شعار قسم ميدان

بيكاسو وغودوارد: لماذا انتحر التقليدي أمام الخيالي!

picasso
سُئل الفيلسوف اليوناني أرسطو ذات مرّة عما يطمح إليه الفن؛ فقال: "الهدف مِن الفنّ هو إظهار، ليس المظهر الخارجي للأشياء، بل مكنوناتها الداخليّة" . فالفن لا يُجبر الناس على التمسك بنمط معين من الجماليات مؤكدا لهم أن هذا هو النمط المثالي؛ لأنه بذلك يصبح أداة طمس وليس أداة كشف وفهم للذات وللكون.
 

والأهم من أن الفن يجب أن يكشف لا يطمس، أن عليه أيضًا أن يكشف الأمر المناسب في الوقت المناسب، مثل اكتشاف الطبيب للمرض ووصف الدواء، وليس بعد خراب مالطا. وعلى الفنان -أكثر مِن غيره- أن يكون ذا حساسية شديدة بمواضع الحقيقة والوهم، القبح والجمال، العدل والظلم ويُظهِرها للعالم. عليه أيضًا أن يفتح المجال لعوالم لم يطأها خيالنا من قبل.

بين لوحتين ومدرستين
من اليمين: لوحة
من اليمين: لوحة "الغياب يزيد القلب لوعة" للرسام الانجليزي جون وليام غودوارد (1922 – 1861).. وعلى اليسار لوحة "فتاة من الماندولين" للرسام الأسباني بابلو بيكاسو (1973 – 1881).

مِن اليمين: لوحة "الغياب يُزيد القلب لوعة" 1912، للرسّام الإنجليزي النيو كلاسيكي جون ويليام غودوارد (1861 – 1922). على اليسار: لوحة "فتاة مع الماندولين" 1910، للرسّام الأسباني التكعيبي بابلو بيكاسو )1881 – 1973). اللوحتان لامرأتين، وعلى اختلاف موضوع كل منهما؛ فإن الفرق بينهما كان هائلا وصادمًا لدرجة أن غودوارد لم يحتمل توهج نجم بيكاسو المُتزايد فانتحر في 13 ديسمبر 1922؛ تاركا رسالة مفادها: "هذا العالم لا يتسع لي ولبيكاسو."
 

في اللوحة الأولى، مثلها مثل مُجمل لوحات غودوارد ،امرأة جميلة في ثياب مخمليّة تقف أو تجلس على مصطبة مرسومة على نمط العمارة الرومانية القديمة. وعلى تعدد عناوين اللوحات، وتغير وضعيات النساء واختلاف الألوان المستخدمة؛ لا تُناقش لوحات غودوارد أي مواضيع مهمة. حتى يمكن تطبيق قراءة لوحة واحدة على مجمل اللوحات. دائما، تقف / تجلس امرأة في لباس روماني / أحيانا عارية؛ جسد أبيض أوربي ممشوق، وملامح وجه جميل وفقا لمعاير الرجل الأبيض، فقط هذا كل شيء.
 

تتبع اللوحة المدرسة الكلاسيكية الحديثة، مثل بقية لوحات غودوارد، وهي مدرسة ظهرت في القرن  الـ 18 بالتزامن مع عصر التنوير والثورة الصناعية اللذين قللا من قيمة الروح والخيال، مما دفع العديد من الفنانين لإحياء روح الفن الكلاسيكي كنوستالوجيا وتراث من الماضي. جاءت الحركة أيضًا كرد فعل على فن الباروك الدرامي وزخم التفاصيل، فذهبت المدرسة للمباديء اليونانية والرومانية خاصة في النحت والعمارة.
 

في اللوحة الثانية، فتاة تعزف على آلة المندولين، وعلى عكس غودوارد، لم يتم تصويرها بشكل طبيعي، لا أثر لمعايير الجمال بمفهومه البرجوازي في لوحات بيكاسو ككل. نحن نعرف أنها فتاة فقط من خطوط قليلة ومن اسم اللوحة، هي فقط إنسان. تنتمي اللوحة للمراحل الأولى من التكعيبية؛ فتاة مرسومة بخطوط مكسورة وزوايا حادة باللونين البني والبيج ودرجاتهم، مع لمسات قليلة للأزرق والرمادي. ورغم كل التعاريج؛ تُظهِر اللوحة تناغم وليونة ولا تخلو من حس واقعي أيضًا! فهي في النهاية بورتريه لفتاة مع آلة موسيقية.
 

الفن ليس منوطًا به تجميل وجه العالم، بل كشف حقائقه وتعرية كذبه والعطب الذي أصابه. وهنا بالذات يكمُن تفرُّد التكعيبية.

والأسئلة اللاتي تطرح الآن: هل كانت التكعيبية على درجة من العبقرية والثقل فعلا لدرجة أن ينتحر غودوارد أمامها! هل كانت الكلاسيكية الجديدة على قدر من الهشاشة فسقطت أمام التكعيبية؟ لماذا ظل نجم بيكاسو متوهجًا حتى بعد مرور قرن على ظهور التكعيبية؟ ولماذا آثر غادوارد الرحيل في معمعة القرن العشرين؟
 

يتصدَّر الرسّام الأسباني بابلو بيكاسو -منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم- مشهد الفن الحديث كواحدٍ مِن أهم الرسَّامين في التاريخ. ومرد هذه المكانة البارزة أنّه -بالتعاون مع الرسّام الفرنسيّ جورج براك (1882- 1963)- أسَّسا في فرنسا، في الفترة من 1907 وإلى 1914 أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ أبرز مدارس الفن الحديث عمقاً وثقلاً وهي التكعيبية (Cubism).
 

