Once Upon a Time in Hollywood.. لماذا يرى الجمهور الفيلم مملا؟
26/8/2019
كجريان النهر في مساراته، تتدفق فنون القصة في شرايين الإنسانية. وبنهم، نستهلك يوميا الروايات والأفلام والمسلسلات، ونتلمس رغباتنا في الإنصات من أجل التلصص على الحياة في حكايات الآخرين. حياة واحدة لا تكفينا لنعيش، وإن كنا لا نجيد الحكي فإننا نفتش عنه، ونصغي إلى الرواة، ونتوهم مراكب تسير بنا فوق عوالم متخيلة.
هكذا يرى روبرت مكي فن القصة، ويفسر شهيتنا إلى القصص باعتبارها انعكاسا عميقا لحاجة البشر في الحياة، فالقصة تعطي للحياة شكلا ما (1). وإذا كانت السينما هي فن حكي القصة بالصورة، فإن كونتن تارنتينو هو الراوي الذي لا يملك حكايات قبل النوم الجاهزة، لكنه يملك البذور التي يغرسها أمامنا على الشاشة، ويرويها على مهل، ويجلس بجوارها -غير مكترث- لساعات إلى أن تزهر وتغدو حكاية تختزل بداخلها الحياة التي يريد أن يحكيها.
على مدار ما يقرب من ثلاثين عاما يمتهن كونتن تارنتينو الإخراج السينمائي وكتابة السيناريو، وجاء فيلمه الأخير "Once Upon a Time In Hollywood" ليستكمل الحلقة قبل الأخيرة في سلسلة أفلامه، والتي سينهيها بعشرة أفلام. ربما سمعت أن الكثيرين دخلوا الفيلم في السينما وغادروه بعد الاستراحة، على الأغلب جاء هؤلاء فقط لمشاهدة ليوناردو دي كابريو مع براد بيت مجتمعين في فيلم، والأكيد أنهم ليسوا من جمهور تارنتينو وعلى الأغلب لا يحبونه كثيرا. دعونا الآن نقرأ الفيلم بتأنٍّ ونحاول معا فك شفرات القصة.
"الطريقة التي نتحدث بها عن تارنتينو وأحدث أفلامه هي الطريقة التي نتحدث بها عن الفن في 2019"
(إيملي تود)
كان يا ما كان
ذاع صيت تارنتينو مع "قصة شعبية رخيصة" أو (Pulp Fiction) فيلمه الثاني الذي بات درسا تأسيسيا لسينما ما بعد الحداثة، وهنا اختبر تارنتينو لأول مرة حكي قصة أقل من عادية بطريقة متشظية وغير متسلسلة في ثورة منه على السرد الكلاسيكي (2)، وراح يتنقل بأجنحة طليقة بين الأزمان والمشاهد والأحداث، غير مهتم بتشتت المشاهد. في النهاية، فإن المتلقي المفتون بالحكي سيستمتع بالفيلم حتى لو حكيت له أحداثه دون ترتيب، كأنه ثرثرات يجمع أطرافها من هنا وهناك ليخلق منها القصة في صورتها النهائية.
حديثنا عن سينما تارنتينو ما بعد الحداثية ستقودنا إلى فيلمه الجديد الذي ما زال غارقا في سمات التشظي، وإن كنا هذه المرة أمام ترتيب زمني واضح، وأحداث الفيلم التي تدور في نهاية الستينيات على مدار يومين ونصف اليوم -نصف اليوم يأتي بعد شهور من اليومين- بالتحديد في هوليوود، مدينة السينما والمشاهير وأستوديوهات صناعة الأفلام، من خلال شخصيتين رئيستين "ريك دولتن/ليوناردو دي كابريو" بطل أفلام الويسترن الشهير ودوبليره الخاص "كليف/براد بيت"* وتستمر الأحداث العادية للغاية إلى أن تنتهي بنا آخر مشاهد الفيلم بجريمة قتل. إذا اخترنا أي كاتب سيناريو آخر ليصنع هذا الفيلم سيركز الضوء على الجريمة ويبدأ أحداثه منها وحولها، لكنك مع تارنتينو ستغرق في الكثير من التفاصيل والأحداث غير المهمة، ثم تظهر لك الجريمة في نهاية الفيلم، تحديدا في الربع الأخير منه ثم ينتهي كل شيء، وإذا بدا لك الأمر عبثا فإنه -بحسب نظرة تارنتينو للسرد- يحاكي الواقع الذي نعيش، واقعنا المليء بالتفاصيل المملة والحوارات غير المجدية التي يتخللها القليل من الأحداث المثيرة.
