شعار قسم ميدان

مسلسل "13 سبباً".. صناعة الفن من قضية الانتحار

ميدان - 13 سببا
مقدمة المترجم

لاقى مسلسل "13 سببا" نجاحا كبيرا، وهو يروي قصة انتحار فتاة في السابعة عشر من عمرها. لكن كثيرا من النقاد رأوا بأن طريقة معالجته للموضوع كانت كارثية. سنتعرف هنا على الفن وطرق المعالجة وأخطاء الكتاب، عبر مقارنته ببث صوتي صدر في نفس الوقت، تحت عنوان "البلدة إس"، وهو عمل يناقش نفس القضية، لكن عن طريق قصة حقيقية هذه المرة.

 
كيف ابتذل مسلسل "13 سببا" قضية الانتحار المتصاعدة في الولايات المتحدة؟

حينما أُطلق مسلسل النشرة الصوتية "البلدة إس" (Town-S)، قبل قرابة الأسبوع، كانت أكثر جوانبه جذبا للانتباه الفوري هي طريقة تقديمه حيث أتيحت جميع حلقاته السبع في اليوم نفسه. في حالة التلفاز، صار ذلك نموذجا قديما بفضل نتفليكس، لكن "البلدة إس" هو أول مسلسل نشرة صوتية ضخم الإنتاج، يعرض نفسه بهذه الطريقة، أعني في صورة عمل أحادي طويل، يمكن استهلاكه كيفما شاء المستمع. وهو ما أفاد القصة بدرجة كبيرة، كما تبين لنا. يبدأ "البلدة إس" بإلقاء شباكه على مستمعيه عن طريق جريمة قتل غامضة محتملة، لكن سرعان ما يتحول إلى شيء آخر، شيء أقل إثارة، لكنه آسر بنفس الدرجة.

 

في الحلقة الأولى، يحكي مقدم الحلقات والمنتج "بريان رييد"، باستفاضة عن تلقيه معلومة تتعلق بجريمة قتل محتملة، تم التستر عليها في مدينة وودستوك، بولاية ألاباما. وقد صودف أن مصدر المعلومة كان شخصية من رواية للكاتب كارسون مكولرز وهو مرمم ساعات غريب الأطوار يدعى "جون بي مكليمور". قام هذا الرجل خلال محادثة هاتفية مسجلة بالإفراط في غمز مدينة وودستوك، التي يشير إليها باسم "بلدة الغائط"، بسبب ما شهده فيها من دونية أخلاقية وثقافية. يسافر "رييد" لمقابلة مكليمور، وينقل لنا بعض مزاعمه، لكن مع نهاية الحلقة الثانية، يصبح من الجلي أن جريمة القتل المزعومة، التي تبين أنها لم تحدث قط، لن تكون موضع اهتمام "البلدة إس" مكليمور نفسه، الذي سيكتشف رييد انتحاره، عن طريق مكالمة هاتفية مؤثرة.
 

 العرض الدعائي من نتفليكس لمسلسل "13 سبباً"

تستكشف الحلقات الباقية مجموعة متنوعة من الأسرار والنزاعات، بما فيها احتمالية وجود كنز دفين، والتصارع القبيح على الأشخاص والأملاك التي خلفها مكليمور. لكن السؤال المركزي يتعلق بكيفية وصول حياة مكليمور إلى هذه النقطة. في هذا الجانب، يتشابه مسلسل "البلدة إس" مع "13 سببا"، وهو مسلسل من إنتاج نتفليكس صدر في الأسبوع نفسه، مقتبس عن إحدى روايات أدب المراهقين الأكثر رواجا، والتي صدرت عام 2007.

لكن مسلسل نتفليكس يفصح من البداية عن موضوعه، وهو حادثة انتحار فتاة في السابعة عشر تدعى "هانا بيكر"، تركت الفتاة وراءها أشرطة صوتية تشير فيها إلى الأسباب المتعددة التي دفعتها إلى إنهاء حياتها. يتفتح أمامك مسلسل "13 سببا"، حاله كحال "البلدة إس"، على هيئة قصة غامضة، لا يكون فيها السؤال الأكثر إلحاحا هو "ماذا"، بقدر ما هو "لماذا". ولكونهما عملين ترفيهيين، توجب على المسلسلين السير بحذر فوق خط رفيع، يفصل بين الدراسة النظرية لموضوع الانتحار، واختزاله عاطفيا. والحقيقة أن أوجه نجاح العملين – وفشلهما – تقودنا إلى دروس أكثر أهمية، تتعلق بتفهم طبيعة الألم، واستخراج الفن من رحم الصدمات. 

