شعار قسم ميدان

لماذا لا يمكن اعتبار "شخبطات" الأطفال فنا تجريديا؟

midan - sky
"بإمكان طفلي الصغير رسم لوحة كهذه" تعد هذه الفكرة إحدى أشهر الأفكار المرتبطة بالفن التجريدي لدى الكثيرين، في دلالة واضحة على أن الكثير من الناس لا يرون في اللوحات التجريدية سوى العبث والسذاجة، لكن هل هذا صحيح؟ هل يستطيع الأطفال رسم لوحة تجريدية حقا؟

إذا نظرنا إلى لوحة من لوحات كاندنسكي (1866- 1944)، وهو أحد أهم رواد الحركة التجريدية الحديثة، سنجد أن التكوين في اللوحة جيد، والتباين اللونى أيضا جيد، وعناصر اللوحة  الفنية جميعها مكتملة، لكن تظهر المشكلة عندما نجد أنفسنا غير قادرين على فهم هذا العمل الفني، ونجد صعوبة بعض الشيئ في قراءته بالطريقة المعتادة التي نشاهد بها الأعمال الفنية التمثيلية التي تصور أشياء واضحة ومعروفة.

وبالرغم من ذلك نحن لا يمكننا أن نطلق على هذا العمل الفني (شخبطة) لأنه يبدو مريحا للعين بشكل أو بآخر عندما نراه، وعناصره الفنية مكتملة، ولا نشعر أنه مجرد شخبطات غير متجانسة بمفهومها العامي، وهو الاعتراض الذي يوجهه الكثيرين للحداثة في الفن.

undefined

تقول دكتورة مها بنت عبدالله السنان أنه لكي نفهم العمل التجريدي علينا أن نفهم الفنان نفسه، تطوره ودراسته وخلفيته، والعناصر الذي استخدمها وكيف وصل إليها، وهي ترى أنه ليس من السهل أن نفهم عمل تجريدي بمعزل عن الفنان الذي رسمه وعن الفترة الزمنية التي ظهر فيها.

إذا طبقنا هذا الرأي على لوحات  كاندنسكي، سنجد أن له رؤية خاصة جدا عن العمل الفني، لقد قامت فلسفة كاندسكي على نظرة شوبنهاور في علم الجمال، والتي تجعل الموسيقى أعلى أنواع الفنون قيمة نظراً لأصالتها، فالمقطوعات الموسيقية مبتكرة ولا تحاكي شيئاً موجوداً في الواقع.

وعليه استوحى كاندنسكي عدداً كبيراً من أعماله من مقطوعات موسيقية شهيرة، فجعل كل لون يعبر عن نوتة موسيقية معينة، وكل توليفة من الخطوط والألوان معاً هي مقطوعة مستقلة ومشهورة، لقد كان كاندنسكي يشعر بأن للون الأصفر مثلا صوت يختلف عن اللون الأحمر وهكذا.

ولم يتعال كاندينسكي على جمهوره ويكتفي بالرسم فقط دون شرح خصوصا مع الغموض الذي يخيم على أعماله، بل أنتج كتابات فلسفية كثيرة في هذا الموضوع ساعدت جمهوره على فهم أعماله، بل وأرشدهم إلى المقطوعات التي كان يستوحي منها أعماله بأن جعل أسمائها عناوينا  لأعماله.

يقول كاندنسكي: "إن موسيقى فاغنر اجتاحتْني اجتياحًا عفويًّا، كان من العمق بحيث استطعت من خلالها أن أرى كلَّ الألوان المحبَّبة إلى قلبي بعيون روحي الهائمة في أرجاء المكان، وأن أبصر خطوطها المتوحشة التي أوصلتْني إلى حافة الجنون، من خلال حركتها وقدرتها على رسم عدد من اللوحات أمام ناظريَّ"؛ هل ترى الآن لوحة كاندنسكي بطريقة مختلفة؟

 فاسيلي كاندنسكي، المقطوعة الخامسة (1923)
فاسيلي كاندنسكي، المقطوعة الخامسة (1923)
هل يمكن التمييز بين لوحات الشمبانزي ولوحات الفنان التجريدي؟

حاول علماء علم الجمال العصبي الإجابة عن هذا السؤال وعن أسئلة أخرى مثل كيف يدرك العقل الفن، من خلال دراستهم للاستجابة التي يبديها المخ تجاه اللوحات المختلفة.

صممت (أنجلينا هاولي) الأستاذة بكلية بوسطن في ماساشوستس، تجربة تلاعبت فيها بتوقعات المتطوعين حول الأعمال الفنية التي عُرضت أمامهم، كانت المهمة التي سيقومون بها هي مشاهدة أزواجًا من اللوحات، إما أعمالًا لفنانين تجريديين مشاهير، أو رسومًا عبثية لهواة وأطفال وقردة شمبانزي وفيلة، وكان عليهم بعد ذلك تحديد أي اللوحات التي نالت إعجابهم وشعروا أنهم يفضلونها.

