شعار قسم ميدان

ما هو الفن المفاهيمي؟

ميدان - فن

"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة." تلك هي إحدى أشهر عبارات علم التصوف الإسلامي: النفري. عبارةٌ على قصرها تختزن كمًا هائلا مِن الدلالات، وبقوة صيغتها البلاغيّة الجزلة لخصت مُعاناة العارف المُدرك، ألم المعرفة الذي يستعصي على الصياغة فتضيق به الكلمات.

سعة الرؤية وضيق العبارة هذان المعنيان بعينهما كانا جوهر مذهب فني بالكامل. سعة الرؤية وما عاينته البصيرة وعجزت الكلمات وضيقها عن التعبير عن ذاك الاتساع. هذا المذهب هو الفن المفاهيمي (Conceptual Art). يعتمد الفن المفاهيمي في جوهره على الفكرة / المفهوم كعنصر أساسي يقوم عليه العمل الفني ويكون لها الأسبقية في التمثيل على أي عناصر جمالية أخرى للعمل. فالأولى بالطرح والمناقشة هي الفكرة.[1] الفكرة هنا هي موضوع العمل الفني، على عكس كافة مدارس الفن التشكيلي، المفاهيمية لا تهتم بتمثيل بشر أو مشاهد طبيعية أو لحظات الحياة اليومية أو ما إلى ذلك مِن المواضيع. الفكرة هي الهدف وهي الموضوع، لذلك، فإن المفاهيمية تستعين في معظم الأعمال باللغة لاستعراض الفكرة المُستهدفة بشكل أوضح.[2]

ولذلك أيضًا، فإن المفاهيمية قد تخلت طوعًا عن المحتوى الجمالي والتمثيل الصريح والدقيق للعناصر مِن أجل تقديم منتج فكري. وعليه، يُمكن القول إن المفاهيمية هي الحقل الفني الذي ربط الفن بالفلسفة، من حيث أنها تتناول في المقام الأول الحياة والإنسان وقضاياه الوجودية مِن منظور فكري فلسفي.[3]

   

اتسمت المفاهيمية أيضًا باستخدام أقل عدد ممكن من العناصر لتوصيل الفكرة، فاعتمدوا التبسيط أو التصغير، فظهر توجه جديد داخل المفاهيمية نفسها عُرف بـ "التصغيرية (Minimalism)" وهو التعبير عن الفكرة باستخدام أقل عدد ممكن من الكلمات والأدوات في العمل الفني.[4]

  

ويعزي العديد مِن النُقّاد ظهور الفن المفاهيميّ إلى رائدي الحركة السرياليّة في القرن العشرين، الفرنسي مارسيل دوشامب (1887 – 1968) والبلجيكي رينيه ماجريت (1898 – 1967). بل ويُعزى للحركة السرياليّة ككُلّ أنّها كانت تحمل بذور الفنّ المفاهيمي.
       

    
ذلك لأن السرياليّة كانت في ذاتها مضادة لمبدأ "التشكيل السليم" للعمل الفني، لا تهتم بأي صورة طبيعيّة سليمة للأشخاص والمكان ومحتوياته بل وحتى الطرح والمعنى الذي تقدمه اللوحة أو العمل الفني، فقدمت أعمال لا تعترف بالأشكال المُتعارف عليها وفضلت عوضًا عن ذلك النزوع نحو المعاني المُطلقة بحسّ صوفي في تناول الإنسان والعالم وما وراءه.[5]

   
بخروج تلك الأعمال التي لا تهتم بالتمثيل المألوف للعناصر مِن دائرة السريالية وإضافة نصوص مكتوبة في العمل صارت المفاهيمية فن مُستقل بذاته وإن كانت لها جذور تعود للسرياليّة. كما صار عمل الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب، النافورة، أول ما مهد لاستقلال هذا الفن عن قطار السريالية.[6]

