شعار قسم ميدان

بين "Parasite" و"Joker".. كيف نجحت سينما الفقراء في حصد الأوسكار؟

ميدان - الجوكر والطفيلي
اضغط للاستماع

   

"أغلب الناس يحبون أن يروا الأغنياء المتغطرسين يفقدون كرامتهم، السبب أن معظم الناس في الحقيقة فقراء"

هذه الجملة من رواية "يوتوبيا" للكاتب المصري الراحل "أحمد خالد توفيق" قد تكون مدخلا جيدا لمناقشة "ثورة الفقراء" في سينما عام 2019، ثورة تجسّدت في فيلمَيْ "جوكر" للأميركي "تود فيليبس" و"طفيلي" للكوري الجنوبي "بون جون هو"، وهي الثورة التي لا يمكن نكرانها أو تجاهلها، خصوصا وأنها جمعت بين الإنجاز الفني والنجاح الجماهيري؛ الفني بفوزها بجائزتَيْ أفضل فيلم في أهم مهرجانين سينمائيين عالميين، وهما مهرجان "كان" السينمائي الدولي بالنسبة للفيلم الكوري، ومهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بالنسبة للفيلم الأميركي، والجماهيري بتحقيق نجاح غير مسبوق لكلا الفيلمين، فـ "جوكر" هو أعلى فيلم ذي تصنيف "للكبار فقط" على مستوى الإيرادات تاريخيا حيث تجاوز مليار و62 ألف دولار أميركي، و"طفيلي" هو أحد أنجح الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية تاريخيا أيضا بإيرادات تجاوزت 122 مليون دولار أميركي.

 

في "يوتوبيا"، التي يرى العديد من المصريين أنها تنبأت بثورة يناير، تنتهي الرواية بمواجهة مباشرة بين الأغنياء في مدينتهم المحصنة، والفقراء الذين يعيشون في خرابات، وهو ما يحدث بشكل قد يكون متطابقا في "طفيلي" و"جوكر"، على اختلاف السياق في كلٍّ منهما. السؤال هنا ليس عن أسباب هذا التطابق، ولكنه بشكل رئيسي عن هذا النجاح الضخم الذي حقّقه هذان الفيلمان في عام 2019، العديد من الأعمال قد ناقشت الصراع الطبقي، الكثيرون قد تنبؤوا بأن النظام الرأسمالي العالمي يحمل في طياته أسباب انفجاره، الذي سيأتي ولا محالة، لكن السؤال هنا عن التوقيت، عن هذين العملين بشكل خاص، لِمَ "طفيلي" و"جوكر"؟ لِمَ الآن بالتحديد؟

 

جوكر: يوميات الضحك والدموع

undefined

  

"هل يحدث هذا لي فقط، أم أن العالم في الخارج يصبح أكثر جنونا؟"

إذا قررنا أن نُبسِّط فيلم "جوكر" تماما فهو وبشكل رئيسي يوميات رجل أميركي يُعاني من المرض النفسي كما يُعاني أيضا ماليا واجتماعيا من الفقر، وعندما يفقد وظيفته والطريقة الوحيدة للوصول للرعاية الصحية النفسية، ينفجر في وجه المجتمع، يبدأ الأمر عشوائيا عن طريق المصادفة البحتة، وذلك عن طريق قتله لثلاثة من الشباب المتنمرين الأغنياء، ثم يتحول الأمر عقب ذلك إلى موجة غضب شعبية يشارك فيها كل الفقراء والمهمشين في المدينة، الذين يصفهم حاكم المدينة وأغنى رجالها بأنهم مجرد "مهرجين".

 

تبدو ثورة الفقراء هنا كبركان انفجر نتيجة شرارة تسبَّب فيها رجل مضطرب نفسيا، لكنها عشوائية بشكل مكتمل، ما لا يخبرنا الفيلم به هنا بشكل تفصيلي هو لماذا تكوّن هذا البركان في الأساس؟ ولِمَ تعاطف كل هؤلاء مع رجل قاتل؟

 

طفيلي: ثمن الترقي الطبقي

undefined

  

"لو كنت أملك كل هذا، لكنت أصبحت أكثر طيبة"

على خلاف ذلك تبدو الأمور أكثر طبيعية في "طفيلي"، وهو ما يجعله دون شك أكثر رعبا، هنا تدور الحكاية في نسختها المختصرة عن أسرة فقيرة تتسلّل شيئا فشيئا من خلال مجموعة من الحِيَل للعمل في منزل أسرة غنية، لينتفعوا من خلال ذلك ببعض الأصناف الجيدة من الطعام والشراب، وبالقليل من ضوء الشمس أيضا.

