شعار قسم ميدان

الشتاء في لوحة

ميدان - شتاء
يشعر الكثير من الناس عند اقتراب الشتاء بالسعادة والصفاء، ربما يحبون الشتاء لأنه يشعرهم بالأمان.(بيكسا باي)
يحيط فصل الشتاء الكثير من الدراما والغموض، وينسج عنه الكثير من الأساطير التي تدعي أن الشتاء يأتي لمعاقبة البشر؛ حيث تعبّر الأمطار والعواصف عن غضب السماء العنيف، وفي الأساطير الأوربية يقال إن هناك ثلاث سنوات من التجمد ستسبق نهاية العالم، ويرتبط هذا الفصل لدى الكثيرين بمشاعر الحزن والأسى والكآبة.

في المقابل؛ يشعر الكثير من الناس عند اقتراب الشتاء بالسعادة والصفاء، ربما يحبون الشتاء لأنه يشعرهم بالأمان، البرد القارس في الخارج يجعلنا نغلق جميع النوافذ والأبواب، ونشعل المدفأة مع الإضاءة الخافتة التي تستمر طوال ليالي الشتاء الطويلة، هذه الأجواء الدافئة والحميمية تجعلنا نشعر بالطمأنينة والأمان.

ربما أجواء الشتاء الممطرة تساعد في خلق أجواء عائلية حميمية، فالضغوط التى تفرضها الحياة الحديثة على الإنسان تجعله يعيش خارج المنزل أكثر من داخله؛ فيمنحنا الشتاء فرصة لالتقاط الأنفاس، والحصول على وقت أكبر بصحبة العائلة والأحباب؛ لذا قد يكون الشتاء فصلا خادعا فى مظهره؛ فعلى عكس الأجواء الباردة في الخارج يكون البيت في الداخل دافئا وحنونا.

يقول الكاتب جاستون باشلار: "الشتاء أقدم الفصول؛ فهو لايضفي قدماً على ذكرياتنا فحسب؛ آخذاً إيانا إلى الماضي البعيد؛ بل إن البيت نفسه يصبح في الأيام الثلجية قديماً كأنه عاش عبر القرون الماضية"، ويقول الشاعر علي حسن الفواز: "أشعر أنّ شتائي هو زمني الشخصي، أمارس فيه طقوس التأمل والإنصات إلى صوت النار، والخروج إلى أقصى الأشياء؛ حيث الليالي الطوال المغسولة بالأمطار البليلة، واليقظة عند ذاكرة لزجة تمور بإحساسات الوحدة وملامسة خبايا النفس".

إن الحالمين يحبون الشتاء رغم ما يظهره من قسوة؛ لأنّه بهذا تصبح أعشاشهم أكثر دفئا ونعومة، ربما لهذا السبب استمرت حكايات الجدات حول المواقد على مر العصور رمزا للمحبة الخالصة والدفء، ولذلك أيضا التقطت ريشة الرسامين الكثير من مشاهد الشتاء المفعمة بالدراما، الأمطار والثلوج والعواصف، والمنازل المغلقة بحرص؛ التي ينبعث من نوافذها ضوء خافت ودافئ، والأحبة الذين يسيرون في الشوارع تحت المطر الذي يؤكد ببرودته دفء محبتهم ويشعلها.

بيتر بريغل الأب "صيّادون على الثلج" (1565م)

ظهر فن مناظر الشتاء في القرن السادس عشر في شمال أوروبا في فترة عرفت بشدة البرودة، وأُطلق عليها العصر الجليدي الصغير، ومع العصر الرومانسي والانطباعية عادت مرة أخرى مناظر الطبيعة في فصل الشتاء، وتعد أشهر لوحات الشتاء هي لوحة بيتر بريغل الأب "صيّادون على الثلج" (1565م) لكن هناك الكثير من اللوحات الأخرى التي لا تقل عنها جمالا وأهمية لمانيه وتيرنر وكاسبر دافييد فريدرش ومونش وفان جوخ وكلود مونيه وغوغان وغيرهم.