     
في "النافورة"، 1917، قدم دوشامب ما يُعرف اليوم بأحد أوائل الأعمال المفاهيميّة، نافورة لكن ليست كأي نافورة. هي في الحقيقة مبولة وليست نافورة لكن دوشامب أطلق عليها نافورة. النافورة/المبولة كانت استفزازًا واضحا للنُخب الفنيّة في أوربا في فترة ما بين الحربين، رغبة عارمة من دوشامب في تدمير فكرة الجمال ذاته.[7]

  
وإذا أردنا أن نفهم طبيعة "المبولة" علينا أن نعي بعض الحقائق عمّا وصلت له البشرية، في تلك الفترة، بعد الحرب العالمية الأولى. لقد لقي أكثر من 17 مليون شخص حتفهم في الحرب العالمية الأولى، وأصيب أكثر من 20 مليونا آخرين.[8] وفي خضم بحر الدماء ذاك اجتمع عدد من الفنانين في زيورخ وقرروا رفض كل ما جاءت به المدارس الفنية والحضارات الإنسانية جمعاء. وأطلقوا على هذه الحركة "فن اللافن / الدادئية" رفضًا مِنهم لحالة الضمور الأخلاقي التي وصل لها العالم.

   

وبذلك، ظهرت "الدادئية" -بُعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى بشهور مُعبّرة عن حجم القُبح والجنون الذي وصل له العالم. وتعتبر المبولة إحدى أشهر الأعمال الدادئية والتي في الوقت ذاته أصبحت مفاهيمية لأنّها كانت تُناقش فكرة "ما الفنّ".

       
undefined
   

"كل ما نراه، يخفي شيئًا ما لا نراه، ونحن نتوق دائمًا إلى فهم المخفي وراء ما نراه"

(رينيه ماجريت)

    
عملٌ آخر خرج من قطار السريالية ليؤسس الفن المفاهيمي هو "غشّ الصورة / هذا ليس غليونًا"، 1929، لرينيه ماجريت. الرسام الذي خالف كل معايير الجمال الرأسمالي البرجوازي. وانتهج حالة من التفرّد، كفنان سريالي ومفاهيميّ وتصْغيريّ؛ والأهم بوصفِه الرسّام الذي استطاع تحويل حقل فلسفي كامل إلى لوحات مرسومة.

في "هذا ليس غليونًا"، يستعرض ماجريت جوهر الفن المفاهيمي واضحًا؛ ألا وهو فن تقديم الأفكار وطرحها، التمثيل اللغوي الذي قد يُزيف أو يصدق الحقيقة المُعبر عنها من خلال تلك العلاقات بين العلامات النصيّة والصور البصرية. التفرُّد في تصوير الأشياء العادية في إطار غير عادي؛ كاشفًا عن أوجه الخلل التي تعتري الأمور التي قد تبدو عادية وطبيعيّة.

   undefined

  

"هذا ليس غليونًا، بل لو أنّني قلتُ إنه غليون سأكون كذّابًا." هكذا، يصِف ماغريت، الذي عرّف نفسه على أنه مفكر، لوحته. ما هذا إذن؟ "صورة" غليون! هذه الصورة لا تصلح للتدخين، هذا مجرد رمز لغليون، والرمز لا يساوي أبدًا الشيء ذاته.[9]

   
بعد خروجه من عباءة السرياليين، يظهر الفنّ المفاهيمي مُستقلا تماما بنفسه، من حيث المذهب والأفكار والتوجهات، في أعمال الفنان المفاهيمي الأمريكي (Lawrence Weiner) لورنس وين، 10 فبراير 1942، والذي يُعتبر اليوم أحد أهم أعمدة الفن المفاهيمي في العالم بأسره.[10]

   
وينر، والذي سارَ بالفن المفاهيمي لذروة الإبداع، يُعتبر خير مثال للفنان الذي ربط الفن بالفلسفة، وعلى خطى ماجريت، يستخدم وينر في مُعظم أعماله عناصر بسيطة للغاية ويُضيف لها بعض العبارات البسيطة، بلغات عدة مِنها العربية، ليقف على أدق المعاني الغائبة عنَّا أو ليُفكك بعض المعاني التي أخذت أكبر من حجمها.
    

