شعار قسم ميدان

"يوم وليلة".. ديستوبيا سينمائية مصرية جديدة

ميدان - يوم وليلة
اضغط للاستماع

   

منذ أكثر من عقد ونصف تقريبا، انتشرت في الأفلام السينمائية المصرية بصورة لافتة ثيمة الديستوبيا*، وهي ثيمة سينمائية درامية تحكي عن انهيار الدولة والمجتمع في مصر، سواء تناولت تلك الأفلام لحظة الانهيار نفسها كما في فيلم "ساعة ونص"، أو المجتمع وقد أوشك على الانهيار بالفعل كما في فيلم "عصافير النيل"، وغيرها من الأفلام التي تتحدث عن ضيق هامش الحياة في مصر، بداية من فيلم "عمارة يعقوبيان" للمخرج الشاب مروان حامد، مرورا بفيلم "قص ولزق" للمخرجة الشابة هالة خليل، وفيلم "نوارة" للمخرجة نفسها، وفيلم "ديكور" لأحمد عبد الله، وصولا إلى فيلم "يوم وليلة" للمخرج الشاب أيمن مكرم وإنتاج "دار المرايا للإنتاج الثقافي".

     

الأمر الجدير بالملاحظة هو أن غالبية تلك الأفلام، على اختلاف الفترة التي ظهرت فيها، هي لمخرجين شباب ينتمون للمرحلة العمرية نفسها تقريبا، بدءا بفيلم "عمارة يعقوبيان" الذي كان صادما وقت عرضه، إذ كان الأول من نوعه تقريبا، حيث يُصوِّر الحياة في مصر واقعة في بركة من الفساد والكُره والعنف، ويترك المشاهد أمام نهايات مفتوحة سوداوية أتت صادمة للجمهور المصري، واستمر هذا الخط من الأفلام حتى قيام الثورة في مصر عام 2011، ثم توقف أثناء أعوام الثورة الثلاثة، إلى أن عاد من جديد مع هزيمة الثورة وعودة الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه، وهو ما يصل بنا إلى آخر تلك الأفلام، فيلم "يوم وليلة" الذي يُعَدُّ باكورة الإنتاج السينمائي لدار المرايا.

   

يُعَدُّ الأمر المميز في الفيلم أنه الأول من نوعه في الفترة الحالية، وفي ظل أجواء رقابية بوليسية على الفن الذي يتناول قضية الأمن والشرطة في مصر، وتعامله مع عموم المواطنين ومع عالم الجريمة في مصر من خارج السردية الرسمية للدولة التي أمّمت غالبية الإنتاج الفني السينمائي والدرامي في مصر، فنجد في هذا الفيلم سردية مختلفة لواقع الحياة في مصر وموقع أجهزة الدولة من هذه الحياة، إلا أن الفيلم وبالقدر نفسه يُعَدُّ تعميقا لحجم السوداوية والكآبة التي طبعت الأفلام التي تناولت الحياة في مصر في العقد ونصف الأخير، فما الجديد الذي يُقدِّمه فيلم "يوم وليلة"؟

   

     

العالم السفلي في مصر

يحتوي الفيلم على خط رئيسي لمسار الأحداث تتفرّع منه خطوط وقصص فرعية مختلفة، الخط الرئيسي هو الصراع على العالم السفلي في مصر، الصراع وتقاسم النفوذ ما بين جهاز الداخلية وأقسام الشرطة في المناطق الشعبية، وبين عالم البلطجية وتُجّار السلاح والمخدرات وعصابات السرقة المنظمة، تظهر الداخلية مُمثَّلة في شخصية أمين الشرطة "منصور الذهبي" التي قام بها خالد النبوي، والذي كان مُكلَّفا بالتعامل مع التشكيلات المنظمة من العصابات والبلطجية، ليس بغرض القضاء عليها وتطبيق القانون، ولكن بغرض إدارتها ووضع خطوط حمراء تعمل تحتها ولا تتجاوزها، فضلا عن اقتسام أرباح "بيزنس الجريمة" معها حتى لا يراكم أصحابها رأس مال يُمكِّنهم من تضخيم نفوذهم وسطوتهم، كما يُوضِّح أمين الشرطة منصور الذهبي نفسه في الفيلم.