بيتر بريغل الأب
بيتر بريغل الأب "صيّادون على الثلج" (1565م) (مواقع التواصل الاجتماعي)
كاسبر ديفيد فريديش، طبيعة شتوية (1811)

كاسبر ديفيد فريدريش ( 1774 – 1840)، رسام ألماني ينتمي للرومانسية، وهو أحد أهم فناني هذه الفترة، يعرف عنه أنه طوال حياته كان شخصا ورعا يميل إلى التأمل، توفت أمه وهو ابن سبع سنوات، وتوفي شقيقه بعدها أثناء محاولته إنقاذ كاسبر من الغرق، ترك هذا الحادث أثرا غائرا على شخصية هذا الفنان وفنه؛ ربما لذلك كان له مزاج سوداوي تشاؤمي، وظلت هواجس الموت والطبيعة والخالق تلاحقه. في الطبيعة الجميلة وجد كاسبر بعض سلواه، فسافر كثيرا إلى مناطق مختلفة، وساعدته أسفاره وألهمته في التقاط العديد من المناظر والموضوعات للرسم. لقد كان كاسبر يمتلك قدرة مبهرة على ملاحظة الطبيعة والتعبير عنها بروح مؤمن تقي.

وفي أواخر القرن الثامن عشر، كثفت الحركة الرومانسية اهتمامها برسم المناظر الطبيعية ومنها موضوعات الشتاء، وكان من ضمنهم كاسبر دافييد فريدرش.

رسم فريدش مناظر الشتاء بجلال مهيب، وعلى الرغم أنه يرسم الطبيعة من خلال الملاحظة؛ إلا أنه لم يرسم ما يراه فقط؛ إنما يضفي على اللوحة تأثيرا دراميا يحمل قوة عاطفته ومشاعره؛ فيجعل من الطبيعة مرآة للمشاعر الإنسانية، وفي لوحته هذه (الثلج والضباب والضوء الخافت) ينقل لنا مشاعر الشتاء والخوف والبرودة القاسية؛ لكن بالرغم من هذا يوجد في الأفق البعيد مكان ما قد يكون أكثرا دفئا.

كاسبر ديفيد فريديش، طبيعة شتوية (1811م) (مواقع التواصل الاجتماعي) 
كاسبر ديفيد فريديش، طبيعة شتوية (1811م) (مواقع التواصل الاجتماعي)
إدوارد مانيه، تأثير الثلج في بيتي مونتروج (1870)

يتمتع إدوارد مانيه (1832- 1883) بحساسية فائقة تجاه الاستخدامات اللونية. كان أعظم مصوري أواخر القرن التاسع عشر ممن ارتبطوا بتقاليد المذهب الواقعي في فرنسا، لقد كان يعالج موضوعاته بطابع يخطو خطوة تجاه التجريد، تصور هذه اللوحة المدينة بعد تساقط الثلوج، ومن المعروف أنه بعد تساقط الثلوج تفقد المدينة -إلى حد ما- ملامحها ولا تعود مثالية، اللون البني، والألوان القاتمة تعطي إحساسا بالكآبة، لقد صور مانيه هذه المدينة الفرنسية وهي غارقة في كآبتها، ورغم أن معظم اللوحات التي تصور الثلج تحاول أن تعكس به النقاء والصفاء؛ لكن مانيه هنا أراد من خلال هذه اللوحة القاتمة أن يرسم مشكلة الظروف الجوية شديدة السوء التي كانت المدينة تعاني منها.

 إدوارد مانيه، تأثير الثلج في بيتي مونتروج (1870م) (مواقع التواصل الإجتماعي)
إدوارد مانيه، تأثير الثلج في بيتي مونتروج (1870م) (مواقع التواصل الإجتماعي)
كلود مونيه، شارع سانت دينيس (1875)

يعتبر الفرنسي  كلود مونيه (1840- 1926) أحد أهم زعماء المذهب الانطباعي. عندما أرهقت الحرب فرنسا كان مونيه يحاول أن يرسم الجانب الآخر، البهجة والجمال اللذين دمرتهما الحرب في هذه اللوحة؛ رغم الشتاء والثلوج التي تملأ المدينة، إلا أن الشمس ساطعة والنهار مشرق.

كلود مونيه، شارع سانت دينيس (1875) (مواقع التواصل الجتماعي)
كلود مونيه، شارع سانت دينيس (1875) (مواقع التواصل الجتماعي)
كلود مونيه، طائر العقعق (1869)

من بين كل فصول السنة، أحب مونيه فصل الشتاء كثيرا، وعلى عكس كثير من الفنانين التقلديين الذين كانوا يصورون مناظر الثلوج مستخدمين اللون الأبيض الخالص؛ يتخلله الرمادي تعبيرا عن الظلال؛ كان مونيه يصور الثلوج مستخدما ألوان المجوهرات الناصعة التي تتراءى له في أيام الشتاء.

