شعار قسم ميدان

"إيل".. عندما تهوى المرأة قاهرها!

midan - elle
مقدمة المترجمة

رغم اغتصابها، وطفولتها المضطربة، تمضي وكأن شيئا لم يحدث، تصل لمنصب  إداري، وترأس مجموعة من الرجال، وتُدفع بلا وعي منها لمعاداة المرأة، وتدعو بأفعالها إلى الذكورية العنيفة. هذا الفيلم يبين لنا كيف صور مخرج إيل فيلما يحمل بين طياته الكثير من مشاكل المجتمع.

نص المادة

للوهلة الأولى، قد يبدو فيلم المخرج بول فيرهوفن "إيل" (Elle) أبعد ما يكون عن النسوية، ولكن لم يسبق لأحد فهم أفلامه من الوهلة الأولى. وطوال حياته المهنية حافظ فيرهوفن باستمرار على تصوير الشخصيات النسائية القوية في جميع أفلامه، وليس فيلم إيل باستثناء عن سابقيه. يحكي الفيلم عن النساء الذكيات الصامدات والجذابات اللواتي -رغم عدم تمكينهن- تشاركن بلا وعي منهن في قهر المجتمع. ولا يقدم فيرهوفن عمله للحط من قدر النساء، بل إنه بالأحرى لتشريح وتحليل سبب عدم تمكينهن وفشل فكرة النسوية.

هذا ليس فيلما ذكوريا بحد ذاته، بل إنه حول النظام الذكوري وعواقبه الضارة. يمكن للنسويات تعلم الكثير من الفيلم إذا تجاوزن الانطباعات الأولى واستطعن قراءة التورية والاسقاطات. يتناول "إيل" -ظاهريا- قصة امرأة تضررت نفسيا، ميشيل (تقوم بدورها إيزابيل هوبيرت) التي تدير شركة ألعاب الفيديو ناجحة مع صديقتها المقربة آنا. ولصدمة عانت منها في الطفولة بسبب والدها القاتل المتسلسل، كونت ميشيل صورة وحشية عن نفسها ودعمت هذه الصورة وسائل الإعلام.


لذلك غرقت في الشعور بالذنب، وأصبحت متواطئة تماما في نقل جرائمه هو ونسبها لنفسها فلم تتمكن من الهروب من الحلقة المفرغة للسادومازوخية؛ وهي القسوة عمدا مع النساء الأخريات، والمازوخية تماما في كراهية الذات، وهذه "طبيعتها". ويقترح فيلم فيرهوفن بمهارة فائقة أنها طبيعتنا نحن كذلك.

undefined


ميشيل هي ‘إيل’ التي تعني "هي": وهي كناية عن كل النساء بشكل عام، لاستحالة وجود النسوية في عالم يغرس فينا منذ الولادة – رجالا ونساء على حد سواء – معاداة النساء. منذ طفولتها كانت ميشيل مستقبِلة سلبية، في بادئ الأمر لأوامر والدها، ولاحقا للوصمة العامة لأنها أطاعته. ورغم أنها لم تفعل شيئا ذا قيمة (لأنها كانت طفلة في ذلك الوقت، ولم تكن على دراية بما تعنيه أفعالها)، فإن الصورة التي حملتها ميشيل عن ذاتها هي أنها شخصية حقيرة، وهذه الصورة تشكل تماما مفهومها عن ذاتها الذي لا بديل له بالنسبة لها. 

شُوهت كل علاقات ميشيل تماما بإدمانها المزدوج لخداع الذات والتدمير الذاتي؛ فهي على علاقة بزوج آنا النرجسي، روبرت الذي تحبه بعد تعرضها للاغتصاب. وتغرق ابنها المدلل غير المستقل ماديا بالعطاء ولكنها تعامل حبيبته باستهتار كما توظف عندها فريقا من الموظفين الذكور الحاقدين والناقمين عليها، والذين يصممون سيناريوهات جنسية في الألعاب التي ينتجونها لشركتها بينما يعيشون خيالات جنسية عنها هي نفسها.

كما أنها مسؤولة أيضا عن صنع محتوى عنيف جنسيا أكثر في صناعة الألعاب. ولتحقيرها ذاتها لا تستطيع ميشيل الفرار من الحلقة المفرغة كونها منتجة لكراهية النساء ومنتَجا فيه. ونحن نشاهد التلاعب بالنساء في شركة الألعاب وتصويرهن مثل الدمى على يد مصممي الألعاب الذكور، ولكننا نشاهد كذلك ميشيل وهي تدفع فريقها لإخراج سيناريوهات أكثر تطرفا وعنفا. 