  

الصراع يدور في حي شعبي هو حي السيدة زينب، وهو من أعرق المناطق في العاصمة المصرية القاهرة، وهو حي سكني عتيق في قلب القاهرة يجمع الطبقة الدنيا بالطبقة الوسطى الدنيا، حيث نرى شريحة الموظفين في المصالح الحكومية وأمناء الشرطة والمدرسين في المدارس الحكومية والممرضات جنبا إلى جنب مع الحرفيين والعاملين في الورش الصناعية وعاملي البناء وأبناء عالم البلطجة وتجارة المخدرات والسلاح والدعارة، كلهم يتحركون في هامش ضيق جدا للحياة، ففرص العمل ومصادر الرزق ضئيلة جدا يتصارع عليها الجميع ليعيشوا.

   

درة في دور الممرضة في فيلم
درة في دور الممرضة في فيلم "يوم وليلة" (مواقع التواصل)

    

وقد اختار صانعو الفيلم أن تكون أحداثه في يوم مولد السيدة زينب، و"المولد" هو تجمع شعائري صوفي، حيث يختلط التصوف بالمخدرات طوال الفيلم كطريقين أساسيين عند شخصيات الفيلم للهرب من عالمها القاتم، مع وجود رمزي لفرقة فنية شبابية غربية اختارت يوم المولد للعزف وسط الشوارع الضيقة والبنايات المتهالكة، ويعمّ مع قدومها شعور بالبهجة والفرح، كدلالة على أنه ربما يُخفِّف الفن من وطأة الحياة.

   

تظهر شخصية أمين الشرطة منصور الذهبي كشخصية مركزية في هذا العالم، فهو حلقة الوصل بين عالم القانون ومؤسسة الشرطة وبين عالم الجريمة والبلطجة، حيث يديره منصور ويُشرف عليه بشكل يومي، يقسّم منصور الذهبي عالمه إلى قسمين: الزنزانة بداخل قسم الشرطة، والعالم الخارجي، ويجب أن يظل العالمان تحت السيطرة وتحت إشرافه، وكل عالم له خطوطه الحمراء التي يتم الحفاظ عليها بالتعاون مع كبار البلطجية في العالمين، ويتم توزيع الأرباح بحصص يتفق عليها الجميع، والجديد في الفيلم أن منصور الذهبي لا يظهر في كل هذا كشخص فاسد يستعمل صلاحياته بشكل يخالف القانون كما في فيلم "هي فوضى" ليوسف شاهين وخالد يوسف، بل إن ما يقوم به هي تعليمات موكلة إليه من رؤسائه في وزارة الداخلية، التي تتعامل مع البلطجية كأدوات ضبط مجتمعي، وفي أحيان كثيرة كأداة للعقاب والمراقبة سواء في الزنزانة أو العالم الخارجي، فالبلطجية كما الشرطة في الفيلم حريصين أشد الحرص على إدارة المولد بشكل مربح للجميع.

   

عالم من المُذنبين.. تعميق الديستوبيا المصرية

في أفلام مثل "ساعة ونص" أو "عصافير النيل"، تظهر شخصيات الفيلم كضحايا أبديين، وأن الأزمة أو المشكلة هي إما في النخبة الحاكمة وإما في أجهزة الأمن وإما في الظروف العامة للبلد، لكن في "يوم وليلة" نجد أنفسنا أمام واقع مختلف، حيث جميع شخصيات الفيلم لها نصيبها من الذنب العام ومتورِّطة في دائرة من الفساد، وبينما تلعن كل شخصيات الفيلم حياتها وظروفها تحدث حالة مستمرة من إزاحة القهر والاستغلال على الطرف الأضعف، حيث يحكم الجميع ظرف اجتماعي-أمني واقتصادي ضاغط يجعل هامش الحياة يضيق يوما بعد يوم على الكل، حتى أمين الشرطة نفسه يعاني من ضيق العيش وصعوبة متطلبات الحياة.