يرسم مونيه مناظره في الهواء الطلق، واعتبرت هذه اللوحة شيئا استثنائيا في ذلك الوقت؛ لدرجة أن صحفيا -آنذاك- كتب بإعجاب مقالا يمتدح فيه مونيه يقول: "كان الجوّ باردا جدّا لدرجة أنه حتى بعض الحجارة كانت تنشطر إلى جزأين من التجمد، رأينا آثار أقدام ثمّ حامل لوحة ثمّ رجلا يرتدي ثلاثة معاطف وعلى يديه قفّازان ووجهه شبه متجمّد، هذا الشخص هو السيّد مونيه الذي كان منهمكا في دراسة ورسم آثار الثلج".

استخدم مونيه في هذه اللوحة القليل من الألوان؛ كي يحافظ على المزاج الحالم والحميمي لهذا المنظر الشتوي، ورغم الثلوج فمازالت الشمس تلقي بظلها على الأرض المغطاة بالثلج، ولقد رفضت هذه اللوحة بسبب جرأة ألوانها من صالون التحكيم، واليوم نحتفل بها كأحد أجمل الأعمال الفنية.

كلود مونيه، طائر العقعق (1869) (مواقع التواصل الإجتماعي)
كلود مونيه، طائر العقعق (1869) (مواقع التواصل الإجتماعي)
قسطنطين كوروفين، ليلة شتوية مقمرة (1913)

في روسيا التي يرتبط اسمها بالشتاء وجليد سيبريا رسم الفنان الروسي قسطنطين كوروفين (1861-1939) هذه اللوحة الفاتنة، اللون الأرجواني الذي يملأ اللوحة يجعلها مغرقة في الشاعرية والخيال، إنها ليلة شتوية؛ ولكن القمر ينير السماء، وينعكس ضوءه الأصفر الدافئ على الثلوج؛ فنشعر بالدفء، المنزل مغلق بإحكام؛ لكن ضوء المدفأة المشتعلة في الداخل يجعلنا نشعر بالحياة، نتخيل بعض الناس الآن في الداخل يجلسون ملتفين حول المدفأة؛ يتبادلون أطراف الحديث في أمسية هادئة وآمنة.

قسطنطين كوروفين، ليلة شتوية مقمرة (1913) (مواقع التواصل الإجتماعي)
قسطنطين كوروفين، ليلة شتوية مقمرة (1913) (مواقع التواصل الإجتماعي)

إدفارد مونش، ثلج جديد في الطريق (1906)

رسم النرويجي إدفارد مونش (1863-1944) العديد من اللوحات التي تعبر عن الشتاء، لقد سحرته سماء الشتاء الصافية. بلغ مونش في هذه اللوحة مرحلة متقدمة من الرمزية، لقد كانت معظم حياة مونش مضطربة، لقد عانى في علاقته بالحب؛ لكنه هنا -وبرغم قسوة الشتاء- تبدو هناك رفقة أو حب يكسر هذه القسوة والحزن؛ ويجعل الحياة محتملة رغم البرد القارس.

إدفارد مونش، ثلج جديد في الطريق (1906)(مواقع التواصل الإجتماعي)
إدفارد مونش، ثلج جديد في الطريق (1906)(مواقع التواصل الإجتماعي)


يقول أورهان باموق في كتابه "اسطنبول – الذكريات والمدينة": "أحب أمسيات نهاية الخريف وبداية الشتاء، حين تهز الرياح الشمالية الأشجار الجرداء، ويندفع الناس في السترات والمعاطف السوداء إلى بيوتهم عبر الشوارع المظلمة، أحب السوداوية الغامرة حين أنظر إلى جدران البنايات القديمة والأسطح المظلمة للقصور الخشبية المهملة غير المطلية والمهدمة؛ ينتابني -حين أشاهد حشود الأبيض والأسود تندفع عبر الشوارع المظلمة في أمسية شتوية- شعور عميق بالألفة؛ كأن الليل حجب كل حياتنا الفقيرة وشوارعنا، وكل ما يلتف في عباءة الظلام، كأننا بمجرد أن نكون آمنين في منازلنا، وغرف نومنا وأسرّتِنا؛ نستطيع العودة إلى أحلام الثراء الذي تبدد منذ زمن بعيد، وإلى ماضينا الأسطوري، وحين أشاهد الظلام أيضا ينسدل كقصيدة في الضوء الخافت المنبعث من مصابيح الشوارع؛ ليغمر تلك الأحياء القديمة، أطمئن لمعرفتي أننا سنكون في أمان على الأقل في تلك الليلة"؛ ربما لمثل هذه الأسباب يحب البعض فصل الشتاء.

المصدر : الجزيرة