السحرية التي تُمكّن يحيى من السفر عبر الزمن وفك شفرات اللغز، ومع تناول ثلاث حبوب سنعرف كل شيء ونتأكد أن "نائل" العفريت أو الجني يفتش عن يحيى ويبحث عنه، وأن كل الإشارات طوال الفيلم تخبرنا بأن جسد يحيى هو الهدف الجديد لنائل ليستقر فيه، وأن يحيى منذ بداية الفيلم هو العدو الأول لنفسه، لا فريدة.

في واحد من الكوابيس التي تهاجمه في منامه يطارد يحيى نفسه داخل عربة قطار، وفي عراك طويل مع نفسه ينتهي بأن يقضي على نفسه بقبضة دامية، يحمل هذا الكابوس انعكاسا للحالة الذهنية والنفسية التي يعيشها البطل، لماذا يواجه نفسه؟ وما طبيعة صراعه الداخلي؟ وهل حياته مدمرة أم أنه مستسلم لواقعه؟ الكثير من التساؤلات التي لن نفسرها ولن يساعدنا إيقاع الفيلم اللاهث على التفكير في إجابتها، لكننا نتأكد أن يحيى، بعيدا عن أمور الجن والعفاريت، يعاني من مشكلة نفسية ما مع نفسه، وأن الرؤية الكاملة ستتضح في آخر مشهد في الفيلم.

بالعودة إلى فعل النظر وعلاقته بأزمة البطل، سنعرف لاحقا أن الجني "نائل" العدو القديم ليحيى ينتقل إلى جسد فريدة من منطقة ذاتية للغاية وغير متوقعة، وهي النظر إلى المرآة، وهي بطبيعة الحال لكونها امرأة فإن طقسها اليومي يتضمن مطالعة نفسها في المرآة، ومن ثم اخترق نائل جسدها عبر المرآة، تلك البوابة التي تكشف لنا نفوسنا وأجسادنا. وبربطنا لنظرية المرآة ورؤية يحيى لنفسه في أحلامه، لتصل بنا خيوط اللغز إلى مشهد النهاية الذي يفيق فيه يحيى ولا يفهم أين هو؟ وما الذي يحدث له؟ ثم يتجه إلى المرآة ليرى نفسه، ثم نعرف أن جسده يكسوه وشم يتحرك كفروع اللبلاب، لنفهم أن نائل احتل جسده، وهي النهاية التي انتهت بها الرواية المقتبسة منها أحداث الجزء الأول من الفيلم.

  

الدهشة بعيدا عن الواقع
مروان حامد، مخرج فيلم
مروان حامد، مخرج فيلم "الفيل الأزرق"
 

يسير مخرج الفيلم مروان حامد وفق خريطته الخاصة التي يحدد فيها موقع الكنز ثم يبدأ في رسم الطرق التي تؤدي إليه، وقبل أن يبدأ السير يتأكد أن كل أعمدة الإنارة ترشده إلى طريقه الصحيح. يمكننا الآن أن نسأل ببساطة، بعد أن قدّم مروان حامد فيلمه الطويل الأول "عمارة يعقوبيان" ثم فيلم "إبراهيم الأبيض"، لماذا تغيرت خريطته الفنية؟ ولماذا ابتعد عن الواقعية ليسلك طرقات الإثارة والخيال مع الكاتب أحمد مراد؟

في حديث معه عن تبلور فكرة تحويل رواية "الفيل الأزرق" إلى فيلم روائي يقول مروان إن السينما المصرية أضحت بحاجة إلى تغيير دماء لتتطور وتواكب التطورات التقنية والفنية التي يشهدها العالم، ورواية "الفيل الأزرق" جاذبة للغاية وتملك كل الصفات التي يحلم بها مروان في مرحلة إبداعية جديدة تتشكّل فيها ملامح طازجة للغته السينمائية، وبعيدا عن الصداقة التي تجمعه بالكاتب أحمد مراد فإن المعادلة التي أثارت خيال مروان تتمثّل في ثلاث زوايا هي: "نجاح الرواية، عامل الدهشة، البعد عن الواقع"، وهو ما يمكننا اعتباره مرحلة جديدة لأفلام الإثارة في سينما مروان حامد[1].

بالتزامن مع دخوله عالم الإثارة يعلن مروان في أحد اللقاءات عن تأثره بالمخرج ألفريد هيتشكوك في أفلام الإثارة والتشويق، وكيف استطاع خلق مفردات جديدة في هذا النوع السينمائي بتوظيف أحجام اللقطات، والمونتاج الحاد، وتوظيف الصمت لخلق حالة من التشويق، وغيرها من مفردات سينمائية. لكن، هل نجح مروان في خلق حالة من التماهي الفني مع مفردات هيتشكوك الملهمة؟

في حوار لـ"ميدان" مع دكتور هيمن التهامي، أستاذ السيناريو بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، حول عالم التشويق في سينما مروان حامد وتأثره بهيتشكوك، لا يجد هيمن علامات واضحة لهذا التأثر في سينما مروان حامد، فمن الصعوبة بحال حصر التأثر بأسلوبية مخرج عن طريق نقل حرفي للقطاته وزواياه في التصوير، يمكننا هنا اعتباره تحية منه للمخرج، ويدلل هيمن على حالة التأثر بهيتشكوك بأفلام "براين دي بالما" كمثال واضح على هذا التأثر ممزوجا برؤية براين الكاملة لعالمه، الحال نفسه ينطبق على المخرج البولندي رومان بولانسكي في فيلم "مضطرب" (Frantic)[2] أو المخرج الفرنسي فرنسوا تريفو في فيلم "العروس ترتدي الحداد" (La mariée était en noir)[3].