لم يحمل ثلث اللوحات في هذه التجربة تعليقًا، في حين حمل العدد الباقي بطاقات تعريف؛ وتكمن الحيلة في خلط بطاقات التعريف في بعض الأحيان، لكي يعتقد المتطوعون أنهم يشاهدون شخبطات فوضوية للشمبانزي، في حين أنهم يشاهدون في الواقع لوحة تجريدية تعبيرية للفنان مارك روثكو (1903-1970).

وقد يذهب بعض المتشككين في أنه من المستحيل تحديد الإختلاف، لكن جميع المجموعات التي أجريت عليها التجارب أظهرت تفضيل المتطوعين بوجه عام عمل الفنانين البشر المشاهير، حتى عندما كانوا يعتقدون أن من رسمها طفل أو شمبانزي؛ بطريقة ما، يبدو أن المشاهد يمكنه إدراك رؤية الفنان في هذه اللوحات، حتى إن لم يستطع تفسير السبب وراء ذلك.

تقول الكاتبة (كات أوستن) أنها بعد أن  سمعت بهذه التجربة، أرادت أن تختبرها، فتجولت في أحد المعارض الفنية بمتحف جرانت في لندن حيث تُعرَض أعمال الفيلة وقردة الشمبانزي بجوار أعمال الفنانة التجريدية كاثرين سيمسون التي تذكرنا أعمالها المبنية على المكعبات بأعمال روثكو، وتحدت نفسها في تخمين أي الأعمال احترافية وأيها شخبطات شمبانزي؛ وتجولت في المعرض تشاهد اللوحات قبل قراءة التعليقات، ونجحت في التخمين الصحيح في كل مرة.

 بعض لوحات مارك روثكو (1903-1970)
بعض لوحات مارك روثكو (1903-1970)
(غيرتني للأبد).. تجربتان مع لوحات جاكسون بولوك

في تدوينة عن كيفية فهم الفن التجريدي تحكي (هارلي هان) تجربتها مع لوحة ضباب الخزامى رقم 1 (1950) للفنان التجريدي التعبيري جاكسون بولوك، تقول أنها قررت الذهاب إلى واشنطن في منتصف الشتاء بينما كانت هناك عاصفة تضرب المدينة، وكانت وحدها، فقررت الذهاب إلى الجاليري الوطني للفن، وكانت الشوارع في ذلك الوقت موحشة وخالية، وكان المتحف خاو هو الآخر.

سألت هارلي موظفة الاستعلامات إن كان لديهم أي شيء لجاكسون بولوك، فأرشدتها الموظفة للقاعة المخصص للوحاته،وكانت هي قد سمعت عن بولوك وشاهدت لوحات فوتوغرافية لأعماله لكنها لم تكن رأت من قبل عملا له رأي العين.

تقول هارلي: "لا أزال أتذكر إحساسى وأنا أنزل الدرج، وأستدير وأنظر إلى الجدار، كنت وحدى تماما فى قاعة ضخمة، وكانت هناك، على جدار بعيد، لوحة "ضباب الخزامى"، كان تأثيرها على غير متوقع نهائيا، كانت تلك هى المرة الوحيدة فى حياتى التى تحبس لوحة فيها أنفاسى حرفيا، أعرف أن كلامى هذا يبدو رخوا، ولكن رؤيتى هذه اللوحة غيرتنى إلى الأبد، إنها جليلة بحق حين تراها مباشرة، لا سيما فى قاعة ضخمة، حيث تبدو اللوحة وكأنها تهيمن عليك، وتشدك، وتأخذك إليها".

 جاكسون بولوك، ضباب الخزامى رقم 1 (1950)
جاكسون بولوك، ضباب الخزامى رقم 1 (1950)

أما (كات أوستن) فتقول في مقال لها عن دور العقل في التذوق الفني: " في أحد الأيام وأثناء وقوفي أمام لوحة جاكسون بولوك الصيف: رقم ٩أ (1948)، انتابني شعور غريب، فما كنت أعتبره من قبل مجموعة قبيحة من بقع الألوان العشوائية بدا لي الآن احتفاءً مبهجًا بالحركة والحيوية؛ يذكرني اللونان الأزرق والأصفر الزاهيان بضحكة خالية من الهموم، كانت تلك لحظة فاصلة في حياتي؛ فلأول مرة يثير مشاعري عمل فني تجريدي".

وتكمل أوستن أنها مثل الكثير من الناس اعتادت نبذ هذه الأعمال، واعتبرتها مضيعة للوقت والجهد، وكانت دائما تتساءل، كيف يمكن لأحد أن يجد معنى في مثل هذه المجموعات الساذجة من الألوان المنثورة عشوائيا على لوحة زيتية عرضها خمسة أمتار ونصف، لكنها وجدت نفسها في معرض "تيت مودرن" بلندن وقد أثارت إحدى لوحات بولوك مشاعرها.