في واحد من مشاهد الفيلم الطويلة -والمملة أيضا- يعود "كليف/براد بيت" إلى بيته، ويحضّر الطعام لنفسه ولكلبه ثم يجلس لمشاهدة التلفاز، يبدو مشهدا عاديا ومتكررا ويخبرنا عن شخصية كليف الوحيد مع كلبه، لكن المشهد يستغرق زمنه على الشاشة ما يقرب من خمس دقائق، وهذا زمن طويل، ولأننا بحكم مشاهداتنا للأفلام التي لا تُقدّم أحداثا أو معلومات مجانية نتوقع أن يحدث شيء في نهاية المشهد، مداهمة للبيت مثلا أو تعرض كليف للتسمم، لكن لا يحدث شيء على الإطلاق، ينتهي المشهد فجأة ونستمر في سلسلة أخرى من المشاهد الطويلة التي لا تُفجّر شيئا حقيقيا في النهاية. في حوار الناقد كلارك كوليس مع الممثل براد بيت سأله عن هذا المشهد بالتحديد والذي لم يكن في رأيه ممتعا بما يكفي، فأجاب براد بيت أن هذا هو تارنتينو الذي يبني لنا زمنا دراميا للفيلم يدور في يومين ونصف، وعليهم أن يكونوا محاكاة لكل التفاصيل الرتيبة -قبل المهمة- ليومين ونصف (3). ومن هنا قد يتولد لدى المشاهد شعور بالملل، لكنها الطريقة التي يغزل بها تارنتينو تفاصيل الحكاية دون تشذيب.
ذكرنا أن الملل على الأرجح هو دافع البعض لمغادرة الفيلم في منتصف المشاهدة، لكن هل هذا السبب هو الوحيد ليبدو الفيلم سيئا للبعض؟ وهل إذا أخبرتك أن شخصيات الفيلم حقيقية، وأن جريمة القتل تلك حدثت بالفعل في الزمن نفسه، هل سيتغير رأيك في الفيلم؟ على الأرجح ستكون الإجابة نعم، والآن علينا أن نكشف بعض التفاصيل.
الأحداث حقيقية تماما.. ولكن
في مساء يوم صيفي حار كانت "شارون تايت" تقضي سهرتها في بيتها برفقة أصدقائها "جاي سبرينج، أبيجيل فولجر، وجيتش فريكوفسكي". لم تكن شارون تعرف أن هذه الأوقات المرحة ستكون الساعات الأخيرة من حياتها التي ستنتهي باقتحام مجموعة من المختلين بيتها لقتلهم جميعا وقتل شارون وجنينها. عُرف القتلة بـ"عائلة مانسون"، وهم أسرة بالفعل يترأسهم الأخ الكبير شارلز وأخواته البنات وهم من المنتمين لجماعة "الهيبز". ربما لا يعرف جيلنا من هي شارون، لكنها ممثلة أميركية كانت في بداية الستينيات تشق طريقها في مجال التمثيل، وهي أيضا زوجة واحد من أهم المخرجين البولنديين المشهورين في هوليوود "رومان بولانسكي" (4)، لكن ما علاقة حادثة القتل تلك بفيلم تارنتينو؟
ما شاهدناه في نهاية فيلم "Once Upon a Time in Hollywood" أن مجموعة من شباب الهيبي -لا نعرف حتى أسماءهم- يتسكعون في الضاحية التي يقطن فيها أبطال الفيلم، ثم يقررون بمنتهى العبثية أن يقتحموا بيت "ريك دالتون/ليوناردو دي كابريو"، وردا للجميل الذي يقدمه ممثّلو هوليوود من مشاهد عنف وقتل قرروا أن يقتلوا "ريك" وأهل البيت بالعنف نفسه. وبالفعل اقتحموا البيت، وتصدّى لهم "كليف/براد بيت" هو وكلبه، وبعد عراك طويل تمكّن من ردعهم. تنتهي الليلة بإصابات في ساق "كليف" وقتل شلة المعتدين كلها. بإمكاننا الآن فهم اللعبة، شباب الهيبي هم عائلة مانسون، وتارنتينو، كعادته القديمة، يتلاعب بالحقائق، ويقدم مشهدية جديدة ومغايرة للتاريخ، ويختار أن يقتل عائلة مانسون وأن تستكمل شارون وأصدقاؤها سهرتهم السعيدة.