إن التحقير الداخلي للأنثى (وهو ما يبدو أنه لا مفر منه في الثقافة الذكورية) الذي يقود ميشيل إلى ممارسة الجنس مع زوج آنا يدفع سيدتي الأعمال هاتين إلى الانفصال، مما يجعل الحليفتين القويتين تتنافسان من أجل "امتياز" استغلاله واستخدامه لهن. وتكره ميشيل أمها المسنة كذلك، التي تعتمد ثقتها اعتمادا كليا على إنجذاب الرجال لها، فتخضع لجميع أنواع الجراحة التجميلية لتبدو كما لو كانت في منتصف العمر. وهي تنجح في اجتذاب عشيق أصغر سنا، وتترك له شقتها (حارمة ميشيل من الميراث) بعد أن استغل يأسها وتزوجها في نهاية حياتها.

الأهداف النسوية لفيرهوفن
لا تشير طريقة فيرهوفن في تمثيل النساء الرئيسيات في الفيلم إلى أنهن متدافعات ضعيفات، بل إلى كونهن مخدوعات (مواقع التواصل)
لا تشير طريقة فيرهوفن في تمثيل النساء الرئيسيات في الفيلم إلى أنهن متدافعات ضعيفات، بل إلى كونهن مخدوعات (مواقع التواصل)

يظهر فيلم "إيل" كيف أن بعض النساء -بسبب التطبيع الداخلي للتقليل من الذات وكره النفس- قد قبلن إساءة معاملتهن على هذا المستوى العميق حتى أن المقاومة أصبحت تبدو بلا جدوى. فبعد أن يكسر شخص غريب منزلها وينتهكها جنسيا، لا يبدو على ميشيل الصدمة أو الهيستيريا. ولا يرسمها فيرهوفن باعتبارها مسكينة في محنة، ولا أنثى ضعيفة تطلب رجلا بغية المساعدة. بل العكس تماما؛ فميشيل ليست منفصلة عاطفيا بالقدر الكافي عن الاعتداء الجنسي لكي تكون استجابتها هي الارتياع؛ فإن ذلك على كل حال ما تكسب عيشها من إنتاجه، ففي عملها الإعلامي المشبع بالإباحية تعد ثقافة الاغتصاب هي القاعدة، وليس الاستثناء.

لا تشير طريقة فيرهوفن في تمثيل النساء الرئيسيات في الفيلم إلى أنهن متدافعات ضعيفات، بل إلى كونهن مخدوعات، ترى كل واحدة منهن مميزات اتباع الذكورية بقدر وضوح رؤيتها لمساوئ مقاومتها. إنهن يكرهن أنفسهن، لأنهن تعلمن النظر لأنفسهن أولا من منظور الذكور. ومع ذلك، فإن فيرهوفن حريص على عدم تقديمهن إلينا من منظور ذكوري متلصص. وكما هو الحال في أفلامه الأخرى، وعلى عكس المعتاد في هوليوود، يمنحنا فيرهوفن شخصيات لإناث قويات – فاعلات لا مفعول بهن – لديهن أهداف ومصالح أخرى غير الزواج أو الأمومة. فشخصياته تسعى لرضاهن الخاص ولسن مجرد منظر ممتع للذكور.


وفي عكس غير تقليدي للتلصص الذكوري المعتاد، يظهر فيرهوفن ميشيل تتجسس على جارها باتريك، فهي تريده بشدة، وتتبعه، ويوضع الجمهور في نفس وجهة نظر ميشيل، ولأنها تنظر إلى باتريك بمنظور جنسي، يراه الجمهور كذلك باعتباره أداة جنسية. وفي الوقت نفسه- لأن فيرهوفن يريد أن يختبر كيف تؤثر الذكورية على النفسية الأنثوية- فإن فيلم "إيل" يمثل المرأة بوصفها أداة جنسية ومنتجة لخيالات الجنس المعادية للنساء في الوقت ذاته؛ يدخل كره النساء في عقولهن ثم يعاد إنتاجه.

وهذه هي خلاصة الفيلم: إن العديد من النساء متورطات بعمق في الاضطهاد الذي يتعرضن له هن وغيرهن من النساء لأنهن لا يستطعن أو لا يتصورن الأمور أو أنفسهن، بأي طريقة أخرى. إن ميشيل مجرد مثال محدد ومتطرف جدا للوضع الذي يعبر عنا جميعا، النساء والرجال أيضا. في الثقافة الذكورية التي تعتبر صناعة الألعاب بمثابة مثال رئيسي، يتعلم الرجال أن يكرهوا النساء، والنساء يتعلمن دون وعي كراهية أنفسهن وغيرهن من النساء.

المخرج بول فيرهوفن أثناء تصوير فيلم إيل (مواقع التواصل)
المخرج بول فيرهوفن أثناء تصوير فيلم إيل (مواقع التواصل)


وفيرهوفن هو أيضا خبير في اللاهوت المسيحي، لذلك ليس من المستغرب أن "إيل" يناقش بمهارة الدور التاريخي للكاثوليكية في رعاية النظام الذكوري. فزوجة باتريك، الكاثوليكية المتدينة، متسامحة مع "مشكلته" في الرغبة في الاغتصاب. إن قبولها لخطيئة باتريك الصغيرة -الخيانة والاغتصاب- ربما يكون بمثابة إشارة إلى تساهل الكنيسة الكاثوليكية سيئة السمعة مع الكهنة المتهمين بالاعتداء الجنسي على الأطفال.