جاكسون بولوك، الصيف: رقم ٩أ (1948)
جاكسون بولوك، الصيف: رقم ٩أ (1948)

يعتبر جاكسون بولوك (1912- 1956) أحد أهم رواد التجريدية التعبيرية، وهو رائد ما عرف بـ"الرسم الحركى action painting" حيث كان بولوك يقوم بإلقاء الألوان على مساحة القماش الكبيرة الملقاة على الأرض، يتميز هذا النوع من الممارسة بالسيولة والعفوية، حيث يتجنب الفنان التخطيط المسبق، فيركز بأسلوبه هذا على تصوير العواطف، بدلاً من الكائنات، ويفضل معظم الفنانين في مذهب التعبيرية التجريدية الرسم على مساحات كبيرة، وبألوان مثيرة وفضفاضة، مع العناية الفائقة بقيم السطح والملمس.

وقد ظهرت التعبيرية التجريدية فى نيويورك فى مطلع أربعينيات القرن الـ20، ولم تكن مدرسة فنية محددة بقدر ما كانت طريقة تفكير انطلقت من عبارة بارنيت نيومان (1905-1970) أحد روادها عندما قال: "لقد شعرنا بالأزمة الأخلاقية والفوضى العارمة التي تجتاح العالم، ذلك العالم الذي دمرته الحرب العالمية الشرسة والكساد الكبير، لقد كان مستحيلا في ذلك الوقت أن نستمر في رسم الزهور أو الحسناوات اللواتي يتكئن عاريات أو لاعبو التشيلو".

قام التعبيريون التجريديون بالانفصال الأخير عن قواعد الرسم الصارمة، بأن أعادوا تعريف معنى الفنان، فكان جوهر ما قاموا به هو التمرد على عالم الفن المحكوم بالمقبول والمتفق عليه.

وبرغم أن فكرة التجريد كانت حاضرة قبلهم، إلا أن التعبيريين التجريديين مضوا إلى ما هو أبعد بكثير، فقد شرعوا في التأكيد، لا على المنتج النهائى وحده، بل وعلى عملية الرسم ذاتها، فشملت تجاربهم طريقة التفاعل مع الطلاء والقماش والأدوات، وأولوا اهتمامهم للسمات المادية للطلاء نفسه، أى نسيجه ولونه وشكله.

فلوحات مثل لوحات بولوك تولد مباشرة، حيث يشعر الفنان برغبة في التعبير عن مشاعره أكثر من رغبته أن يرسم هذه المشاعر، وعندما يبدأ في الرسم تتكون لديه انطباعات عما يمكن أن يفعل، وهكذا يستطيع أن يسيطر على تدفق اللوحة، فليس هناك مصادفات، وإنما يبدو الأمر كما لو أنه ليس هناك بداية أو نهاية.

جاكسون بولوك أثناء الرسم بأسلوبه المميز
جاكسون بولوك أثناء الرسم بأسلوبه المميز "الرسم الحركى action painting"
كيف تستمتع بالفن التجريدي؟

إن وظيفة الفن هي مساعدتنا في إيجاد طريقة للتواصل مع ذواتنا الداخلية، ومشاعرنا غير الواعية، واكتشاف المساحات المجهولة منا، والتي تعمل الحياة اليومية الرتيبة على قتلها ببطء، والفن العظيم يتيح لنا سبيلا إلى التماس مع الجانب غير الواعى من وجودنا حتى لو لم ندرك ذلك تماما، وهكذا، فإن دور الفنان هو أن يبدع شيئا قادرا عندما يراه المشاهد أن يثير فيه تلك العواطف والمشاعر المخبوءة تحت طبقات كثيفة من التصورات المسبقة.

تقول "هارلي هان" أن السبب الذى يجعل الفن التجريدى على هذا القدر من القوة هو أنه يقلل تشتت الوعى إلى أدنى درجة ممكنة، فأنت حينما تنظر على سبيل المثال إلى الفاكهة والأشجار عند سيزان، فإن غالبية مجهودك الذهني يكون في إدراك ومعالجة الصور التمثيلية، بينما عندما تنظر إلى لوحة لجاكسون بولوك مثلا، فلن تشتتك عنها صور لها معنى محدد، فيكون تركيزك بالكامل على الشعور، يمكنك أن تفتح نفسك على اللوحة، وتستقبلها داخلك، وتسمح لها بأن ترقص مع روحك.

سيطلب الأمر بذل بعض الجهد، فوظيفة الفنان أن يبدع لوحة فيها من البراعة ما يجعلك تحس حينما تنظر إليها تغيرات فعلية فيما تشعر به وأن تختبر وعيا مختلفا بذاتك؛ ووظيفتك أنت أن تجهز عقلك خاليا من الأفكار والتصورات المسبقة لكي تتمكن روحك من التأثر بما تراه، ومعنى هذا أنه لو أنك تسعى حقا إلى تذوق عمل فنى تجريدي، عليك أن تسلم نفسك، وتضعها بين يدى الفنان، وتتركه يصطحبك إلى حيثما يريد.

وترى هارلي هان أن فى أغلب الأوقات تفشل هذه التجربة، أحيانا لأن الفنان لا يكون ماهرا بحق، لكن في الأغلب لأن الناظر إلى اللوحة لا يعرف كيف يتذوقها.

المصدر : الجزيرة