شعار قسم ميدان

السيناريو الكسول.. لماذا فشل فيلم "بنات ثانوي" في تصوير حياة المراهقات في مصر؟

ميدان - "بنات ثانوي".. هل نجح في تصوير حياة مراهقات اليوم؟
اضغط للاستماع

    

يقولون إن السينما مرآة الواقع، لكن في حالة السنيما المصرية وتصويرها لشخصية المراهقين تأتي تلك المرآة مشوّشة في أفضل الأحوال، لأنه على مدار تاريخها الطويل فضّلت الأفلام المصرية أن تغض الطّرف أغلب الوقت عن شخصية المراهق. ففي بعض الأحيان، ستجد الأخ الصغير خفيف الظل، أو الابن الأكبر الذي يجلب لأبويه مشكلات لا تنتهي، أو الابنة التي تقع في غرام شاب وتواعده في الخفاء حتى يُكتشف أمرها في مشهد يُشكِّل، غالبا، واحدا من الذرى الدرامية في الفيلم. ستجده في بعض الأحيان، لكن على هامش الصورة، في قصة ليست قصته.

    

أفلام قليلة فقط وضعته -المراهق- في بؤرة الضوء وجعلت منه البطل الذي يقود الحدث. ولأن تجربة المراهقة تختلف اختلافا شاسعا بين الذكور والفتيات -على الأقل في الوطن العربي-، سنجد غالبا أن كل فيلم من الأفلام التي تناولت تلك المرحلة العمرية قرَّر أن يُركِّز إما على شاب فتى وبعض من أصدقائه، وإما على فتاة ومجموعة من رفيقاتها.

  

ومن النوع الأخير، نجد فيلم "المراهقات" عام 1960، وفيلمَيْ "أسرار البنات" و"مذكرات مراهقة" عام 2001. أفلام عددها قليل كما يُلاحظ، ويفصل بينها فترات زمنية كبيرة. في مطلع هذه السنة، قررت شركة إنتاج السبكي أن تُضيف فيلمها "بنات ثانوي" لتلك القائمة الصغيرة، ليصير بهذا أول فيلم، خلال قرابة عشرين عاما، يُركِّز على مجموعة من المراهقات. وهنا علينا أن نتساءل: هل نجح الفيلم بعد فترة الانقطاع الكبيرة تلك في الإتيان بجديد يعكس عبره حياة وحال مراهقات 2020؟

   

   

كيف تخرق قواعد السرد في خطوتين؟

يبدأ الفيلم أول ما يبدأ ببث حي تُطلقه سالي، إحدى بطلاته، من مدرستها الثانوية على تطبيق إنستغرام، تروي خلاله حكايات صديقاتها ومشاكلهن. فشيماء أبوها مدمن مخدرات ويُسيء معاملتها، ورضوى وقعت في حب أستاذها المتزوج، وفريدة مات أبواها في حادث قطار، وأيتن تواعد شابا متدينا سرا دون علم أهلها ولا موافقتهم، أما سالي فتُعاني إثر خسارة أبيها عمله في السياحة بعد الثورة، ما أدّى إلى هبوط العائلة في السلم الطبقي.

   

قد نرى في اختيار بداية "بنات ثانوي" بتقنية البث الحي إعلان الفيلم منذ اللحظة الأولى انقطاعه عمّا سبقه من أفلام دارت في أزمنة سابقة عليه، وترسيخه لزمان بطلاته الحالي، عام 2020، حيث يستطيع أي شخص أن يجذب عبر حساباته الإلكترونية الملايين لمتابعته، ويحوَّل تلك الحسابات إلى زجاج شفاف يعرض خلاله حياته على متابعيه. لكن الفيلم لا يذهب في هذا الاتجاه، ولا يستغل إمكانات السرد التي تُتيحها له تلك التقنية، على العكس، نكتشف بمرور الأحدث أن السيناريست أيمن سلامة لم يستخدم ذلك البث الحي سوى للتحايل على أهم قاعدة سردية معروفة والتي يقول نصّها: "لا تخبرني، أرِني"[1] (show don’t tell).

 

بلور الكاتب الروسي أنطون تشيخوف تلك القاعدة عندما كتب: "لا تخبرني أن القمر ساطع، أرِني وميض الضوء يبرق فوق زجاج مكسور"[2]، والمقصود من هذا أنه على الفنان الابتعاد عن التصريح المباشر بشتى طرقه في سبيل إظهار ما يريد للمتلقي بشكل ينأى عن المباشرة.

