شعار قسم ميدان

جعفر بناهي.. سينما لا تحبها السلطة في إيران

jafar

"كان بإمكان الرجل أن ينكسر أو يستسلم، كان بإمكانه أن يتقلب بين اليأس والغضب، لكنه بدلا من ذلك كتب رسالة حب إلى السينما، إن فيلمه الجديد ليس إلا تعبيرًا عن رجل يعشق فنه وبلده وجمهوره." – دارين آرنوفسكي، في مهرجان برلين السينمائي.

 

ربما جعفر بناهي هو أول مخرج إيراني يحصل على جائزة لفيلم له في مهرجان دولي -مهرجان برلين السينمائي- دون أن يعرض فيلمه على شاشات العرض في بلده، ودون أن يكون مصرحًا به أصلا، ودون أن يكون مسموحًا له بالسفر حتى لاستلام الجائزة، فيلمه "تاكسي" حصل على جائزة "الدب الذهبي" لأفضل فيلم 2015، لكنّ المنع من السفر حال دون وجوده أثناء احتفاء العالم به، لتتسلم الجائزة نيابة عنه ابنة اخته الطفلة حنا.

 

فيديو لحظة تسليم الجائزة..

 

بعد مشاركته في الانتفاضة الخضراء في إيران 2009، جاء الحكم ضده قاسيًا، ستة أعوام من السجن و20 عامًا من المنع من السفر ومن صناعة الأفلام ومن ممارسة أي نشاط سياسي، بدأ بناهي إضرابًا عن الطعام في محبسه لكنّ السينما الإيرانية التي صنعت مجدها تحت سندان المنع والقهر ومطرقة ضعف التمويل المادي، استطاعت أن تقف معه في محنته ضد السلطة، توالت دعوات الإفراج عن بناهي من شخصيات فنية وحقوقية كبيرة حول العالم، ليخرج بعد أشهر قليلة من حبسه. 

 

"أريدكم أن تضعوا أنفسكم مكان صانع أفلام لا يجيد سوى صناعتها، ولا يحب سوى تلك الصناعة، كم 20 عامًا لديّ لأضيعها؟ إنني لا أستطيع أن أبقى خاملا وأهدر حياتي، هذا ليس إفراجًا، فقط خرجت من سجن صغير لأحبس في آخر أكبر". كانت هذه الكلمات ضمن تصريح الرجل بعد الإفراج عنه، كان واضحًا أنه لا ينوي التوقف عن إثارة المتاعب.

أفلام "ليست أفلامًا"
 
الكثير من أفلام بناهي يحمل طابعًا وثائقيًا، كما يستعين فيها بممثلين غير محترفين (مواقع التواصل )
الكثير من أفلام بناهي يحمل طابعًا وثائقيًا، كما يستعين فيها بممثلين غير محترفين (مواقع التواصل )
 
بعد عامين من الإفراج عنه صنع بناهي فيلمه "هذا ليس فيلمًا" متحديًا قرار منعه من صناعة الأفلام، صور بناهي فيلمه داخل شقته حيث كان يقبع تحت الإقامة الجبرية، لا ممثلين محترفين، لا عقود رسمية، لا موافقات ولا تصاريح، كاميرا فقط وزواره العاديون؛ ثم أطلق على الفيلم ساخرًا اسم "هذا ليس فيلمًا"، وأضاف لنهايته مازحًا جملة تقول إن هذا الذي ليس فيلمًا تم تهريبه خارج إيران في قرص مخبأ داخل كعكة عيد ميلاد.
 

يُعرف بناهي بأنه أحد رواد الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، وهي المدرسة التي ينتمي لها كبار المخرجين الإيرانيين مثل: عباس كيارستمي ومجيد مجيدي وأصغر فرهادي؛ المدرسة التي ربما كان من عوامل تشكيل ملامحها الحالية القيود التي تواجهها السينما في إيران؛ تعرف هذه المدرسة بخصائص منها الكتابة الشاعرية وكثرة المجازات والواقعية والتركيز على قضايا الأطفال والطبقات الأكثر فقرًا.

 

الكثير من أفلام بناهي يحمل طابعًا وثائقيًا، كما يستعين فيها بممثلين غير محترفين، يصعب التفريق في بعض أفلامه بين المشهد الواقعي والمشهد التمثيلي، كما تتسم أفلامه مثل العديد من أفلام السينما الإيرانية بانخفاض تكاليف إنتاجها. في فيلمه "تاكسي" الذي حصل على جائزة "الدب الذهبي" يجوب بناهي العاصمة طهران بسيارة أجرة وكاميرا، يركب معه الناس، يتحدثون عن حياتهم اليومية، يصلون إلى وجهاتهم ويترجلون، يبدو الأمر شديد البساطة، لكن بناهي يصنع مجدًا سينمائيًا من محادثات تبدو عفوية وإيماءات وتعبيرات وتفاصيل دقيقة في ذلك الكادر الصغير.