صاغ مصطلح التكعيبية الناقد الفنيّ الفرنسي لويس فوكسيلس بعد رؤيته للوحة بيكاسو "آنسات أفينيون" والتي رُسِمَت بأسلوب هندسي بعيد تماما عن أي أنماط كلاسيكية معروفة. حيث تتخذ التكعيبية من الأشكال الهندسية؛ المكعب، المثلث، الدائرة، المخروط والأسطوانة؛ أساسا لبناء العمل الفني.
 

استلهم بيكاسو فكرة لوحة "آنسات أفينيون" وطريقة رسمها مِن الفنون والأقنعة الأفريقيّة عندما زار متحف الإثنولوجي(الأعراق) في باريس عام 1907. وبجانب الأقنعة الأفريقية، تستوحي التكعيبية ككل رؤيتَها من نظرية التبلور التعدينية التي تعتبر الهندسة أصولاً للأجسام، وأن الكون مكتوبٌ بلغة الرياضيّات.
 

"ما هو وجه الإنسان؟ ومن يرى هذا الوجه بشكل صحيح؟ المُصوّر الفوتوغرافي أم المرآة أم الرسّام؟ هل علينا أن نرسم ما يبدو على الوجه؟ أم ملامح الوجه؟ أم الكامن وراء الوجه؟"

– بابلو بيكاسو
 

الكلاسيكية في قفص التضليل
اعتبر بيكاسو والتكعيبيون جميعا أن النمط الكلاسيكي في الرسم يخلق واقعاً غير موجود  (مواقع التواصل الإجتماعي)
اعتبر بيكاسو والتكعيبيون جميعا أن النمط الكلاسيكي في الرسم يخلق واقعاً غير موجود  (مواقع التواصل الإجتماعي)

لقد كان القرن العشرين قرن اضطرابات وصخب فكري وسياسي يعود بجذوره للثورة الفرنسية وعصر التنوير. وإذا اعتبرنا  -كما هو الحال دائمًا- أن الفن هو المرآة التي يظهر فيها وجه العالم؛ فإن وجه العالم منذ مطلع القرن العشرين مرورا بالحربين العالميتين ظهر قبيحًا متعرجًا ومليئا بالكسور. هل جربت يوما أن تقف أم مرآه مكسورة؟ لابد أنك صادفت واحدة يومًا ما. كيف ترى نفسك أمامها؟ ببساطة: صورة تكعيبية. هذا ما حدث؛ فقد انكسرت المرآة. انكسر ضمير العالم حتى انتهينا لحربين عالميتين راح ضحيتهما ملايين الأبرياء.

 

لقد اعتبر بيكاسو والتكعيبيون جميعا أن النمط الكلاسيكي في الرسم يخلق واقعاً غير موجود، كذباً وضلالاً، كأنك تفتح للناس نافذة على عالم وهمي، ليس لأنه لم يعد موجودا فقط، بل لأنه أيضًا عالم عنصري، سلطوي واستبدادي. فعالم الكلاسيكية لا يُظهر إلا ما يريد له الرجل الأبيض أن يَظهر مفهومه للجمال، رؤيته للعالم، وفلسفته في الرسم.
 

لا تزال التكعيبية معاصرة بعد مرور قرن من الزمان عليها؛ لأنها انطوت على قدر من الصدق لم تسبقها إليه أي مدرسة أخرى.

لقد تخلى بيكاسو عن هذا العالم، تخلى عن فضاء الأجسام بشكلها ثلاثي الأبعاد وثقافة الرجل الأبيض. فقدم أجساما رباعية وخماسية الأبعاد وربما أكثر؛ زاوية للرؤية شديدة التفرُّد والعبقرية. لقد صرنا نرى المشهد من زوايا عدة مِن النظرة الواحدة. ويكأنه سحرٌ! صحيح أن المشاهد تخرج مكسورة ومليئة بالتعاريج؛ إلا أن المكسور حقيقة هو نحن.
 

هل لا يزال سؤال "لماذا آثر غادوارد الرحيل؟" مُبهمًا أو يحتاج لإجابة؟ هل كانت النيو كلاسيكية من الهشاشة لتموت أمام التكعيبية؟ نعم كانت، كانت تكذب على الناس. الفن ليس منوطًا به تجميل وجه العالم بل كشف حقائقه وتعرية كذبه والعطب الذي أصابه. وهنا بالذات يكمُن تفرُّد التكعيبية، فهي لا تنقل الجمال الغرائزي الجنساني (Sexiness)؛ بل تنقل التعاريج القبيحة والمبادئ المكسورة والانحناءات الحادة التي أحرقت العالم حرقا حرفيا لا مجازيا في حربين عالميتين بقنابل نووية.
 

فتاة الماندولين كموضوع لوحة ليس أكثر أو أقل عمقا من موضوع امرأة تنتظر حبيبها بلوعه، هذا ليس الفارق بين اللوحتين. فرسامو التكعيبية مثلهم مثل بقية الرسامين منذ عصر النهضة نقلوا مواضيع الحياة اليومية. لكنهم نقلوها بصدق وتفرّد، ومن زاوية لم يتوقعها أحد. وهذا هو السبب في أن التكعيبية لا تزال معاصرة بعد مرور قرن من الزمان عليها؛ لأنها انطوت على قدر من الصدق لم تسبقها إليه أي مدرسة أخرى، لقد وطأنا بخيالنا عوالم لم نتصور مِن قبل أنها حتى موجودة. لقد انتحر التقليدي أمام الخيالي لأن الخيالي كان أصدق.

المصدر : الجزيرة