عمل غير معنون لورنس وينر نُشر عام 1991
عمل غير معنون لورنس وينر نُشر عام 1991
   
وينظر في العمل أعلاه، يدحض فكرة الاستنتاجات المنطقية، وهو المبدأ الذي لازم ظهور الحركة المفاهيمية ككل، تفكيك المنطقي والمألوف والعادي، فالفن لا يقتضي تمثيل مشاهد الحياة اليومية، بقدر ما أن فكرة ما شديدة الذكاء تُصبح في جوهرها عمل فني إذا ما تم تقديمه بطرق معينة.

بالتالي، فإن السمات التي لازمت الحركة المفاهيمية منذ نشأتها في منتصف القرن الماضي، جعلت للحركة بُعدًا سياسيًّا. لأن استعراض الأفكار بأسلوب فني كان من شأنه أن يُحفز الناس على نمط مُعين من النقد والتفكير قد لا يستطيع عشرات الفلاسفة والمُفكرين اقناعهم به وتحفيزهم عليه.[11]

    
مثالٌ آخر، هو أعمال الفنانة الصربيّة مارينا أبراموفيتش، 30 نوفمبر 1946، والتي تدور حول طبيعة العلاقات العاطفية وانعكاساتها على الرجل والمرأة وتقدم أفكارها عن تلك العلاقات بأسلوب مفاهيمي ذكي جدا. في العمل،[12] يصوّب الرجل سهما نحو قلب المرأة، لكن المرأة هي من تشد له القوس، قامت مارينا بتمثيل دور المرأة في العمل وقام بتمثيل دور الرجل حبيبها السابق أولاي. الفكرة في العمل هي الوقوف على قدر الألم النفسي الذي تتعرض له المرأة في العلاقات العاطفية بتمثيل الحب بسهم طائش فعلا. وأن كسر قلب أحد الطرفين يتم بموافقة كلاهما.


التفكيك بدلا مِن التشكيلي، الفحص بدلا مِن الإيمان الأعمى، والاعتماد على أقل عدد من العناصر للتعبير عن أكثر الأفكار كارثية: هذا هو الفنّ المفاهيمي. خطوط بسيطة قد تكشف أكثر المفاهيم عوارٍ، مثل أن الجمال يُشترى والإيمان يُزيَّف.

عملٌ آخر يشرح جوهر الفن المفاهيمي هو للفنان الأمريكي المُعاصر جيمس ستنبرج والذي يشرح فيه العاطفة المزيفة التي تقدمها مواقع التواصل لروادها، بتصوير عدد الإعجاب الذي يحصده الفرد في صورة يد حانية تحتويه..!

  

undefined
  

الشاهد، رُبما ما كان العالم بحاجة، بعد حربين عالميتين، لمزيد مِن اللوحات عن كافة أشكال الحياة اليومية، رُبما كان في حاجة أكثر لمَن يضع حجر عثرة أمام قطار الحرب والدم ويرفع علامة استفهام على كل فكرة وحدث وأيديولوجيّة وعبارة.[13]

   
ما الذي قد يحتاجه العالم، بعد كل تلك الكوارث، مزيد من الرسم أم بعض الفحص والتفكيك؟ نعم تجردت المفاهيميّة من كافة سمات الفن التشكيلي التقليدية، وفضلت التصغيرية الفاضحة / (Minimalism).

   
في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت"، يورد الشاعر الفلسطيني محمود درويش عبارة قد تكون هي الأنسب في شرح سياسة الفن المفاهيمي، الفن الزاهد في كل شيء: "لي حكمة المحكومِ بالإعدام: لا أشياء أملكها لتملكني." التخلص مِن ثقل العناصر في اللوحات والالتزام بأقل عدد ممكن من الكلمات للتعبير عن أثقل التساؤلات؛ لأن كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.

   

undefined

المصدر : الجزيرة