شعار قسم ميدان

"هذا المساء".. دراما ولكن كل شيء هنا سينما!

ميدان - مسلسل هذا المساء
"إن الإخراج ليس مجرد براعة تكنيكية، لكن الإخراج بالمعنى الفني يبدأ من لحظة اختيار الموضوع أو القضية التي يريد المخرج أن يوظف مواهبه فيها أو يعبّر عن رأيه.. وعلى حسب قيمة هذا الموضوع أو تلك القضية وأهميتها لدى الناس ومدى قربها أو بعدها عنهم تتوقف قيمة الفيلم كله وحتى قيمة تكنيك المخرج مهما كان بارعا".
(الناقد الراحل سامي السلاموني[i])

 

وفي مسلسله التلفزيوني الثالث "هذا المساء" -بعد "بدون ذكر أسماء" 2013، و"تحت السيطرة" 2015- الذي اختار موضوعه عن الفضول الإنساني الذي يقود صاحبه للهلاك، يثبت المخرج تامر محسن أن اختيار موضوع نوقش منذ عصر الأساطير الإغريقية وباندورا التي فتحت صندوقا ما كان يجب لها فتحه يمكن أن يظل صالحا لدراما طازجة وجذابة -كتب لها محسن القصة والمعالجة أيضا- في مصر عام 2017.

 

دراما تتمثل قيمتها الحقيقية في احتوائها على كل عناصر الفيلم السينمائي الجيد، والتي طالما تخلى عنها صناع المسلسلات التلفزيونية في اعتقاد -قد يكون خاطئا- أنها تناسب السينما لا التلفزيون، يقول المخرج تامر محسن في حوار له مع أحد المواقع "جرى العرف عند المشاهدين إن المخرج ده بتاع كلمة "أكشن وحركة كاميرا" وبس، ورأيي إن الإخراج عكس ده تماما، دي آخر حاجة يعملها المخرج، يكاد يكون الدقيقتين قبل بدء التصوير، مش دوري إني أحط الكاميرا في السقف ولا إني ألفت الناس ليا كمخرج بزوايا معقدة ويقولوا "ده مخرج كويس"، لأن ده ضد الشغلانة، الإخراج هو فن إخفاء الفن، لو الناس انتبهت ليا يبقى أنا فشلت، والحقيقة إن في المسلسلات دور المخرج هو "مصمم المشروع" من أوله لآخره عشان يتعمل مسلسل 30 حلقة، بالتالي فيه نوعين من الإخراج، الأول بيقول "هاتولي حلقات" وأنا أقول أكشن، وأنا مبعملش كده، والتاني وده اللي أنا بعمله هو القصة اللي بخلقها وعلاقتي بيها بتكون أصيلة وحميمة، والعوالم بتطلع من عندي، وبحبها أكتر، مرهق آه، لكن دي الطريقة اللي بفضلها، الإخراج هو إني شفت حلم، الحلم بتاعي وبطلب من كل مشارك في العمل إنهم يكملوا الصورة في الحلم ده، أكتر ما هي نعمل فيلم أو مسلسل لفلان الفلاني"[ii].

 

مخرج مسلسل هذا المساء تامر محسن (مواقع التواصل)
مخرج مسلسل هذا المساء تامر محسن (مواقع التواصل)

 

عندما يأتي المساء ونجوم الليل تُنثر.. اسألوا الليل عني، متى نجمي يظهر؟

كما الأفلام السينمائية تماما يضعنا تامر محسن منذ أول لقطة في الحلقة الأولى في الموضوع مباشرة محددا المسار الذي علينا المضي فيه.

 

في اللقطة الأولى نرى العالم من خلال شاشة هاتف ذكي، تنقل الصورة كاميرا مراقبة لأحدهم وقد حاول اقتحام محل ما لسرقته، هكذا وباتفاق ضمني مع المشاهد، يُعرض لنا ما يمكن لك مشاهدته ومعرفته من خلال هذا الجهاز الصغير.