 

منذ البدايات الأولى لمشواره الفني اعتبر النقاد أن بناهي هو كيارستمي آخر ولد في السينما الإيرانية، كان هذا اللقب ربما فخرًا لبناهي في بداية مشواره، لكنه مع مرور الوقت بدأ يأخذ بحياته منحى آخر، فهو ليس ذاك المخرج الهادئ والمسالم أمام السلطة، إنه المتحدي والمشاغب، الرجل الذي اعتاد منع أفلامه وتهريبها، بل حتى أفلامه التي قد لا تبدو عدائية لأول وهلة؛ غالبًا ما تأتي محملة بمجازات لا يحبها النظام، لكن رغم التوجهات السياسية الواضحة في أفلام بناهي إلا أنها تأتي واقعية تحكي القصص الحقيقية بسلاسة، دون تحميل زائد للعبارات والمحادثات.

 

تخلو أفلام بناهي تمامًا من وجود شخصيات شريرة، يعتبر الرجل أن الخير موجود في الناس جميعًا، لدى بناهي طريقته الخاصة في تصوير العنف في أفلامه، إنه يصور العنف لكنه لا يصور أبدًا مصدره، يظهر ممثل وقد تعرض للضرب أو تبدو عليه علاماته، لكنه لا يخبرك أبدًا كيف حدث هذا، العنف في أفلامه يبدو شبحا، تراه لكنه يفتقر لمصدر مادي أو تفسير منطقي، تكون النتيجة مشهدًا محملا بخوف وقلق يتربصان بكل لحظة منه.

 

شغف قديم وتحدّيات جديدة
(رويترز)
(رويترز)

كانت بداية بناهي مع السينما منذ كان طفلا شغوفا بكل ما يتعلق بها، في التاسعة من عمره حصل على دخله الأول من السينما، لكن ليس بطريقة تقليدية، كانت أسرته المحافظة والفقيرة تمنع شقيقاته الأربع من الخروج من المنزل كثيرًا، لهذا كنّ يدفعن له ليشاهد الأفلام ويقصّها عليهنّ، لكن حبه للسينما كان أكبر من هذا المال الضئيل، لهذا بدأ يعمل بعد مدرسته ليتمكن من مشاهدة أفلام أكثر.

 

رغم أن والده كان محبًا للسينما، يروي بناهي أنه  ضربه حين رآه ذات مرة يشاهد فيلمًا، أخبره أن "هذه ألأفلام ليست مناسبة لسنك"، لكن بناهي أصر على الاختباء والذهاب للسينما ليعرف بنفسه ما يناسبه وما لا يناسبه، في بحثه عن أماكن يختبئ فيها عن والده ليشاهد الأفلام، اكتشف بناهي مؤسسة "كانون" المعنية بالتنمية الفكرية للأطفال والمراهقين، في "كانون" يبدأ بناهي مرحلة جديدة من أهمية السينما في حياته، هناك يتعرف على أعمال كيارستمي أحد مؤسسي "كانون"، وهناك يجرب كيف يصنع فيلمًا قصيرًا.

 

كان بناهي يطوي سنوات مراهقته وهو يحلم بمكانة متميزة بين صانعي السينما بعد أن بدأ يتعرف على الكاميرات والتصوير ويحاول أن يتعلم شيئا جديدًا عن السينما في كل فرصة، حينها اندلعت شرارة الثورة الإسلامية في إيران وانتصرت، مرت السينما بأزمة، أغلقت دور العرض، وهاجر العديد من المخرجين تاركين بلادهم بحثا عن ملجأ لفنهم، ومر بناهي الفتى بأزمة، تمّ تجنيده وإرساله لجبهة الحرب بين العراق وإيران، عمل في الجيش مصورا للحرب، وقع في الأسر لفترة، وصور فيلمًا وثائقيًا عن الحرب وحياة المجندين.

 

بعد انقضاء هذه الفترة، التحق بناهي بمعهد للسينما مثقلًا بتحديات هذا الفن في ظل النظام الإسلامي الجديد، ومحملا بجراح الحرب والأسر وآمال الفتى الفقير، التجارب التي كان لها تأثير كبير على شخصيته، انعكست جليًا في أفلامه ورؤيته للعالم؛ تحت إشراف كبار الأساتذة في هذا المعهد، بدأ بناهي أولى مراحل إثبات نفسه صانع أفلام عبقري وإضافة كبيرة متوقعة للسينما الإيرانية.

 

"إنه رجل لا يقبل الإملاءات، رجل صنع مجدًا وتاريخًا بفعل عكس ما يطلب منه" حميد دباشي، أستاذ الدراسات الإيرانية

 

بعد تخرجه، بدأ الشاب العنيد أولى خطواته في صناعة الأفلام التي لا يحبها النظام، فيلمه القصير الأول "رؤوس مدماة" وثائقي عن طقوس العزاء الممنوعة أثناء فترة الحداد على الإمام الشيعي الثالث الإمام الحسين، حيث يضرب الناس رؤوسهم بالسكاكين حتى تنزف. كان على بناهي أن يصور متخفيًا، منع الفيلم من العرض لسنوات.