بينما يبدأ "البلدة إس" بتقديم نفسه في صورة معينة، قبل أن ينتقل بالمستمعين إلى موضوع بحثه الحقيقي، فقد رسم "13 سببا" لنفسه إطارا واضحا منذ البداية. تبدأ الحلقة الأولى بلقطة لنصب تذكاري مؤقت، أقيم على هيئة ملصقات ما بين صور وأوراق مكتوبة بخط اليد، على خزانة مدرسية. "مرحبا، أنا هانا"، يأتي الصوت موضحا. "هانا بيكر. أجل، هذا صحيح. لا تتفقد إعدادات الجهاز الذي تستمع إلى ذلك من خلاله. إنها أنا، بث حي وصوت مجسم. لن أسألك تنفيذ وعود سابقة، أو رد جميل، ليست هناك أي طلبات هذه المرة. حضر لنفسك وجبة خفيفة، واتخذ مقعدا مريحا. فأنا على وشك إخبارك بقصة حياتي".
 

undefined


يأتي صوت هانا، في الشريط الذي يعتبر بالأساس خطاب انتحارها، مرحا وواثقا، كعضوة فرقة تشجيع تترك رسالة صوتية، وهذه أول علامات الخلل في فكرة مسلسل "13 سببا"، الذي اقتبسه براين يوركي، المؤلف المسرحي وكاتب النصوص الأوبرالية، الحائز على جائزة بوليتزر، من كتاب للروائي جاي أشر. -وقد عملت نجمة ديزني السابقة سيلينا جوميز، ووالدتها ماندي تيفي، منتجين تنفيذيين للمسلسل، وكذلك توم مكارثي، المخرج الحائز على جائزة أوسكار-. فمن البداية، هناك أمر فظيع، لا يقبل الجدال، في فكرة الفتاة الميتة، التي تترك عريضة اتهام، من موقعها في العالم الآخر، للأشخاص الذين أساءوا إليها، خاصة مع تزيين هذا "الانتحار الانتقامي" ببهرجة دراما المراهقين النموذجية كلها، من ممثلين على قدر يستحيل بلوغه من الجمال، في العقد الثالث من عمرهم، يؤدون أدوار مراهقين، وموسيقى تصويرية مرحة، وعلاقة عاطفية تجمع بين روحين بريئتين.
  

تعاود هانا -قامت بدورها الوجه الجديد كاثرين لانغفورد- الظهور في مشاهد الارتجاع الفني، وبصفتها مهندسة الأشرطة ذات الثلاثة عشر جانبا، كل جانب منها يخص شخصا مختلفا، تعتقد أنه مسؤول بطريقة ما عن قرارها بإنهاء حياتها. يبدأ المسلسل وقد استمع عشرة أفراد إلى الشرائط التي تخصهم، وحان دور كلاي -ديلان مينيت-؛ يظهر في كل حلقة وهو يستمع إلى جزء مختلف، ويعرض أجزاء اللغز المتفرقة، بينما يعذبه السؤال المحير "ما الدور الذي لعبه في وفاة هانا؟" مينيت هو أحد أقوى عناصر المسلسل، حيث يؤدي دور كلاي، الولد شديد الحساسية واللطف الذي يعشق هانا، بما يجعل تركيز "13 سببا" على معاناته، أمراً أكثر إزعاجا.

 

أوليفيا بيكر (كيت واليش) تستمع إلى الملفات الصوتية التي سجلتها ابنتها في
أوليفيا بيكر (كيت واليش) تستمع إلى الملفات الصوتية التي سجلتها ابنتها في "13 سببا"
 

لكن مع توالي الحلقات يحدث أمر ما. حيث يزداد الجو العام ظلامية، مع اشتباك سرد هانا بأحداث صادمة وعنيفة بصورة متصاعدة، ويكشف المسلسل عن مدى الوضوح الذي يستطيع به تصوير ثقافة الاغتصاب، والتراتبية المعقدة للمدارس العليا، وجاذبية القسوة، والإشارات التحذيرية التي يطلقها المراهقون وهم على حافة اليأس. يشجع سرد هانا العذب بدرجة تثير القلق، على التعاطف مع أسى كلاي وغضبه الحاد، وهو يرصد جَلاَّدي هانا.