وإن سبق هذا التعريف الأوليّ من خلال اللقطة الأولى تعريفا آخر لهذا الاتفاق الضمني عن هذا العالم المُخلّق من خلال عبارة "هذا المساء" التي حملها المسلسل عنوانا، والتي طالما صاحبت العروض الأولى للأفلام السينمائية في دور العرض، وكما في قاعات السينما المظلمة يرى المشاهدون عالما مختلقا بالكامل من خلال طقس جماعي أشبه بالتجسس على حياة هؤلاء الأبطال.

 

فهذا المساء يطرح فكرة مرعبة عن ماذا لو تحول هاتفك الذكيّ لآلة عرض سينمائي لا تتوقف عن بث حيوات الآخرين، والفكرة الأكثر رعبا عن ماذا لو تحولت حياتك الشخصية بكل ما تحويه من تفاصيل حميمية إلى بيانات رقمية تصل بيسر إلى أيدي الآخرين حرفيا؟! وإذا كانت القاعدة تقول "إن الفن يجب أن يخرج شبيها بالعالم لكنه ليس هو" فإن ما ستشاهده ليس فنا كالذي تعرضه الماكينات في دور العرض، لكن هو العالم ذاته وهذا مكمن الرعب.

 

هذه هي الفكرة التي اختارها تامر محسن، وكتب لها السيناريو والحوار ورشة تضم أربعة كُتّاب هم: سمر طاهر، ومها الوزير، وعبد الله الغالي، وسمر عبد الناصر، ويشرف عليها محمد فريد. من خلال عالمين تنقسم إليهم مصر الآن وتتسع بينهما الفجوة، الأول هو عالم المجمّعات المغلقة على أصحابها، والسيارات الفارهة، والعائلات التي يتعلم أبناؤها في جامعات لندن، وبين عالم الطبقة التي تكافح كي تظل متوسطة، عالم الأحياء المكتظة، ومترو الأنفاق، والميكروباص، والجامعات والمدارس الحكومية التي لا يجد خريجها عملا سوى سائق لدى أسرة من الفئة الأولى.

 

 العرض الدعائي للمسلسل

 

في العالم الأول يوجد أكرم ونايلة اللذان اتفقا على الانفصال المؤقت بعد أن شعرت الأخيرة أن الحب يذوي بينها وبين زوجها، ويحل محله الإحساس بالواجب والتعود، فينصرف أكرم إلى عالم أكثر جاذبية بالنسبة له، ويتزوج سرا من عبلة صاحبة المسمط الشعبي وابنة خالة سائقه، وفي العالم الثاني يوجد سوني الذي اعتاد التجسس على سيدات حيه الشعبي لابتزازهن بما يعرفه عنهن لإجبارهن على أن يقمن علاقة معه.

 

وبين العالمين يقع سمير سائق عائلة أكرم ونايلة والمتجسس السابق والتائب حاليا، والذي يربي ابنة إحدى ضحاياه، ويتعاطف مع الفتاة تقى الواقعة تحت تهديد ابتزاز إلكتروني بفيلم فاضح لها.

 

الليل وسماه ونجومه وقمره وسهره وأنت وأنا

أكرم: لا نعرف كثيرا عن تاريخه قبل زواجه من نايلة، لكنه يبدو أقل في الطبقة الاجتماعية من زوجته التي اختارته رغم عدم حماس والدها لهذه الزيجة، وعامله والده بقسوة المتجاهل لأحلام ابنه الأكبر ومشاعره، فصار مؤمنا بقوالب المجتمع عن السعادة حتى أتاه انهيار علاقته بنايلة مؤشرا ومنقذا.

 

هارب من ملل حياة الأثرياء -دون الوقوع في فخ التنميط- القادرين على السفر إلى لندن في إجازات نهاية الأسبوع، أو إلى إسبانيا لمشاهدة المباريات المهمة في الدوري.

 

ينظر بعين استشراقية إلى حياة سائقه سمير ومن معه، ويأخذه الاستشراق حد الوقوع في حب عبلة والزواج منها كمغامرة، حيث تمثل هذه التجربة بالنسبة له كمثيلاتها من التجارب التي تبعده عن رتابة الحياة كزيارة المطاعم الشعبية وركوب المراكب النيلية ومترو الأنفاق وزيارة أضرحة آل البيت، ولم يدر أن الزواج ليس مغامرة عابرة قابلة للإخفاء الأبدي.