فن السينما هو فن محاكاة الواقع، وهذا يقودنا إلى معادلة مهمة في تقييمنا للأفلام الروائية، كلما استطاعت محاكاة الواقع تكون ناجحة، وإذا فشلت حينها سيختلف الأمر، ولا تنسَ الآن أنك أمام مخرج كما ذكرنا في البداية يكسر كل التابوهات الكلاسيكية لفن السينما والسرد السينمائي، ووفق ما سبق لا يمكننا القول إن الفيلم فشل في محاكاة الواقع، بل إنه منذ المشاهد الأولى من الفيلم يقدم لنا صورة سينمائية نجحت في محاكاة هوليوود في الستينيات، وبالتحديد أفلام الـ "Western" والـ "cowboys" من خلال بطل الفيلم "ريك" والدوبلير "كليف"، وتنقّلنا معهم بين أروقة الأستوديوهات في جولة ممتدة على مدار زمن الفيلم، كما أنه لم يخدع الجمهور في بداية الفيلم بجملة "أحداث الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية"، فلا مجال هنا لاتهام خياله بتزييف الواقع.
تقف الناقدة إيميل تود عند تلاعب تارنتينو بالواقع وتقول إن الخروج عن سجلات التاريخ ليس مشكلة، فالخيال غالبا ما يوظّف من أجل تصحيح الواقع (5)، وهو الأمر الذي يقدّره الكثير من محبي تارنتينو، بل ويزيد من إعجابهم بمعالجاته الدرامية المجنونة. في فيلمه السابع "Inglourious Basterds" يفعل تارنتينو الشيء نفسه، ويقرر أن يقدم نهاية مغايرة لـ"أودلف هتلر" بأن تحترق دار العرض السينمائي به وبأتباعه ويلاقوا حتفهم. نعرف جيدا أن هتلر لم يمت بهذه الطريقة، لكنه اختار أن يعود بالزمن، بالآلة السحرية التي يعرف "السينما" ليصب كل خياله الجامح، ويقرر أن يتلاعب بميزان الحقيقة، فيقتل هتلر في السينما على يد اليهودية "شوسانا دريفوس"، وينقذ "شارون تايت" من القتل هي وجنينها وتستكمل سهرتها المرحة مع أصدقائها، كأن جملة "ماذا لو عاد بي الزمن" لا تُشكّل عقبة عند تارنتينو، سنصنع أفلاما ونعدل في الماضي كيفما نشاء.
ربما تقودنا التفاصيل السابقة إلى الذهاب إلى غوغل (google) والبحث أكثر عن شخصيات الفيلم، وسنفاجأ حتما بعشرات المقالات والفيديوهات التي ستخبرنا أن كل شخصية شاهدناها في الفيلم تحاكي شخصية واقعية بالفعل، وهو ما سيجعل قراءتنا للفيلم تختلف، لكن هل تبدو هذه الفكرة صائبة دوما؟
لا يمكننا إغفال الأمر، فالفيلم يبدو عاديا لمن لا يعرف تلك الحقبة جيدا، ومن لا يعرف كل الشخصيات والأحداث، خاصة الشباب والمراهقين من الجمهور، وهو أمر يوافق عليه كونتن تارنتينو أيضا، لكنه يصف شباب الجمهور بالسرعة، وثقافتهم السريعة ستجعلهم يسألون غوغل عن كل اسم يُذكر أو يظهر في الفيلم، لكن من وجهة نظره فإن الأمر لا يتطلب أن تعرف كل الشخصيات الحقيقية لتفهم الفيلم، وأن شارون تايت ممثلة حقيقية قُتلت بالفعل وأنها مثّلت في فيلم كذا قبل فيلم كذا، أو أن من تشاجر مع "كليف" هو الممثل الشهير "بروس لي" (6). من وجهة نظره كصانع الفيلم علينا أن نُقدِّر أنه لم يصنع فيلما ليؤرّخ حادثة القتل فحسب، بل إنه مشغول بالحكي والمحاكاة، بتقديم فيلم أشبه بتحية أو رسالة حب لأفلام "السباجيتي ويسترن" (7) وأجواء هوليوود في حقبة الستينيات، ويقدم لنا فرصة ذهبية للتجول في أروقة الماضي، وما علينا إلا الاستمتاع والانغماس في التفاصيل دون شغل عقولنا بسؤال "وماذا بعد؟".