 

ما يبدأ كفيلم كوميدي بسيط يتطور عقب ذلك من خلال قفزات غاية في السلاسة بين الأنواع الفيلمية المختلفة، ليصبح مزيجا بين الكوميديا والتشويق والرعب والجريمة وحتى الميلودراما، يأخذ من كل نوع أفضل ما فيه، ويتركنا في النهاية بجرعة مكثفة من النقد الاجتماعي والسياسي.

 

في الفصل الأول من الفيلم يستقبل ابن العائلة الفقيرة هدية غاية في الخصوصية من أحد أصدقائه، حجر كبير يُقال إنه يجلب الغنى إلى مَن يمتلكه، في الفصل الأخير من الحكاية يصبح هذا الحجر أداة قتل، وكأن "بون جون هو" يخبرنا بأن القتل هو ثمن الترقي الطبقي، الدماء هي ما تجلب الثروة، لكننا هنا نقع في المعضلة نفسها، نشعر هنا بالتعاطف أيضا مع هذه العائلة الفقيرة، رغم كل ما يرتكبونه من جرائم، وحتى حينما يتطور الأمر للقتل في النهاية. كيف نجحت هذه الحكاية الكورية الجنوبية في اللعب على الوتر نفسه الذي لعب عليه فيلم "جوكر" إذن؟ أم أن الأمر أكبر من أميركا وكوريا، الأمر عالمي؟

 

أن تحيا كطفيلي أو تموت كجوكر

undefined

   

في كلتا الحالتين، أعتقد أنه يمكننا القول إننا أمام محاولة للوصول لفهم أكثر عمقا للبشر القابعين على الهامش، ولدوافعهم كذلك، على الرغم من ذلك، وبينما يبدو "طفيلي" فيلما صانعا للتحوُّل وبشكل حقيقي، حيث يؤدي الفيلم إلى تقبُّل الكذب والخداع من أبطاله كفعل طبيعي، يحاول فيلم "جوكر" على الجانب الآخر وبشكل ما أن يشرح لِمَ أصبح هذا الرجل شريرا، مع إشارة بالطبع إلى لوم المجتمع. (1)

 

هكذا يُصرِّح "كفام مكنيزي" أستاذ الطب النفسي في جامعة "تورنتو" الكندية"، من خلال حوار أجراه عبر موقع "ذا ستار" (Thestar)، وهو يبدو متفقا مع ما نراه بوضوح من خلال تحليلنا في هذا التقرير.

   

يبدو الفيلمان إذن متفقين في تصوير العالم اليوم كصراع بين طبقات اجتماعية، طبقات تحدَّث عنها "ماركس" في نظريته الشهيرة التي تُخبرنا بأن موقعنا كأفراد في الترتيب الطبقي للمجتمع يتم تحديده من خلال أدوارنا في عملية الإنتاج، وهكذا يتحدد وعينا السياسي والأيديولوجي من خلال تموضعنا الطبقي، هكذا تتشكّل الطبقة التي تتشارك مصالح اقتصادية واحدة، وحينما يدرك أفراد هذه الطبقة هذه المصالح فإنهم سينخرطون في أفعال جماعية لتعزيزها. (2)

   

لكن الاختلاف يحدث من خلال المسار الذي يسلكه الأبطال في كلتا الحالتين، فبينما يخبرنا "بون جون هو" في "طفيلي" أن الفقراء يمكنهم أن يحيوا لبعض الوقت كطفيليين على الأغنياء، من خلال مقاومة تتخذ من الكذب والخداع غطاء لها. يتحوَّل الفقراء شيئا فشيئا لأشباح تحيا تحت الأرض، تظهر ليلا لسرقة بقايا طعام وشراب الأغنياء. فيما تصبح المواجهة المباشرة أمرا عشوائيا غير مُخطَّط له، أو كما يقول الأب لابنه في "طفيلي":

"هل تعلم ما الخطة التي لا تفشل أبدا؟ ألّا تملك خطة، لا خطة على الإطلاق، هل تعلم لماذا؟ لأن الحياة لا يمكن أن تخطط لها، انظر حولك".

   

يبدو الوضع مختلفا في "جوكر"، حيث يمنحنا "تود فيليبس" وجها آخر لهذا الصراع، حيث يتظاهر الفقراء في الشوارع للتعبير عن غضبهم من الأغنياء، حيث يبدو القتل هنا مُوجَّها بعناية لأحد أهم أغنياء المدينة، كما يصبح الموت في سبيل ذلك عرضا محتملا للثورة، أو كما يقول الجوكر: "أتمنى أن يساوي موتي قروشا أكثر مما تساويه حياتي".

   

لا أشرار، لا طيبين

undefined

  

"هم لطيفون لأنهم أغنياء"

ما يفعله "طفيلي" هنا بشكل أكثر واقعية، وأيضا أكثر تأثيرا، هو أنه يُصوِّر لنا عالما بلا أشرار وبلا أبطال، فبينما يثور الجوكر ورفقته ضد إعلام يسخر منهم وأغنياء لا يتورعون عن لكمهم والتنمر على مآسيهم، يثور الفقراء في "طفيلي" على أغنياء لطيفين للغاية. لكن اللطافة هنا لا تُغني عن تضارب المصالح.

