شعار قسم ميدان

كيف يصبح الفن فنا؟

ميدان - فريدرش
فريدرش، متجول فوق بحر من الضباب، 1818م (مواقع التواصل الاجتماعي)

 كيف أصبحت لوحة مثل لوحة غيرلاندايو "تحية الملوك الحكماء" 1488 والمبولة جاهزة الصنع التي عرضها مارسيل دوشان تحت اسم "النافورة" عام 1917، على اختلافهما الكبير ينطويان معا تحت اسم "الأعمال الفنية"؟ كيف تغير مفهوم الفن وكيف أصبح مارسيل دوشان أحد أهم الفنانين الطليعيين في القرن العشرين؟ في مجتمعنا المعاصر من شأن تصنيف الشخص كفنان أن يضفي عليه عدد من المميزات مثل نوع معين من السلطة والمكانة، بالإضافة إلى رؤيته كشخص شديد الذكاء والعبقرية الفنية، لكن هذا المفهوم كان يختلف كثيرا منذ عدة قرون.

لنأخذ لوحة "تحية الملوك الحكماء" مثالا، في عصرنا الحالي يعد الموضوع واستخدام الألوان والأسلوب في اللوحة تعبيرا مكثفا عن العبقرية الإبداعية الفردية عند غيرلاندايو، لكن مؤرخ الفن ميشيل باكساندال أشار في مقدمة كتابه (الرسم والتجربة في إيطاليا القرن الخامس عشر) بأن تفسير عمل غيرلاندايو بمثل هذه المصطلحات هو في جوهره مفارقة زمنية.


لقد قدم
باكساندال مجموعة من العقود التي استخدمها التجار والقساوسة لتكليف فنانين من أوائل عصر النهضة بعمل لوحات معينة وكان غيرلاندايو من بين هؤلاء الرسامين، كما وضح باسكال أن كل من هذه العقود ينص بتفصيل شديد على الحجم والموضوع وحتى طيف الألوان التي سوف تستخدم من قبل الفنان. ففي الوقت الذي يفسر فيه الجمهور لوحات أوائل عصر النهضة على أنها تعبير عن العبقرية الفنية الفردية، فإن التجار والقساوسة الفلورانسيين الذين كلفوا الفنانين لعمل اللوحات لحسابهم، كانوا سيفسرون اللوحات بطريقة مختلفة تماما.

undefined

إن توزيع الألوان باهظة الثمن، أو الأزرق المصنوع من اللازورد كانا سيفسران كعلامات على ثراء ومكانة الفرد أو المؤسسة التي تمتلك هذا العمل ومدى اخلاصها الدينى، لقد كانت هذه اللوحات في زمنها تؤدي دورا اجتماعيا ودينيا واضحا. يمكننا فهم وضع الفنان في ذلك الوقت إذا فكرنا في الطريقة التي نقوم بها الآن بطلب نوع معين من المأكولات السريعة من أحد المطاعم، أو عندما نطلب كعكة عيد ميلاد بمواصفات معينة، أو حتى عندما نطلب من النجار أن يصنع لنا مكتبة بقياسات معينة تناسب المنزل.

بمثل هذه الطريقة كانت تُطلب اللوحات الفنية في القرون الوسطى، لقد كان ينظر إلى الفنان في ذلك الوقت على أنه مجرد "حرفي ماهر"، يجعلنا هذا نتساءل: هل ثقافة المجتمعات الحديثة تمنح هذه المهن نفس التقدير والمستوى الاجتماعي المرتفع الذي تمنحه للطبيب أو المحامي أو المهندس؟ السؤال هنا ليس عن رأي القارئ الشخصي في هذه المهن، السؤال عن ثقافة المجتمعات التي نعيش فيها الآن. هذا هو الوضع الذي كان عليه الفنانون في العصور الوسطى وعصر النهضة، وما كان يميز فنان عن فنان ليس الموهبة إنما مدى ارتباطه بقيود وقواعد العمل الفني وامتثاله لها، ولقد كافح فنانوا عصر النهضة بشراسة ضد هذه المفاهيم، أرادوا أن يتم اعتبارهم مفكرين ومبدعين، ورغم التغيرات الدرامية التي حدثت في عصر النهضة والتي ساهمت في فصل مفهوم الحرفي الماهر عن مفهوم الفنان، إلا أن الأمر سيأخد عدة قرون حتى يصل الفنان لهذه المكانة المرموقة التى نمنحها لنجوم الفن الآن.

لقد حقق معظم فنانوا عصر النهضة لوحاتهم تحت نظام الرعاية، كان الإنتاج الثقافي يتم بأمر من رعاة أقوياء كالباباوات، وكان على الفنان صانع المنتجات الثقافية أن يعمل وفق قيود معينة، إذ كان عليه أن ينتج الفكرة التي تسعد الراعي؛ في ذلك الوقت لم يكن لإسم الفنان هذه المكانة التي حصل عليها الآن في العصر الحديث، وما نعرفه عن حرية الفن الآن لم يكن موجودا بشكله الحالي، ولا بممزاته الحالية، لم يكن أحد يستطيع أن يرسم ما يحلو له ثم يجلس إلى جواره آملا أن يتم بيعه مثلما يفعل بعض الفنانين الآن، لكن مع الثورة الفرنسية بدأ كل شيء يأخذ منحى مختلف.

