شعار قسم ميدان

بين التهديد والتطبيل.. لماذا انتقل "مسار إجباري" من حضن الثورة إلى جحر المستبد؟

ميدان - مسار إجباري

في خضم الحياة، نواجه الكثير من الخدع والأفكار الزائفة، ننصاع وراءها مكبلين، ثم ندرك أننا نقع في شباك وهمية تجبرنا على السير في مسارات لا ننتمي لها، تخدعنا السياسة، والخطابية الزائفة، يخدعنا بعض الأصدقاء، وبعض الكتب والأفلام، والوعود والوجوه الملائكية؛ في كتاب "الموسيقى" يخبرنا جبران خليل جبران بأن الموسيقى هي اليد التي تشاطرنا الأفراح والأحزان، وأنها الشاهد على شقائنا والظل المرافق لنا عندما تصالحنا أو تخدعنا الحياة، لكن هذه الموسيقى التي تصاحبنا ليل نهار وتضفي إيقاعا حالما على حياتنا اليومية هل لها أن تكون خادعة؟ أو يدا غادرة تتلاعب بمشاعرنا؟ وفي حال إدراكنا لهذه الخدعة هل سنقاطع الموسيقى ونواجه الحياة على خلفية صامتة؟

     

انحراف المسار

لأن كل الطرق متشابهة، ولأننا مجبرون عليها، اختاروا هم أن يسلكوا طرقا مغايرة لا تحف جوانبها أعمدة الإنارة، واختاروا أن يكون اسما تهكميا يعبر عن هويتهم "مسار إجباري"، واختاروا أن تنطلق نغماتهم الأولى من قلب الشوارع الخلفية لا من مسرح عاجي مزيف، تغنوا بالحب على طريقتهم؛ في البدء كانت حكاية غنائية "مرسال لحبيبتي" مرثية شاعرية للعاشق الذي انقطعت سبله عن حبيبته إلا من خطابات نتلصص على فحواها، وغنوا "بقيت حاوي" مرثية أخرى لشاب ينفض الفقر من ضلوعه المهشمة وقلبه العليل[1]. اختارت فرقة "مسار إجباري" الانحراف عن طريق السير، لكنهم في الأيام القليلة الماضية أطلقوا أغنية جديدة كانت كلماتها ومضمونها أشبه بالطعنة الغادرة للكثير من جمهور "مسار إجباري" من الشباب الذين ساروا وراءهم في الطريق المغاير دون الالتفات أو حتى الرغبة في الرجوع، نحّوا الحبيبة جانبا وغنوا للتعديلات الدستورية الأخيرة.

      

   

أنا هويت وانتهيت؟

خمسة شباب يغلب على طابعهم الهدوء، لم يثيروا الضجة يوما ما، وحدها الموسيقى والأغاني هي الصخب الوحيد في حياتهم، ولا شيء في قاموسهم يعلوا فوق صوت غنائهم، يقف هاني الدقاق محتضنا الميكروفون بانسجام ويغني "أنا هويت وانتهيت"، فلا يملك الجمهور سوى التنهيد ليعبر عن النشوة التي غمرت حواسه على إيقاع صوته الرخيم، وعن شعور حالم بالشوق إلى الحب الأصيل، فرقة لم تتغن سوى بالحب وبالمقابل لن نرضى نحن بشيء سواه. عند سؤال "مسار إجباري" عن طبيعة الأغاني التي يهتمون بتقديمها للجمهور أجاب عضو الفريق أيمن مسعود بثقة أن الفريق لا يشغله سوى الأغنية الجيدة حتى لو كانت تجارية، وأن تقديم أغنية بدافع الإجبار هو أمر مرفوض تماما عند "مسار إجباري"[2]، لكن ما حدث يؤكد أن المسار أصبح إجباريا تماما.