وفي الثقافة ذاتها يتحقق إرضاء الإناث بثمنه الباهظ لأن هذه الثقافة تشجع هيمنة الذكور وخضوع الإناث، لذلك يبدو في هذه الظروف أن المرأة التي ترضي رغباتها الجنسية الخاصة تعاني من المازوخية. وهذا يعني أنه نظرا إلى أن الجنس ينشأ (مفهوميا) حول هيمنة الذكر ورضوخ الأنثى له، وبما أن معظم النساء يرغبن ويحتجن إلى ممارسة الجنس، فإن القيام بذلك لا بد أنه يعني رضوخهن للرجال.

ويشير "إيل" إلى أن ثقافة الإناث التي تكره الذات ليست في نهاية المطاف خطأ أحدثته المرأة نفسها، ولكنه إرث عن النظام الاجتماعي. فكل الرجال الذين لديهم نوع من الرغبة الجنسية لميشيل -سواء روبرت، الذي يستخدم ميشيل كمرآة لنرجسيته الذاتية، وكيفن الذي يتخيل سيناريوهات عنيفة عن إذلالها، أو المغتصب باتريك، الذي لا يقدر على الاستثارة الجنسية إلا عندما يجرب العنف السادي أو الإذلال- تم تصويرهم باعتبارهم تأثروا بعمق بالذكورية.

تأمل ميشيل أخيرا في مواجهة الرجل الذي ورثت عنه هذه الحالة البائسة وهو أبوها؛ لكن يكون قد فات الأوان؛ فعندما تذهب لزيارته في السجن تجد أنه ميت بالفعل، أي أنه فقط عندما وجدت ميشيل أخيرا القوة لمواجهته، ينتحر والدها، ليحرمها من الشيء الوحيد الذي قد يشفيها. وبهذه الطريقة يشير الفيلم إلى أن الرجال الذين أقاموا ثقافة التدمير الذاتي للإناث لم يعد لهم وجود، لذا فإن إرثهم الدائم أصبح غير قابل للتراجع.

إمرأة مسيطرة.. على ماذا؟
التفاؤل الوحيد الذي يقدمه هذا الفيلم هو أن النساء في نهاية المطاف يضقن ذرعا من ظروفهن البائسة فيجدن العزاء في بعضهن (مواقع التواصل)
التفاؤل الوحيد الذي يقدمه هذا الفيلم هو أن النساء في نهاية المطاف يضقن ذرعا من ظروفهن البائسة فيجدن العزاء في بعضهن (مواقع التواصل)


عندما تعرف ميشيل أخيرا هوية مغتصبها، وتواجه باتريك بالسؤال البسيط "لماذا؟"، قال: "إنه أمر ضروري". وقد يبدو هذا الرد مبسطا جدا، ولكن هذا الجواب الموجز يجلب قضية هامة وجوهرية إلى حيز التركيز، فالضرورة الطبيعية المفترضة للتمييز الجنسي كانت في الواقع أمرا متكررا تم من خلاله تحويل تفوق الذكور تاريخيا إلى أمر منطقي ومقبول.

ونظرية الحتمية البيولوجية "تفسر" لماذا ليست السلطة الذكورية قضية سياسية بل إنها ضرورة بيولوجية. وعندما حاولت المرأة أن تشق طريقها إلى أدوار كانت حكرا على الرجال، فإن الدعاة الذكوريون يلجأون دائما إلى "الطبيعة" لتعزيز النظام. وينجح هذا التكتيك لأن المشهد الثقافي مشبع جدا بالقوالب النمطية الجنسية حتى أصبح يبدو طبيعيا تقريبا. 

ويصر علماء الاجتماع مثل إي أو ويلسون على أن النظام الذكوري مستمر لأن الجينات ترسخ الثقافة. ويرجع فرويد جذور الثقافة الذكورية إلى الفروق الجسدية بين الجنسين. وقال المسيحيون التقليديون إن الترتيبات الاجتماعية مرتبطة بوظائف الإنجاب، وبالتالي تحديد الأدوار الاجتماعية للمرأة كأم وزوجة. في حين ميزت النسويات مثل سيمون دي بوفوار ما بين الجنس والجندر. وقالت إنك تولد بجنس محدد والثاني تكتسبه. وما تكتسبه يصلك عن طريق التلقين الثقافي.

والتفاؤل الوحيد الذي يقدمه هذا الفيلم هو أن النساء في نهاية المطاف يضقن ذرعا من ظروفهن البائسة فيجدن العزاء في بعضهن. حيث تشير نهاية الفيلم إلى لجوء ميشيل وآنا لبعضهما في النهاية. وكأفلامه النسوية الأخرى، يستحق فيلم فيرهوفن المزيد من التقدير من النسويات والنسويين على معالجته العميقة والمعقدة لكيفية تأثير وسائل الإعلام والتأثيرات الدينية والثقافة العامة علينا جميعا.

===============================

 

مترجمٌ عن "فيلوزوفي ناو"