   

خالد النبوي في دور أمين الشرطة في فيلم
خالد النبوي في دور أمين الشرطة في فيلم "يوم وليلة" (مواقع التواصل)

     

في الفيلم، تظهر موظفة حكومية مسيحية تعاني من ضغط الكهنوت الكنسي عليها، فلا تستطيع الطلاق ولا الزواج من جديد، تمرض والدتها فلا تستطيع إلا إدخالها مستشفى حكومي رديء الجودة، تضطر لدفع رشوة إلى الممرضة لترعى والدتها المصابة بقرحة فراش الحد الأدنى من الرعاية، ثم تذهب لعملها في مصلحة حكومية ولا تقوم بإنهاء معاملات الناس الحكومية إلا بعد إجبارهم على دفع رشاوى لها، وأثناء عملها تلتهمها عيون زميلاتها الموظفات، فهي تحت مراقبة زميلاتها في المكتب ومراقبة الكهنوت المسيحي ومراقبة نفسها وقلقها على والدتها المريضة تئنّ من الضغوط، فيما يعمل شقيق الموظفة المسيحية في مدرسة يعاني فيها هو الآخر من طائفية زميله المدرس ذي اللحية الكبيرة والسمت السلفي، الذي يعاني هو الآخر من عدم قبوله كمدرس خصوصي بذريعة أنه "يشبه المنتمين لداعش" في صورة طائفية بديلة.

 

الممرضة التي أخذت الرشوة من الموظفة المسيحية تعاني من استغلال وقهر مضاعف، تارة من استغلال طليقها لها وحاجتها إليه لتربية ابنها وتعليمه، ابنها الطفل الذي يعاني بدوره من الضرب والعنف من قِبل المدرس المسيحي شقيق الموظفة الحكومية التي دفعت الرشوة للممرضة نفسها التي تعاني تارة أخرى من زوجة أخيها التي يستضيفها في بيته بعد طلاقها، وتارة من تحرشات واعتداءات بلطجي المنطقة (أحمد الفيشاوي)، والبلطجي نفسه الذي يعتدي على الممرضة يعاني من استغلال "المعلم بجاتو" البلطجي الكبير الذي يأخذ كل ما يسرقه البلطجي وزميله ثم يلقي لهم بالفتات، "المعلم بجاتو" بدوره يعاني من تسلُّط الشرطي منصور الذهبي عليه والاستيلاء على غالبية أرباحه في "بيزنس الجريمة"، ووقت أن حانت ساعة الصدام بين "المعلم بجاتو" ومنصور الذهبي، استطاع الذهبي أن يُلقي القبض على بجاتو بحجة أنه تعدّى "الخطوط الحمراء" وسعى لامتلاك سلاح آلي!

   

بلطجي المنطقة (أحمد الفيشاوي) مع أمين الشرطة
بلطجي المنطقة (أحمد الفيشاوي) مع أمين الشرطة "خالد النبوي" (مواقع التواصل)

    

بينما كلّف الشرطي منصور الذهبي "معلما" جديدا يتولى إدارة الأعمال الإجرامية بالمنطقة ممثلا عن وزارة الداخلية ويحل محل بجاتو، بعد أن كان يتولى إدارة زنزانة القسم، أما البلطجي الذي يقوم بدوره أحمد الفيشاوي فمن الآن وصاعدا سيعمل تحت إمرة منصور الذهبي مباشرة، وإلا فإنه سيدمر حياته، هكذا في إعادة إنتاج للقهر والضغط الاجتماعي على الجميع، بلا إدانة واضحة لجهة معينة أو شخص بعينه، في عود أبدي كئيب للذنب والاستغلال والظلم.

 

وفي مشهد ذي دلالة رمزية بالغة، يشعر الشرطي منصور الذهبي بنوع من العار أو الوصمة الاجتماعية بسبب ابنته الوحيدة المعاقة ذهنيا، في أثناء رجوعه في ذروة صخب المولد، وجد ابنته أمامه وقد خرجت من المنزل وبدأ الصبية يتجمعون حولها ويضايقونها بتحرشات صبيانية، فتسقط الطفلة المعاقة على الأرض، وعندما يشاهدها ينفجر منصور الذهبي ويبدأ في الانتقام من الصبية، يحاول المارة من أهل الحي تهدئته وتذكيره بأنه شرطي والشرطة في خدمة الشعب، يخبرهم منفعلا: "وأنا أخدم ناس زيكم ليه، هو انتو ناس تستحق الخدمة، لما تبقوا تخدموا بعض الأول، منصور مش خدام حد، منصور الدهبي سيدكم".

