شعار قسم ميدان

هوس التصوير.. لماذا علينا العودة للرسم؟

midan - selfie

 "بجمع الصور الفوتوغرافية نجمع العالم"
سوزان سونتاغ

يذهب الناس للمتاحف لمشاهدة الأعمال الفنية عن قرب وقضاء بعض الوقت في تأملها والاستمتاع الهادئ بها بعيدا عن العالم الذي يسير بسرعة جنونية في الخارج.

لكن في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة مثيرة للدهشة، فقد أصبح زوار المتاحف مهتمين بالتقاط صور للأعمال الفنية وصور شخصية لأنفسهم (سيلفي) مع هذه الأعمال أكثر من اهتمامهم بمشاهدة الفن وتأمله. وفي محاولة للحد من هذه الظاهرة منعت بعض المتاحف التصوير، وبعضها الآخر وضع شروطا للتصوير مثل دفع المزيد من الأموال في مقابل التقاط الصور داخل المتحف، والمفاجئ أن الناس كانوا يختارون أن يدفعوا أكثر كي يتمكنوا من التقاط الصور في الداخل.

تقول سوزان سونتاج في كتابها عن التصوير "أصبح التصوير الفوتوغرافي واسعا كممارسة ومتعة، مثل الجنس والرقص، الأمر الذي يعني أن التصوير الفوتوغرافي مثل أي شكل للفن الجماعي، لم يمارس من قبل الناس كفن، فهو  في الدرجة الأولى طقس اجتماعي، وحصانة ضد القلق، وأداة للقوة".

فهي ترى أن الصور الفوتوغرافية عبارة عن تجربة استيلاء، والكاميرا هي السلاح المثالي للوعي في طبعه المحب للتملك، فعندما نقوم بالتصوير فإننا نستولي على الشيء المصور، مما يجعلنا نضع أنفسنا في علاقة معينة مع العالم، تشبه المعرفة وبالتالي السلطة.

 رغم أن التقاط الصور يبدو حلا مثاليا لإشباع جزء من رغبتنا في الامتلاك، لكنه يجعلنا منشغلين بالتصوير فنغفل عن تأمل جمالية ما نقوم بتصويره
رغم أن التقاط الصور يبدو حلا مثاليا لإشباع جزء من رغبتنا في الامتلاك، لكنه يجعلنا منشغلين بالتصوير فنغفل عن تأمل جمالية ما نقوم بتصويره

يشعر البشر برغبة في امتلاك كل ما هو جميل، لكن الإنسان لا يمكنه امتلاك كل شيء، لذلك عندما ظهر التصوير أشبع جزءا من هذه الرغبة، ومنذ ذلك الحين انخرط الناس في ممارسة التصوير بشكل هستيري، فصوروا كل شيء، مدفوعين برغبة غريبة في الاستيلاء على كل ما يحيطهم من جمال. رغم أن التقاط الصور يبدو حلا مثاليا لإشباع جزء من رغبتنا في الامتلاك، لكنه في الحقيقية ينطوي على مشكلتين:

الأولى أننا أثناء التقاط الصور في الغالب نكون منشغلين بالتصوير فنغفل عن تأمل جمالية ما نقوم بتصويره، سواء أكانت مشاهد جميلة أثناء رحلة أو عملا فنيا في متحف، أو حتى لحظات حياتنا اليومية المميزة مع العائلة والأصدقاء.

الثانية أننا في الغالب نكون مطمئنين إلى أن الصور محفوظة بأمان على هواتفنا المحمولة، فنؤجل مشاهدتها باستمرار، مطمئنين إلى أنها معنا وأننا حتما سنشاهدها يوما ما.

هذان السببان يجعلان من فعل التقاط الصور فعلا يضيّع فرصنا الحقيقية في مشاهدة الجمال الذي حفزنا على التقاط الصور منذ البداية.