 

لكن يبقى المسلسل، بدرجة كبيرة، معالجة لألم المراهقة من منظور شخص راشد، حيث تفتقر كتابة شخصية هانا إلى النضج بصورة لافتة للنظر، باعتبار المساحة الزمنية المتاحة لها والأداء شديد الواقعية والعاطفية الذي قدمه "كيت والش" و"بريان دو أركي" في دور الوالدين المكلومين. لكن العمل يتسم بتعاطف حقيقي مع ما يضطر المراهقون إلى خوضه. "لم يكن أي مما فعله أي شخص مع هانا، مختلفا بأي شكل عما يحدث لأي فتاة في أي مدرسة عليا"، قالها مراهق مرة. إن لحظة الكشف هذه، لا تلغي عيوب "13 سببا" الأساسية، لكنها تشير إلى ما كان يمكن فعله لإخراجه بصورة أفضل.

 

لقد استطاع "13 سببا"، ولو بصورة عرضية، إدراك الفارق بين قصص أوغاد المدرسة التي تعرض في التلفاز والأفلام "متنمرون أثرياء، ولاعبو أسطوانات أغبياء، ومنبوذون بائسون"، وبين الوحوش الحقيقية التي يواجهها المراهقون "راشدون يسببون الأذى، وآباء يضغطون لتحقيق المزيد، ووسائل التواصل الاجتماعي" عن طريق عرض كليهما. إنه واقعي ومبتذل في الوقت نفسه. كان "البلدة إس"، هو أيضا، على وعي متواصل بالفخاخ التي تنتظر مراسل من مدينة نيويورك الذي يسجل انطباعاته عن مدينة جنوبية صغيرة، وهكذا، مع تقصي رييد لأسباب انتحار مكليمور المحتملة، فإنه يختبر باستمرار صدق ظنونه وانطباعاته عن وودستوك. إن مآخذ مكليمور نفسه على المدينة -كونها حظيرة متخلفة، يسكنها الحمقى والمجرمون-، التي قد تتشابه مع انطباعات بعض المستمعين الساحليين عن ألاباما، تختبر كثيرا ويثبت بطلانها.

 

 عرض لمسلسل "البلدة إس" المدون صوتيا 

تستفيد سردية "المدينة إس" استفادة هائلة، مثلما الحال في "13 سببا"، من تجرعها كلها دفعة واحدة. أما البث الصوتي "مسلسل"، وهو العمل السابق عليه -تولى منتجو "هذه الحياة الأميركية" صنع العملين-، فكان يصدر مرة أسبوعيا، مما يمنح المستمعين وقتا لنسيان التفاصيل المعقدة، وإفلات الخط الرابط بين أحداث القضية. لكن "المدينة إس" لا يخفي شيئا من أجل تأثير درامي أو كشف مستقبلي مشوق. إنه عبقري بسبب الرقة التي ينقب بها في تاريخ "مكليمور" الشخصي، والإنسانية التي يعامله بها.

 

يتضح أن "مكليمور" تحدث مع "رييد" وعدد من الأصدقاء، والجيران بصراحة عن إنهاء حياته. إن له تاريخ مع الاكتئاب يعود إلى المرحلة الجامعية، حيث التقى بمرشد صحة نفسية لفترة، وخضع لعلاج دوائي. لم يكون مكليمور أي صداقات طوال فترة دراسته بكلية برمنغهام الجنوبية، ولم يسكن الحرم الجامعي، بل كان يفضل قيادة السيارة إلى منزل عائلته. وبسبب تعرضه المستمر للمضايقات، كان يستخدم السخرية لتشتيت انتباه المتنمرين، فيسخر من نفسه قبل أن يفعلها الآخرون. كذلك وصف نفسه بـ "شخص مثلي جنسيا غالبا"، في مدينة تملك معرفة محدودة، في أحسن الأحوال، عما يعنيه ذلك. كان وحيدا للغاية. وبدأ يعاني في فترة لاحقة من قلق عميق بسبب التغير المناخي، والمصائب الجيولوجية، والانهيار الاقتصادي.

 

إن ما يميز "البلدة إس" عن سائر محاولات استكشاف الانتحار، إلى جانب كونه عملا غير متخيل، هو مدى ممانعته للوصول إلى حكمة ما من وفاة مكليمور. فهو لا ينشد لعب دور وعظي، ولا إطلاق تعميمات سهلة، حتى مع تسليطه الضوء على مشكلة ارتفاع معدلات الانتحار في المدن الصغيرة1، وشيوع اليأس بين الأميركيين البيض متوسطي الأعمار. إن موضع اهتمامه، ببساطة، هو مكليمور وعقله الاستثنائي، ويبقى عرضه للقضايا الأكبر نتيجة عرضية للاهتمام الصادق الذي يروي به رييد القصة، ورفضه إصدار أحكام على أي شخص يقابله. وحينما نصل إلى السؤال عن طريقة انتحار مكليمور، يأتي شرح "البلدة إس" موجزا، بشكل حاسم، دون إسهاب أو تفصيل.