   

"زمن السكوت انتهى ومن النهاردة الخوف ملوش مكان"

(نشيد الثورة، مسار إجباري)

    

تأتي الخيانة عندما يخون أحد طرفين عهده مع الطرف الآخر، ونحن هنا لم نوقع معاهدة، بل هو اتفاق ضمني مبرم بين الخمسة على المسرح وبيننا نحن على امتداد القاعة أمامهم، أنتم منا ونحن منكم. عندما غنى هاني الدقاق "نشيد الثورة" بعد أشهر من قيام ثورة 25 يناير أيقنا أن أكتافنا ملتصقة بأكتافهم في المظاهرات نفسها وفي الساحات نفسها، وأنهم جزء من حناجرنا وكلماتنا، هنا تذوب الفوارق ويدخل الخاص في العام، وسيلتزم الطرف الأشهر في المعادلة بأن يداعب أحلام ومراد الطرف الثاني، وأن الانصياع وراء أحلام أخرى هو خيانة لن تُغتفر، على "مسار إجباري" أن يغني للحب، وللأحلام حتى لو ضائعة، وأن يغني لليأس على استحياء، وأن يداعب الأمل وذكرى الثورة، وألا يُحسب على أيديولوجية سياسية معينة تجعله في مصاف طرق مغايرة عن التي حددوها لأنفسهم سابقا.

    

   

مساومات

بعد صدور الأغنية أصبحنا أمام معادلة جديدة لطرف خاسر وهو "مسار إجباري"، لكن من هو الطرف المنتصر؟ يمكننا أن نضع السلطة هنا في كفه الرابح في استقطاب شريحة جديدة من فئة فرق الأندرجراوند للغناء لحدث سياسي يخدمها بالأساس، أو ليدون في تاريخها القصير أو الطويل أن "مسار إجباري" غنى لها لدعوة الشباب للنزول إلى انتخابات تعديلات دستورية ستسمح لرئيس الجمهورية بفترة رئاسية أطول، وهو أمر يقبله المؤيدون ويرفضه المعارضون جملة وتفصيلا، لكن دعونا هنا نفكر، هناك أكثر من أغنية صدرت تزامنا مع أغنية "انزل وشارك" ليبقى أمامنا سؤال: لماذا "مسار إجباري" وأحمد شيبة تحديدا؟

   

دائما ما يُذكّرنا الباحث الموسيقي دين وايتسايد بضرورة ألا نُغفل السياقات الاجتماعية والسياسية أو التاريخية لإنتاج عمل موسيقي ما، من منطلق عدم انفصال الفن عن السياق الثقافي العام[3]، وبالنظر مرة أخرى إلى "انزل وشارك" التي سينساها الجمهور بمجرد انتهاء مهمة الانتخابات الدستورية التي أُنتجت من أجلها، فإن الأغنية في ذاتها كمنتج عاكس للدعاية الانتخابية يدفعنا إلى تحليل خطابية الأغنية، والكلمات التي سطرها الشاعر محمد جمعة لتحفيز الجمهور للنزول إلى الانتخابات.

  

إذا أعدنا مشاهدة فيديو كليب الأغنية وأنصتنا جيدا إلى كلماتها، فسنجد أنها لا تختلف عن السياق الحالي السائد في شوارع مصر، والتي لا تخلو من أفعال الأمر وإرشادنا إلى فعل الصواب "اعمل الصح" والذي يعني بالضرورة أننا نسير في المسار الخطأ الذي يجب علينا تعديله، والدستور هنا هو الوسيلة والغاية، ربما لم يهتم الكثيرون بالمواد التي صوّت البرلمان المصري لتعديلها، لكن من اللافتات في الشوارع والأغاني التي تحاوطنا طوال اليوم علينا أن ندرك أن هناك شيئا في الصالح العام ستصلحه التعديلات كأنها مصباح سحري، لكن المواطن البسيط قد تخدعه تلك الشعارات فيصدّقها، أما الشباب وهم الفئة الأبعد عن السلطة والتي انقطعت أغلب سبل الوصل بينها وبينهم لن يجذبهم إلى صناديق الاقتراع سوى صوت مألوف لهم يحفزهم للمشاركة، كما يحتاجون إلى خطاب تخفت فيه الألحان الراقصة ويعلو فيه صوت أكثر عقلا وحكمة. 