   

تعيين الأسرة الغنية لأسرة من الفقراء لإدارة منزلهم ورعاية أبنائهم يعني ببساطة أن أسرة فقيرة أخرى قد أصبحت بلا مصدر للدخل، نستعيد هنا تصريحا شهيرا للأميركي غاي غولد حينما قال: "يمكنني أن أستأجر نصف الطبقة العاملة لقتل نصفها الآخر". (3)

   

غاي غولد هو أحد أثرياء القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأميركية، وأحد أشهر مَن سُمّوا بـ "البارونات اللصوص"، وهو الاسم الذي أُطلِق على مجموعة من أثرياء القرن التاسع عشر الذين صنعوا ثروتهم بالاحتكار واضطهاد العمال والتهرُّب من الضرائب. وتصريحه هنا يبدو مناسبا لعصرنا الحالي بشكل تبدو معه البشرية وكأنها قضت أكثر من 100 عام من الجري في المكان.

   

ما تُخبرنا به معالجة "بون جون هو" هو أنك حينما تستأجر نصف الطبقة العاملة فلن يقوموا فقط بقتل النصف الآخر، لكنهم سيستديرون لقتلك شخصيا في نهاية الأمر.

   

في حوار خاص مع "ميدان" يتفق الباحث الألماني "يوناس مارتن" مع ذلك قائلا:

"ما أجده رائعا في فيلم "طفيلي" هو أن الأسرة الغنية لا يتم تصويرها بشكل سلبي (مُنفِّر)، وأن العائلة الفقيرة لا يتم تصويرها بشكل إيجابي تماما (أي إنها ليست مثالية في مرآة الصراع الطبقي). يتم تجسيد كلتا العائلتين في أدوارها المحدودة في النهاية في طبيعتها البشرية. تحدَّث ماركس عن "أقنعة الشخصيات". إن الرأسمالية سجن للفكر لأنها تُجبرنا على التنميط، وهو ما يعمل بشكل أسوأ وأسوأ. النتيجة: اضطراب إنساني (قتال العائلتين الفقيرتين في القبو)، وبرود إنساني (رجل الأسرة الغني لا يشعر بالشفقة، فقط يشعر بالاشمئزاز الاجتماعي حتى مع نهايته الدامية)".

  

قادمة لا محالة

"إن تاريخ كل المجتمع الحالي حتى الآن هو تاريخ الصراع الطبقي". (4)

       

يبدو
يبدو "طفيلي" أكثر اتساقا مع نظرية ماركس، لا طيبين ولا أشرار بين الفقراء والأغنياء، الأمر هو فقط تضارب مصالح
  

يبدو الختام هنا بمقولة من البيان الشيوعي الذي كتبه "كارل ماركس" في نهاية القرن التاسع عشر حتميا، بالقدر نفسه الذي يُعبِّر فيه ماركس عن أن الصراع الطبقي في جنبات النظام الرأسمالي هو أمر حتمي قادم لا محالة، تظل مصالح الفقراء العاملين في زيادة رواتبهم، وتظل مصالح الأغنياء في زيادة عائداتهم على حساب رواتب الفقراء وإمكانية توظيفهم، يؤدي هذا إلى تضارب مصالح داخل النظام الذي صنع كلتا الطبقتين، سيبقى التضارب طالما بقي هذا النظام، وسيؤدي التضارب إلى الصراع حتى دون أن يعي المنتمون لهذه الطبقات ولا محالة.

   

مرة أخرى يبدو "طفيلي" هنا أكثر اتساقا مع نظرية ماركس، لا طيبين ولا أشرار بين الفقراء والأغنياء، الأمر هو فقط تضارب مصالح، لم يختر الفقراء أن يصبحوا قتلة كما حدث في نهاية الفيلم، لكنهم لم يجدوا أي بديل آخر عن ذلك، ولا يمكنك أن تلوم مجموعة من البشر لأنها تحاول أن تهرب من منزل تحت الأرض، منزل يقع حرفيا تحت "مبولة".

  

هذا جرس إنذار عنيف عن غضب عالمي دفين، من أميركا إلى كوريا، ومن لبنان إلى السودان، غضب قد يشاهده الأغنياء في صالات السينما ويستمتعون به، تماما كما استمتع دونالد ترامب وأسرته بعرض خاص لفيلم "جوكر" داخل إحدى قاعات البيض الأبيض، لكنهم لن يستمتعون به حتما إذا استمر انتقاله من شاشة السينما إلى الحقيقة.

المصدر : الجزيرة