 

لكنه ليس خائنا بطبعه -وفي رفضه عرض الفتاة الإنجليزية لجنس بلا مسؤوليات دليلا- بقدر ما يتطلع لمغامرة تبدد ملله.

 

undefined

 

سمير: مثله كمثل برومثيوس الذي سرق النار ليهديها للبشر، فعاقبه زيوس بأن جعل نسرا يأكل كبده مع كل شروق للشمس، وكلما اقترب من الموت نبت له كبد جديد. سمير الذي اقترب ورأى وعرف أول الطريق بأن تجسس على زوجة صديقه، واكتشف خيانتها له، وتطور الأمر إلى أن قتل الصديق زوجته تاركا وراءه طفلة مشكوك في نسبها ليكفلها سمير تكفيرا عما فعل.

 

يحيا بإدمان لا يستطيع التخلص منه فيمتد تجسسه لأكرم وزوجته، حاملا معه عقدة ذنب تجاه ضحايا الآخرين، حيث برز ذلك حينما مد يد العون لتقى إحدى هؤلاء الضحايا بعد تمزق قلبه ألما من مشاهدة التهديدات التي لاحقتها بسبب فضيحة تم ابتزازها بها، ذو نزعة صوفية، وزهد من كان يستطيع الامتلاك لكنه تعالى وأهان ما لا يملكه بالتخلي.

 

سوني:  بائس حد البحث الدائم عن القبول والحب، لا عائلة له سوى صديقيه الأخوين تريكة، يشعر بالغيرة من الأخير لنقائه وزهده، غير مدركا أن سمير قد دفع ثمن هذا طويلا. ذكوري لا يرى في المرأة غير عهر مفترض، وعاشق حد إيذاء المحبوب عمدا.
تتحقق فيه وحده العدالة الشعرية، في نزعة أخلاقية مفاجئة وغير موفقة من كُتّاب المسلسل.

 

تقى: نتعرّف عليها لأول مرة في واقعة تحرش عابرة في ميكروباص الزهراء، لنعرف لاحقا أن هذه الواقعة أقل ما تعرضت له من انتهاك.
وقعت في حب أحدهم فصور لها فيلما فاضحا، تعقبها واحد من محترفي الهاكر ولم تفلت منه إلا بمساعدة سمير.
تدخلها يد الله في التجربة فترفض الخضوع الدائم للابتزاز فتنال وحدها النهاية السعيدة.

 

عبلة: صاحبة الأحلام المحدودة والمحبّة لآل البيت، أفلتت من فشل تجربة الزواج بجنين لطفل طالما تمنته، وكان انفصالها القاسي عن أكرم العقاب الأكبر له.

 

نايلة: لا تستسلم لفخ الانتقام السريع، لكنها كأي امرأة من مواليد برج العقرب تؤمن أن الانتقام طبق يؤكل باردا، تخذلها خيانة زوجها لكن ليس بقدر أنانيته.

 

undefined

 

هذه ليلتي وَحُلْمُ حَيَاِتي

هذه الشخصيات الست ومعها الشخصيات الثانوية التي تقدم وجوها مشابهة لنفس العُملة هي ملخص هذا الانهيار الذي بتنا نحياه، فساد مؤسسة الزواج بشكلها الحالي، زيف العلاقات العاطفية، الخيانة الإلكترونية المُقنّعة، ولا فارق هنا بين ساكني القصور وساكني الحارة فالتشوه قد طال الجميع وانتهى الأمر.

 

تدفع الشخصيات الصراع في اتجاه متصاعد، اختار صُناع المسلسل أن يبدأ هادئا وتدريجيا ولا يتم حلّه دفعة واحدة على طريقة الآلة الإلهية في المسرح الإغريقي.

 

وإذا كانت وحدة بناء المسلسل هي الحلقة، ووحدة الحلقة هي المشهد، فقد توفر في كل حلقة مشهد -على الأقل- يأتي دافعا حالة الصراع للأمام، وما يقال في الحلقات الأولى يجد صداه في الحلقات الأخيرة، فلا شيء هنا مجاني، وهذا هو موضع الاستثناء والتفرد لمشاهد ملول كمشاهد التلفزيون قادر بجهاز تحكم يعمل بالبطارية على طردك من عالمه في لحظة.