 

في 1992، متأثرًا بقصة شاهدها في أحد الأفلام، ترك بناهي رسالة على هاتف قدوته الأعلى حينذاك "كيارستمي" يخبره أنه يحبه ويحب أفلامه ويحلم أن يعمل معه؛ ليتصل به كيارستمي ويخبره أنه شاهد أفلامه القصيرة ويراه موهوبًا للغاية وأنه يستطيع أن يعمل معه منذ تلك اللحظة كمساعد مخرج.

 

احتفاء في الخارج وقيود في الداخل
كان "البالون الأبيض" أول تجربة إخراج فيلم روائي طويل لبناهي، والتي ضعته محل تقدير وإعجاب من النقاد محليًا وعالميًا، يجوب بناهي من أجل هذا الفيلم جميع أنحاء بلاده ليختار من كل الأعراق الإيرانية ممثلين لأفلامه، معظم الممثلين غير محترفين، وقد تكون تلك تجربتهم الأولى أمام كاميرا.
 

undefined

  

يحكي الفيلم قصة طفلة تريد شراء سمكة حمراء ضمن طقوس الاحتفال بالسنة الإيرانية الجديدة، فتأخذ من والديها ورقة نقدية قيمتها أقل من دولار، لكن الورقة تضيع منها، وتنطلق الطفلة بحثا عنها لتتمكن من شراء السمكة، يقول بناهي عن فيلمه أنه أراد أن يخبر عالمًا لا يعبأ إلا بأصحاب الملايين، بينما تختبره طفلة يضيع منها أقل من دولار.

 

"لقد كانت أفلامي في البداية عن الأطفال، لكنني نظرت في وجه الطفلة الجميلة التي كانت تمثل في فيلمي، وتخيلت أمامي العوائق التي ستواجهها حين تكبر في هذا البلد، أدركت حينها أنني لا أستطيع أن أصمت عمّا أعرف أن هذه الطفلة ستتعرض له" – جعفر بناهي

 

اختار بناهي أن يبدأ بأفلام عن الأطفال بعيدة عن العنف والجنس والسياسة ضمانا لعبوره إلى شاشات العرض، لكن فيلمه الثالث "الدائرة" أتى عكس ذلك تمامًا، الفيلم ينتقد بشدة وضع النساء في إيران، من خلال عرض لقصة سجينات يهربن من سجنهن وتمر كل منهن بظروف مختلفة للتمكن من الحياة بعد الهرب.

 

undefined

    

انتظر بناهي عامًا كاملا حتى يحصل على تصريح بتصوير عمله، مع هذا منع الفيلم من العرض، قال قرار المنع إنه مضر بعقول الشباب لكونه "سوداويًا ومهينًا للمرأة المسلمة"، أرسل بناهي فيلمه إلى مهرجان البندقية دون إذن حكومي، وفاز عنه بجائزة "الأسد الذهبي"، ثم توالت الجوائز والتقديرات للفيلم.

 

فيلمه "تسلل" يحكي قصة فتيات يتنكرن في أزياء رجالية ليتمكنّ من حضور مباراة كرة قدم، لأن النساء يمنعن في إيران من دخول الملاعب الرياضية ومشاهدة المباريات، "خوفًا عليهنّ من الألفاظ البذيئة، ومشاهدة الرجال في ملابس قصيرة" خطرت فكرة الفيلم في بال "بناهي" عندما رفض أحد الملاعب إدخال ابنته لمشاهدة مباراة، فوقفت تتابعها من خلف البوابة المغلقة؛ أرسل بناهي نصًا مزيفا عن رجال يريدون حضور مباراة ليحصل على تصريح، مع هذا رفضت وزارة الإرشاد إعطاءه تصريحًا إلا إذا قام بتعديل أفلامه السابقة.

 

تجاهل فريق العمل الوزارة وبدأ التصوير بشكل سري واضعا اسم مساعد المخرج مكان المخرج، تجنبًا للفت الانتباه، تحرك الفريق في جماعات متفرقة مستخدما معدات صغيرة لا تلفت الانتباه، حتى تمكن من تصوير الفيلم في 39 يومًا؛ منع الفيلم من العرض لكنه سرب لمهرجان برلين، وحصل على جائزة "الدب الفضي"، وأصبح أكثر أفلام بناهي انتشارًا في إيران، يقول بناهي إنه يرمز بالملاعب لكل التمييز ضد المرأة في بلده، ويعتبر هذا التمييز قضية مركزية تحاول أفلامه معالجتها.

 

سواء كانت أفلام بناهي عن المرأة أو الأطفال؛ أو كانت تعالج أيًا من تناقضات الحياة وتعقيداتها داخل المجتمع الإيراني؛ يمكن القول إن سينما بناهي هي التقاط للحظة إنسانية حقيقية وعرض جابنها الجمالي والشعري دون مبالغة ودون استثارة متعمدة أو مبتذلة لعواطف المشاهد، بهذه الخصائص استطاع بناهي أن يشق طريقه نحو المجد العالمي رغم كل العوائق والتحديات التي جعلته يصنف أكثر مخرجي سينما إيران الحديثة صراعًا مع السلطة. 

المصدر : الجزيرة