   

وهو بالضبط ما يفعل عكسه فيلم "بنات ثانوي"، حيث يستخدم السيناريست تلك التقنية أغلب الوقت كذريعة يجعل سالي تنطق عبرها بمكنونات صدرها على الملأ، مخبرة إيانا بتفاصيل كثيرة كان أجدر بالنص السينمائي أن يُظهِرها دون اللجوء إلى هذا الحل الكسول. وحتى عندما يُنحّي النص التقنية جانبا، نجده على إصراره نفسه على خرق تلك القاعدة السردية، ففي الحوارات، تُعرّي الشخصيات بشكل مصطنع مشاعر ودوافع بعضها بعضا، دون ترك مساحة يتكهّن خلالها المشاهد بدواخل الأبطال.

     undefined

  

ففي حوار يجمع بين سيد، حبيب سالي، وبين أحد أصدقائه، يقول سيد إنه يعرف مدى اشتياق سالي لحياتها المُنعّمة القديمة، ومن ثم يحاول هو اللعب على هذا الوتر. وبعد إحدى المشادات العنيفة، تروي فريدة لصديقاتها أنها طالما حاولت جذب انتباههنّ إليها بشتى الطرق وذلك لكونها تشعر بالوحدة التي جرّها عليها يُتمها.

 

يأخذنا ذلك إلى مشكلة السيناريو الأخرى، والتي تنم أيضا عن كتابة كسولة في رسم الشخصيات. وبهدف توريطنا مع بطلاته، لا يحاول الفيلم أن يرسمهن كشخصيات من لحم ودم، بل كمجموعة من فتيات سيئات الحظ تعاني كل واحدة منهن من مشكلة كبيرة تنغص عليها حياتها -من الفقر وحتى اليُتم كما أسلفنا-، وتُبرز القصة تلك المشكلات، حتى إن الفيلم قرَّر أن يبدأ أول ما يبدأ بسردها، ما يُمثِّل نوعا من الابتزاز العاطفي للمشاهد لإجباره على التعاطف معهن، دون أن يبذل السيناريو جهدا كافيا في رسم الشخصيات يأتي على إثره ذلك التعاطف بشكل تلقائي خالٍ من الابتذال. فلا يستغل الفيلم فصله الأول في تعريفنا بشخصياته بعيدا عن مآسيهن، وبالرغم من هذا، فمقارنة بما يلي من فصول، سنجد أن ذلك الفصل كان الأكثر تماسكا في الفيلم.

 

فما نراه في نصف الساعة الأخيرة من أحداث "بنات ثانوي" هو غرق مُدوٍّ في بحر من الميلودراما المبالغ فيها وغير المبررة. فبعد أن زاد الفصل الثاني من تعقيد الأحداث إلى حدٍّ بعيد، وجد السيناريو نفسه في مأزق لا يستطيع الخروج منه، ومن ثم أخذ يُلقي في سبيل كل فتاة بكارثة غير منطقية تلو الأخرى، وفي الدقائق الأخيرة، وأيضا عبر استخدام تقنية البث الحي، تُخبرنا سالي كيف صار كل شيء على ما يُرام.

  

بعد كل المصائب التي وقعن فيها، كشف لنا الفيلم عن حلّه الأمثل لمواجهة مشكلات المراهقات على لسان بطلته سالي: "بعد الدرس المتين إلى إدّاه حضرة الظابط لأهالينا، إحنا اتقفل علينا مية ونور. الخروج بحساب ورايحة فين وجاية منين والجو ده، جو قديم فشخ، بس أقولكم، احنا كنا محتاجين كده، مش كل القديم وحش".

    undefined

   

الغرق في بحر الكليشيهات

في رسالته الأخيرة للمشاهد، نجد أن فيلم "بنات ثانوي" بالرغم من إنتاجه في 2020 فإنه في الحقيقة أكثر رجعية من بين كل ما سبقه من أفلام تناولت حياة مجموعة من فتيات في سن المراهقة. فنجد أن الأفلام الثلاثة، "المراهقات" (1960) و"مذكرات مراهقة" (2001) و"أسرار البنات" (2001)، اختارت أن تتبنّى صوت الفتيات ضد صوت سلطة الكبار، وترينا العالم من منظورهنّ الخاص دون إطلاق أي نوع من الأحكام عليهنّ أو محاولة إدانتهنّ.