 

ويأتي الحوار مكملا لدفع الصراع، لا على طريقة المسلسلات التلفزيونية الاعتيادية التي تصب مقصد المؤلف وحكمته في الحياة صبا في آذان المشاهدين، لكنه حوار يخالف ما يراه المشاهد ويلمسه في حياة الشخصيات الست -ومعهم في ذلك الشخصيات الثانوية- غير الواعية بحقيقة ما هي عليه من بؤس، والأهم أنه متباين قدر ثقافة الشخصيات وعمرها وطبقتها الاجتماعية.

 

الليل موال العشاق

في حياة مختلقة قائمة على التجسس كالموجودة في السينما، المكان دوما هو البطل، فأول ما يسأل عنه المشاهدون هو أين نحن؟ وفي أي مكان تقع هذه الأحداث؟ يستوي في ذلك ما تعرضه الماكينات في دور العرض، أو ما نراه عبر الهاتف الذكي، أو كاميرات المراقبة.

 

يبدو الكراج حيث يبدّل سمير سيارة أكرم الفارهة بسيارته المتواضعة والعكس نقطة التماس بين العالمين، أما السينما المهجورة فهي بوابة العبور نحو العالم المغري بالتجسس على حياة الآخرين، تماما كما لعبت هذا الدور طويلا في حياتها الأولى.

 

undefined

 

ويحل الفاصل الخشبي بين أكرم وعبلة في مسجد السيدة نفيسة حيث شرارة الحب الأولى كمعادل بصري لمسافة لا تزول بينهما وإن جمعهما زواج وجنين ينمو. أما لندن فهي مكان الأب صاحب رأس المال، والقابع هناك في منزله الريفي الأنيق، يرى العالم في شركته بمصر عبر كاميرات المراقبة -السينما مرة أخرى- حيث يعز من يشاء ويذل من يشاء ويشد على يد أحدهم مودعا للمرة الأخيرة وطاردا إياه من جنته.

 

حبك مفرّحني فرحة طير بطيرانه

من خلال مشاهد تسجيلية قدمها تامر محسن بحرفية عائدة لطول عمله في الأفلام الوثائقية -في تعادل مع مشاهد أرشيفية مماثلة عن القاهرة في الثمانينيات في مسلسله بدون ذكر أسماء-، ويقدم محسن القاهرة بشكل شديد الجمال لمدينة مليونية تكتظ بالسكان. ويبدو الليل المفتاح الأفضل لرؤية جمال هذه المدينة المزدحمة شديدة التلوث، حيث تهدأ الأصوات، ويحل السكون، ويمكن لراغبي رؤية الجمال لمسه في هذا الصمت العابر سريعا.

 

وفي مدح القاهرة يقدم محسن شريطا صوتيا للمسلسل يليق بها، وكما تفاجئك القاهرة بإحدى أغنياتك المفضلة عرضا، يفاجئك شريط صوت المسلسل على مدار حلقاته بتحية لواحد من هؤلاء الذين تسمعهم وسط الصخب اليومي فلا تملك معهم سوى الدندنة من أم كلثوم، وشريفة فاضل، ووردة، وحتى الإنشاد الصوفي وعبد الباسط حمودة.

 

وإنْ قَسَمَتْ لي أنْ أعيشَ متيَّمًا .. فشوقي لها بينَ المحبِّينَ شائعُ

في (أماكن/عوالم) شديدة التناقض كالأماكن التي يدور فيها "هذا المساء" يصبح (اللون/الإضاءة) جزءا لا ينفصل عن هذا العالم، فأما من امتلكوا المال وسكنوا المجمعات المغلقة فإضاءتهم زرقاء باردة أقرب إلى كروت البوستال السياحية، وأما ساكنو الحي الشعبي من الطبقة الوسطى فإضاءتهم حارّة في إشارة إلى أن هولاء أكثر وضوحا وصراعاتهم أكثر حسية.

  

===========================

 

الهوامش:

[i] سامي السلاموني: الأعمال الكاملة.

[ii] حوار مع موقع مصراوي.

المصدر : الجزيرة