"يكون تارنتينو في أفضل حالاته عندما يكون مدفوعا بالعاطفة، ولهذا السبب يعد فيلم "Once Upon a Time in Hollywood" واحدا من أفضل أفلامه"
(ستيفاني زاكريك)
بصمات سابقة
على مدار ساعات الفيلم لن تشعر بغربة عن عالم تارنتينو، بل إن الفيلم أشبه بخلطة من كل أفلامه السابقة، في إيقاع المشاهد، الحوارات الطويلة التي لا تُفضي إلى شيء، مشهد حرق النازيين على يد "ريك" يذكرنا بفيلم "أوغاد مجهولون" (Inglourious Basterds)، ومشاهد السيارة بين دي كابريو وبراد بيت تُذكّرنا بجون ترافولتا وصامويل جاكسون في فيلم "pulp fiction"، حتى إن دي كابريو وبراد بيت هما أبطال اثنين من أفلام تارنتينو السابقة، كأنه يستحضر مرة أخرى كل أدواته في خليط ينتج عنه دراما جديدة.
في واحد من أمتع مشاهد الفيلم نرى مشهدا بالكامل يصوّره "ريك" في واحد من أفلام الويسترن التي اشتهر بها في هوليوود، وهذا المشهد يعكس حالة الإحباط والارتباك التي يعيشها البطل في تلك المرحلة من حياته السينمائية حيث خفوت نجم أفلام الويسترن، وانطفاء وهجه السينمائي كما كان حاله في الخمسينيات. في هذا المشهد الطويل يصور لنا تارنتينو مشهدا بداخل مشهد، ولا تشعر هنا أنك أمام خدعة، بل تتماهى مع الأحداث والقصة الصغيرة التي يُمثّلها "ريك" الذي اشتهر بدور الشرير في الأفلام. ثم تتورط معه في إخفاقاته، وعودته إلى غرفته كالمجنون وهو فاقد السيطرة على نفسه لأنه لم يستطع أن يُمثّل المشهد جيدا، ثم يعود ليقدم أفضل مشهد تمثيلي له على الإطلاق، وأقصد هنا "ريك" و"ليوناردو دي كابريو". هذا المشهد وإن بدا رسالة حب لأفلام الويسترن، فهو أيضا يضعنا موضع المرآة السرية لممثل هوليوودي يخشى أن يبكي ويعلن ضعفه وإخفاقه أمام الناس، وهو أيضا واحد من أجمل مشاهد ليوناردو دي كابريو في الفيلم الذي اختبر ومر بكل منحنيات الازدهار والأفول السينمائي.
قد لا يعجب الفيلم الكثيرين، ومحبو تارنتينو قد يختلفون في انطباعاتهم عنه، لكن الأكيد أن تارنتينو ما زال ماهرا في السير على الطريق المتعرج الذي رسمه لنفسه منذ البداية، غير مكترث بالطريقة التي تسير عليها السينما من حوله، أو الطريقة المعتادة التي تُحكى بها الحكايات، وكل ما علينا فعله هو السير خلفه لنرى القصة بعينيه.
———————————————————————-
هوامش:
*الدوبلير أي الممثل الذي يؤدي الأدوار الخطيرة بدلا من البطل ويكون شبيها له.
المصدر : الجزيرة