     

 
 
 
View this post on Instagram
 
 

"اللي يهوب ناحية فرحه، أقص له رجله" 😀 #منصور_الدهبي #يوم_وليله 6 يناير في دور العرض 😎😉

A post shared by Khaled El Nabawy (@khaledelnabawyofficial) onJan 3, 2020 at 8:58am PST

  

ورغم أن هذا المشهد يُظهِر كمّ النرجسية واحتقار الشعب الذي يُكنّه أفراد الشرطة في مصر، وكمّ الغرور والامتيازات الاجتماعية التي يتمتعون بها، وكيف ينظر رجال الشرطة للمجتمع على أنه مجتمع فاسد متورط كله في الفساد والسرقة والعنف والبلطجة والفجور، فإنه يُظهِر جانبا إنسانيا وفنيا خصّه الفيلم بشخصية الضابط منصور الذهبي وحده، بينما تقع باقي شخصيات الفيلم في خانة الشخصيات المسطحة السريعة ذات الملمح الدرامي الواحد.

   

لا توجد في نهاية الفيلم أي بارقة أمل، لم تتحسّن حياة أي شخصية من الشخصيات الكثيرة التي ظهرت في الفيلم، العائلة الثرية التي تعرّضت لحادثة اعتداء وسرقة من قِبل عصابة "بجاتو" لم تَعُد تشعر بالأمان وتريد السفر أو الهرب بالأحرى من مصر إلى أي مكان، رغم أن تلك الأسرة تعيش داخل "كومباوند" آمن وتتمتع بوسائل الرفاهية كافة. العائلة المسيحية والشاب المشرف الزراعي الذي اعتدى على الموظفة الحكومية وأُلقي به في زنزانة منصور الذهبي، كممثلين للطبقة الوسطى الدنيا، يظهرون في نهاية الفيلم تائهين في المولد يغمرهم إحساس بالضياع وفقدان أي رجاء في الحياة، أما الشاب البلطجي فيُسرف في شرب المخدرات بعد أن تحوَّل خلاصه من "المعلم بجاتو" إلى كابوس عند منصور الذهبي، والممرضة تبكي يوميا كل ليلة لإحساسها بالذل والهوان والرخص.

 

في الأعمال الدرامية المحسوبة على الدولة تظهر الشرطة دائما بموقع المرجعية الأخلاقية للمجتمع، في مجتمع مليء بالفاسدين والمتطرفين وسيئ الأخلاق، يصبح ضابط الشرطة بوصفه الإنسان الأعلى الذي يجب أن يحترمه ويقتدي به الجميع، بينما في فيلم "يوم وليلة" يظهر الجميع بما فيهم أمين الشرطة والناس العادية وهم تحت وطأة الشعور بالذنب، مجرد قنطرة لتمرير الاستباحة والقهر والعنف من المستبد الأكبر إلى الضحية التي بدورها ستتحوّل إلى مستبد على ضحية أخرى، وهكذا في دورة أبدية مستمرة، فعلى عكس كل الديستوبيات السينمائية السابقة، لم يتم إحالة الظلم والقهر إلى الشرطة أو الرئيس أو فساد النخبة أو حتى الانقلاب العسكري، بل إلى الجميع، مع حس درامي سوداوي عند كل الشخصيات بانعدام أي رجاء من الحياة، حتى الدين والمخدرات لم يعودا يُشكِّلان أي عزاء عن الحياة التي تضيع دون جدوى، في تعميق جديد لسوداوية الديستوبيا المصرية.

——————————————————————-

هامش: 

*ديستوبيا: هو نوع من الأدب يُحاكي مجتمعا خياليا، فاسدا أو مخيفا أو غير مرغوب فيه بطريقة ما، يُترجم عربيا إلى أدب المدينة الفاسدة أو ديستوبيا أو عالم الواقع المرير، وقد تعني الديستوبيا مجتمعا غير فاضل تسوده الفوضى، فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل، والقمع، والفقر، والمرض.

المصدر : الجزيرة