 

هذه ممارسة صحفية جيدة: تنص الإرشادات الرسمية لـ "المؤسسة الأميركية للوقاية من الانتحار"، على أن القصص التي تفصل في شرح أساليب الانتحار، أو تستخدم لغة أو صورا مثيرة ووصفية، تزيد من مخاطر وقوع حالات انتحار إضافية. وذلك ما يجعل عرض "13 سببا" لموت هانا، حتى مع كونه عملا متخيلا، أكثر جاذبية، بالنظر إلى الشريحة التي يستهدفها المسلسل. يصور المسلسل سرقة هانا شفرات حلاقة من صيدلية والديها، ثم إنهائها سائر أمورها، قبل ملء حوض الاستحمام، والتمدد فيه بكامل ملابسها، وقطع شرايين رسغها في لقطة واضحة تصيب المشاهد بالصدمة.
 

يصور المسلسل الانتحار في لقطة تصيب المشاهد بالصدمة، ولكونه مسلسلا يستهدف المراهقين بالمقام الأول، فهو يتحلى بكم صادم من انعدام المسؤولية
يصور المسلسل الانتحار في لقطة تصيب المشاهد بالصدمة، ولكونه مسلسلا يستهدف المراهقين بالمقام الأول، فهو يتحلى بكم صادم من انعدام المسؤولية

تقف الكاميرا ثابتة على هانا وهي تتنفس بسرعة، ثم تغوص في الحوض وتغلق عينيها. ولكونه مسلسلا يستهدف المراهقين بالمقام الأول، فهو يتحلى بكم صادم من انعدام المسؤولية، وهو الوصف الذي يصدق أيضا على تضمنه عدة تحذيرات، مع غياب أي معلومات عن الخطوط الساخنة للوقاية من الانتحار أو طرق طلب المساعدة. -تلقى "البلدة إس" انتقادات للسبب نفسه-. يظهر الراشدون ومستشارو الصحة النفسية في المسلسل بصورة أشخاص غير أكفاء وعدوانيين أحيانا؛ كما عرض انتحار هانا في صورة فعل انتقامي قد يزج بالمذنبين في النهاية إلى ساحة العدالة.

 

لكن إذا تجاوزنا كل ذلك، نجد أن أسوأ عيوب المسلسل هو الاكتفاء بتعريف هانا، الشخصية الرئيسية إلى جانب كلاي، بناء على مظلوميتها ووفاتها. فلا تتعرف -أنت المشاهد- على نوع الموسيقى التي تحبها، أو الأفلام، أو إذا كانت تهوى الطبخ، أو تحلم بالسفر، أو حتى المواد التي نبغت فيها. إن المعلومة الوحيدة التي تحصل عليها، فيما يخص أحلامها، تأتي كجزء من الحبكة، حين تتشجع هانا على الانضمام إلى جماعة شعرية، بعد تصريحها باحتمالية تطلعها إلى أن تصير كاتبة. ليتضح في النهاية، أن القصيدة التي كتبتها، مسروقة ومنشورة في مجلة مدرسية غير رسمية، وهو ما يتسبب في مزيد من السخرية، والشعور بأن أفكارها، حتى الأكثر خصوصية منها، ليست في مأمن من التدقيق والإهانة.

 

إن مقارنة هذا بـ"البلدة إس"، الذي صور فيه "جون بي مكليمور" حساسا وصارما وغنيا بصورة ملحوظة، يظهر الفارق بين اشتباك الراوي مع شخص في مقابل اشتباكه بموضوع. لقد استفاد رييد، بالتأكيد، من كون موضوع حلقاته شخصا حيا ونابضا، لكن ذلك لا يعني أن كتاب القصص المتخيلة غير مطالبين بالتطلع إلى إضفاء نفس القدر من التعقيد والإنسانية على شخصياتهم. يحكي "البلدة إس" قصة رجل قتل نفسه، لكن ذلك ليس المغزى منه إطلاقا. فمع نهاية الحلقات، تجد نفسك أمام صورة ساحرة، تتحدى كل شيء ربما خطر على بالك في البداية. وعلى النقيض من ذلك، ينتهي "13 سببا" بتلميح أخرق، إلى نوع تراجيديا المراهقين التي سيعرضها في الموسم القادم.

 

———————————————————————————————-

المقال مترجم عن: هذا الرابط

المصدر : الجزيرة