    undefined

   

"أدي القلم وأدي الميزان وأدي الطريق.. وانت الحكم وبرضو انت الفريق"

  

مزجت "انزل وشارك" بين صوت العقل (مسار إجباري) والصوت الخفيف الراقص (أحمد شيبة)، وهذا المزج يستهدف استقطاب الشباب من محبي الصوتين، والتغني بـ "ما تقوم يا صاحبي" يؤكد أن الأغنية تخاطب كل من قرروا التقاعس عن المشاركة في الانتخابات، لأن المشهد العام يفتقدهم والسلطة بحاجة إلى استعادة صورة الشباب بجوار العجائز داخل لجان الانتخابات كما كان الحال في شهور وسنوات الثورة الأولى والتي اختفت ولم تتكرر مرة أخرى. ودعونا نتفق أن اللحن الراقص هو إعلان ضمني على الموافقة على التعديل، وأن صوت هاني الدقاق الرخيم يعني التأني والتفكير بالعقل، لكن الأغنية بشكل عام يغلب عليها صوت الفرح، صوت الموافقة، لكن هذا الصوت (صوت شيبة) لم يغضبهم لأنه ببساطة لم يعدهم بشيء، ولم يصدر عن نفسه صورة معينة أو انتماء أيديولوجيا معينا، هو مجرد مطرب شعبي خفيف تأنس لأغانيه ولا تنشد علاقة أعمق من تلك، وإذا علمنا أنه يؤيد السلطة بشكل أو بآخر فسنستوعب الأمر ولن ننتقده، لأنه كما ذكرت لم يعدنا منذ بدايته بشيء سوى أغانٍ خفيفة وحسب.

    

undefined  

   

انقسمت الآراء بين جمهور "مسار إجباري"، هناك من قرأ المشهد مبكرا وأن الفريق تعرض للإجبار لتنفيذ تلك الأغنية وتفهموا موقفهم، وهناك من يردد بنبرة صارخة أن هذه الأغنية هي الخذلان بعينه، وهناك من اختار الحزن في صمت على فريقه المفضل الذي أضحت علاقته به بعد الأغنية الأخيرة مهزوزة ومرتبكة. كتب هاني الدقاق "مغني الفريق" منشورا على حسابه الشخصي على فيسبوك يوجه فيه رسالة إلى ابنته شريفة، كأنها رسالة غير مباشرة يوجهها لنا قبل ابنته، يجتمع في فحوى الرسالة مفردة الأمان والخوف في جملة واحدة، ويخبر بطريقته أن الاعتذار عما فعل (الأغنية) يجب أن يأتي بشكل غير مباشر لأن مساحة الخوف ما زالت موجودة كأنها جزء من الطريق الذي فُرض عليه أن يسلكه، وعلى "نشيد الثورة" الذي غناه يوما ما أن يصمت للأبد.

  

تفرعت السبل تحت أقدامنا واختلفت الاتجاهات وأصبحنا أمام مسارات إجبارية حقا دون تهكم على فعل الإجبار. كيف سيواجه "مسار إجباري" جمهوره في الحفلات القادمة؟ هل ستشفع أغنيات الحب والأمل لكل هذا الغضب والحزن في عيون محبيهم؟ أم أن آفتنا ما زالت محكومة بالنسيان الذي سيبتلع ما حدث ويحوّله إلى رماد كأن شيئا لم يكن، حينها ستهرب الأغنية من أوتار الجيتار وصوت هاني الدقاق كأنها نشاز لحن أرغم العصفور على شدوه فبكى.

المصدر : الجزيرة