   

على العكس من هذا، يظهر الجيل الأكبر في تلك الأفلام غالبا على أنه هو المذنب، فالآباء يدورون في أفلاكهم الخاصة ويعيشون في عالم من قواعد قديمة ما عادت تنطبق على الحاضر ويحاولون أن يفرضوها عنوة على الفتيات، ومن ثم تلجأ الصغيرات إلى التمرد في السر، ما يُوقعهن غالبا في مشكلات لا حصر لها نتيجة لقلّة خبرتهنّ في الحياة. الجيل الأكبر هو المذنب لأنه آثر، عوضا عن التواصل والحوار، أن يتحدث بلغة الأمر والنهي، اللغة نفسها التي يدافع عنها "بنات ثانوي" عام 2020 ويرى فيها الحل الأمثل لمشكلات المراهقات.

   

ليست هذه النقطة الوحيدة التي جعلت "بنات ثانوي" فيلما رجعيا، فعلى مستوى الدراما والشخصيات نجد أن الفيلم لم يفعل أكثر من إعادة تدوير مجموعة من "الكليشيهات" المحفوظة ووضعها معا في قصة واحدة، دون أن يأتي بأي جديد. كل "الكليشيهات" موجودة هنا: التلميذة التي تقع في حب الأستاذ، الفتاة التي تتزوج سرا، المتدين الغبي، ابنة المدمن التي تتعرّض للتعنيف، الابنة المُدلَّلة التي تستنزف والدها (كليشيه شائع في أفلام الخمسينيات)، المراهقة التي تجد نفسها في ورطة فتلجأ للانتحار لكنّ شخصا ما يُنقذها في اللحظة الأخيرة، وهكذا.

   undefined

  

لا يعني هذا أن تلك "الكليشيهات" غير موجودة في واقعنا المَعيش، فالكثير من الأعمال الدرامية الرائعة -نذكر منها مثلا أعمال المخرج والسيناريست تامر محسن في السنوات الأخيرة- استندت إلى بعض من أطياف تلك الشخصيات، لكن عوضا عن الاكتفاء بالتناول السطحي المكرر ذهبت تلك الأعمال إلى أعماق أبطالها، وقدَّمت لنا استبصارات نفسية جادة وغير معهودة عنها.

 

فالفارق بين تقديم كليشيه مُعلّب ورسم شخصية واقعية يأتي في مدى عمق التناول، وقد انشغل فيلم "بنات ثانوي" أغلب زمنه على الشاشة باللهاث خلف دراما مُلفّقة وخلق مصائب مصطنعة عن التعمُّق في دواخل أيٍّ من شخصياته. وحتى في اللحظات الأخيرة، وكأن الفيلم أبى أن يترك دائرة "الكليشيهات" مفتوحة دون أن يغلقها، تُعلن إحدى الفتيات أنها حُبلى -أكثر الكليشيهات شيوعا في أفلام المراهقات-.

 

عالم المراهقين والمراهقات اليوم أكثر ثراء وتعقيدا بكثير مما آثر "بنات ثانوي" أن يُظهِره على الشاشة. فيعيش صغار السن في الحاضر دراما حقيقية -بعيدة كل البُعد عن حوادث القتل والشلل والانتحار التي أمطرها بنا الفيلم في دقائقه الأخيرة- في عالم افتراضي صار يُمثِّل الشق الأكبر من حياة المراهقين.

 

يلهثون في هذا العالم خلف الصورة المثالية ولو كان وراءها واقع قبيح، ويلجؤون للمجموعات السرية للبوح، ولصفحات "الإنفلونسرز" والمشاهير بحثا عن القدوة. عالم به من الثراء والتعقيد ما يجعله يستحق الظهور بكثافة أكبر على الشاشة، وبالتأكيد ليس على طريقة "بنات ثانوي". فمتى ستستغل السينما المصرية الإمكانات الدرامية لمرحلة المراهقة، وتكتفي بكونها مرآة مُشوَّشة لا ترى ولا تعكس أغلب الوقت سوى "الكليشيهات"؟

المصدر : الجزيرة