من الحرفي الماهر.. إلى الفنان الذي يمتلك رؤية فنية متفردة
   لوحة
لوحة "متجول فوق بحر من الضباب" لـ كاسبر دافيد فريدرش، 1818م (مواقع التواصل الإجتماعي)

ألغت الثورة الفرنسية النفوذ الديني الكاثوليكي ونظام الملكية المطلقة والامتيازات الإقطاعية للطبقة الأرستقراطية، وضعفت سلطة الكنيسة ولم يعد بإمكانها أن تدفع نفس المبالغ الطائلة التي كانت تنفقها على الأعمال الفنية، في نفس الوقت الذي يوجد فيه الكثير من الفنانين المهرة الذين لديهم الرغبة في ممارسة العمل الفني، من هنا أصبح الفنان إلى حد معين متحرر، لم تعد هناك جهة معينة تدفع له لكي يرسم ما يناسب ذائقتها، لقد أصبح من الممكن للفنان الآن أن يعبر بالرسم بطريقة مختلفة.

فبعد أن كانت اللوحات الفنية تقتصر على الموضوعات الدينية وحكايات الكتب المقدسة، جاءت الكلاسيكية المحدثة وكسرت قيود الكنيسة، فاستلهمت من الفن الإغريقي لكن بدون القيود الذي وضعتها الكنيسة، ثم جاءت الرومانسية التي بدأ معها ظهور ذاتية الفنان وحدسه وخصوصيته الفردية في العمل الفني، يمكننا أن نرى ملامح هذه الفترة في لوحات كاسبر دافييد فريدرش مثل لوحة "متجول فوق بحر من الضباب" 1818م.

هذه اللوحة الغارقة في أجواء شاعرية للغاية، استطاعت أن تختزل المزاج العام لعصر بأكمله، لقد جعلت الحداثة العالم مفتوح أمام الإنسان لكنه مازال بالنسبة له لغزا عصيا يلفه الغموض؛ أكدت الرومانسية على أن المشاعر والعواطف هي المصدر الأصيل للتجارب الجمالية، وركزت على مختلف العواطف الإنسانية مثل الألم والخوف والحزن، وجعلت من الخيال الفردي سلطة قوية أسهمت في التحرر من القيود والقواعد التي كانت الفنون بشكل عام خاضعة لها.

الفن المعاصر.. من جمال التنفيذ إلى إبداع الفكرة
 لوحة
لوحة "نافورة" لـ مارسيل دوشان، 1917م (مواقع التواصل الإجتماعي)

في عام 1917 أصيبت المؤسسة الفنية بالهلع عندما قدم مارسيل دوشان عمله الذي يحمل اسم النافورة في أحد المعارض الفنية، وهو عبارة عن مبولة جاهزة الصنع لم يقوم دوشان حتى بتصميمها بنفسه، لكي يؤسس بهذا لعصر جديد سيغير وجه الفنون التشكيلية في القرن العشرين، إن كل ما فعله دوشان هو تغيير وضعية المبولة الجاهزة لتكون بوضع قائم وكتابة بعض الأحرف عليها.


لقد فجر دوشان بهذا العمل الأسئلة حول ما هو فن وما ليس بفن، والتي أدت في النهاية إلى كسر كل التعريفات الضيقة لما يعنيه الفن والجماليات، لقد أزاح دوشان التركيز من على العمل الفني نفسه إلى ما يمكن أن يمثله هذا العمل من مفاهيم وأفكار، فمهد بذلك إلى ظهور الفن المفاهيمي، يقول بعض النقاد أن كل الفن بعد مارسيل دوشان هو فن مفاهيمي أي أننا لا يمكن أن نتذوقه إلا من خلال مفهومنا الخاص.

إن جمال التعبير عن الفكرة أو المبدأ وليس التنفيذ هو الذي يؤخذ الآن كتعبير عن العبقرية الفنية، أصبح العمل الفني هو ما يقدمه من فكرة جديدة وليس ما يقدمه من إبهار بصري، بيترييقول يرغر في دراسته حول الفن الطليعي: "إن عرض أعمال جاهزة الصنع مثل مبولة دوشان لا تجتث فكرة إبداعية الفرد، بل إنها تؤكدها"، لقد كان هدف دوشان بلا شك  مقارعة المبادئ  محل توقير المؤسسة الفنية  فأصبح هذا الاحتجاج  نفسه مقبولا بوصفه فنا.

في الفن المعاصر إذا أراد الفنان أن تخلّد أعماله، عليه إيجاد طريقة جديدة للتعبير، كي يحفز المتاحف لاقتناء أعماله الفنية، مما يجعلنا نواجه عالم منفتح على مئات الأفكار الجديدة شديدة الغرابة، إن الحداثة الفنية لم تترك للفنان قاعدة لم تكسرها فأصبح البحث عن طرق جديدة للتعبير لكي يثبت بها الفنان إبداعه وتميزه أمرا يصل حد الهوس، فنحن الآن لا يمكننا أن نستخدم كلمة الفن التشكيلي مثلا لوصف الفنون المعاصرة، لأن التشكيل ببساطة يعني أن تأتي بمادة أو خامة ثم تعيد تشكيلها، بينما الفن المعاصر لا يهتم كثيرا بهذا، لقد أصبحت فقط فنونا مرئية أو بصرية.

بدأ الفن مقيدا بالقواعد الكلاسيكية والأكاديمة حتى وصل إلى الاستقلال الكامل عن كل القواعد، فنتج عنه أشكال شديدة التنوع والاختلاف ومن الصعب أن تجمع بينها قاعدة واحدة، لقد كانت لوحات القرون الوسطى تستمد قيمتها من المواد الثمينة المصنوعة منها مثل الذهب والمعادن النفيسة الأخرى، أما الآن لو كان بيكاسو رسم على منديل فسوف يباع بملايين الدولارات.

المصدر : الجزيرة