عزف على الإيقاع

لا تغيب عن ذاكرة الُمشاهد السمعية تفاصيل شريط الصوت في الفيلم، والموسيقى التي تستدعي بداخلنا بمجرد سماعها مشاعر بعينها. في أول ظهور لها تتابع الكاميرا "فريدة/هند صبري" في هدوء لتصل إلى وجهها البسيط والمخيف في آن واحد، وملابسها البيضاء التي تبدو ملائكية لكنها مسكونة بالشياطين، تتضارب مشاعرك تجاهها بين الجنون وقلة الحيلة، بين الهدوء وتباشير الشر، إلى أن تنطلق موسيقى "Theme" الفيلم، تلك التي سمعناها على خلفية خروج "نائل" من جسد "شريف كردي" في الجزء الأول، هنا، وبدون كلمات، نستدعي في ذاكرتنا السمعية ما تريد الموسيقى أن تخبرنا إياه، أن جسدها المرتبك يعيد سيرة "شريف كردي" وأنها تستكمل حكايته وحالته، وأنها بكل ما تبدو عليه من براءة تجسد الخطر الجديد الذي واجهه يحيى من قبل. تأتي الموسيقى لتكون عنصرا مكملا للحكاية وليست مجرد تفاصيل يتم إضافتها لزيادة جرعة الإبهار. وهو ما يؤكده هشام نزيه (مؤلف موسيقى الفيلم) في حوار سابق، فقد طُلب منه أن تكون الموسيقى جزءا مما يحدث في الفيلم، الذي يحمل كثيرا من التعقيدات وما فيه من ردود أفعال متعددة للممثل في المشهد الواحد[4].

المرض النفسي والسحر الأسود

undefined

قد لا يعجب الكثيرين معالجةُ الفيلم -والرواية- لحالات المرض النفسي التي تنتصر للحكاية التقليدية الشعبية المؤمنة بالسحر الأسود والمنكرة للمرض النفسي، لكنه أمر يبعدنا تماما عن مساحة تلقي الفيلم وفق وجهة نظر صُنّاعه، واختيارهم تقديم معالجة تبعد عن الواقع وتحلق في فضاءات الخيال هدفها هنا أن تقدم نوعا سينمائيا غائبا عن السينما المصرية وهو الرعب والتشويق. 

في سؤال "ميدان" لدكتور هيمن التهامي عن رؤيته للتصنيف النوعي لفيلم "الفيل الأزرق" يرى أنه ينتمي بوضوح إلى سينما الرعب، لكن، تكمن المشكلة في مصدر هذا الرعب، وهو الجني "نائل". يوضح هيمن أن البناء الدرامي لأفلام الرعب يعتمد على وجود وحش (monster) الذي يحيلنا سبب وجوده إلى خطيئة ما ارتكبها البطل أو أي شخصية في العالم الدرامي بشكل أو بآخر، وهنا يكتسب الوحش سمة تجعله أكثر قوة من البطل الرئيس الذي سيتحول إلى مجرد رد فعل لما يحدث له في عالمه الخاص، إلى أن ينتهي الحال بكشفه لطبيعة هذا الوحش بشكل كامل والذي يتطرق في الأغلب إلى صراع بهدف ديني بين البطل والوحش وصولا إلى النهاية التي قد ينتصر أو لا ينتصر فيها البطل. ما شاهدناه في الجزء الأول من الفيلم يضعنا في حالة من عدم الوضوح أمام "نائل" الذي لم يكن صاحب خطة واضحة أو يملك قدرات خارقة، وفي المقابل لم يكن يحيى يعاني أي مشكلة دينية تجعل لقاءه مع الوحش تنتهي إلى إعادة التفكير في الإيمان، كما أن أصل الخطيئة المتسببة في ظهور الجن، هو السحر الأسود الذي قامت به "ديجا/شيرين رضا" وانتهى الحال في الجزء الأول من الفيلم بنهاية بسيطة وشبه هادئة لنائل، وانتهى الأمر بسهولة لم تكن موفقة.

ربما لم يسر السيناريو في كل خطواته على المسارات المعتادة لمعالجات أفلام الرعب العالمية، لكن استكمال الحكاية في جزء ثانٍ أزالت الستار عن غموض مصدر التهديد والرعب في حياة البطل، وكان التركيز الأكبر على أهدافه وجذوره دون الحاجة إلى الإغراق في التعريف بتفاصيل عالم البطل الذي نعرفه، وهو ما تم التعامل معه بحذر وعدم إغراق في الجزء الجديد. لكن مع النهاية المثيرة التي انتهى عليها الفيلم، يُطرح تساؤل: هل سيعمل صُنّاعه على معالجة جديدة لاستكمال القصة في جزء ثالث يضعنا أمام بوابة جديدة من التشويق والرعب النفسي؟ وهل جمهور الفيلم متشوق لمعرفة المصير المجهول لبطل "الفيل الأزرق"؟ على صُنّاع الفيلم التفكير مليا قبل الإجابة على هذه الأسئلة، حتى لا يهدموا بأيديهم واحدا من أكثر الأفلام الجماهيرية في الفترة الحالية من صناعة السينما المصرية.

المصدر : الجزيرة