جون راسكن: الرسم عوضا عن التصوير
undefined

إن ظاهرة الرغبة الشديدة في التقاط الصور ليست ظاهرة حديثة، بل تطورت وتفاقمت مع ظهور الهاتف المحمول الصغير الذي يسهل حمله في كل مكان. لكن ملاحظة هذه المشكلة بدأت مع ظهور التصوير منذ أن كان حجم الكاميرا كبيرا للغاية، وأول من لاحظ تلك المشاكل هو الناقد الفني الإنجليزي جون راسكن.

فقد كان راسكن في البداية معجبا بالكاميرا، لكنه بدأ يغير رأيه فيها شيئا فشيئا، معتقدا بأنها تعمينا عن رؤية جمال ما يحيط بنا. وفي محاولة منه لتصحيح هذا العمي، اقترح راسكن أن نهتم بالرسم، ليس بهدف أن نصبح رسامين ماهرين، بل لأنه عبر إعادة خلق ما نراه في العالم على الورق، فإننا ندرسه بدقة وتأمل، وليس ببساطة كما نفعل عندما نلتقط الصور، لذلك بدأ راسكن في نشر كتيبات إرشادية عن الرسم يلخص فيها جل خبرته.


ولكي نستطيع أن نلمس الفرق بين ما يحدثه الرسم من أثر في النفس وبين التقاط الصور، يقترح راسكن أن نقوم بدعوة شخصين للمشي في نزهة سويا، الأول رسام أو مهتم بالرسم والثاني لا يهتم بالرسم، وندعهما يسيران في مكان يتمتع بطبيعة خلابة، فكيف تتوقع حينها أن تكون نظرة الاثنين للمشهد؟

سيرى غير المهتم بالرسم الممر والأشجار وسيلاحظ أن الأشجار خضراء، لكنه قد لا يفكر في أكثر من هذا، سيرى أن الشمس مشرقة وأن تأثيرها مبهج، هذا كل شيء، لكن ماذا سيرى الرسام؟

إن عينا الرسام معتادة على البحث في جذور الجمال بتمعن ودقة، سيشاهد خيوط الضوء الماسية تتلألأ مخترقة بأشعتها أغصان الأشجار، سيلاحظ أعشاش العصافير الصغيرة وأنواع النباتات والأشجار المختلفة، سيرى تأثير الضوء على ماء النهر في الأوقات المختلفة من اليوم، ويتأمل جذوع الأشجار العتيقة التي تكبره بعشرات السنين.

undefined


ألا يستحق هذا المشاهدة؟ لكن إذا لم تكن رساما ولم تكن تفكر في الرسم، ستمر عبر هذا المكان عندما تعود للمنزل، ربما لم تجد شيئا تقوله أو تفكر به، غير أنك ذهبت إلى هذا المكان الفلاني. إن السير مددا طويلة وتأمل الطبيعة بهدوء يقلل التوتر والإجهاد والضغط الذي تسببه لنا طبيعة الحياة الحديثة، خصوصا في المناطق الحضرية، وترى دراسات 
حديثة أنّ تأمل الطبيعة ينشط القدرات الإبداعية.

التصوير محاكاة ودية للعمل
ترى سوزان سونتاغ أن التصوير يرتبط بواحد من أكثر الأنشطة العصرية انتشارا وهو السياحة، فلأول مرة في التاريخ أصبح للناس القدرة على السفر لأماكن بعيدة في مجموعات خارج أوطانهم بانتظام لفترات قصيرة، وقد أصبح من الغريب السفر للمتعة دون اصطحاب كاميرا، لأن الصور الفوتوغرافية تقدم برهانا قاطعا على أن الرحلة قد تم إنجازها، والتسلية تحققت بالفعل.

توثق الصور نتائج الاستهلاك، وتشبع الرغبة في التكديس، ولكنها أيضا بالإضافة لذلك تحجّم التجربة عن طريق الانشغال بالبحث عن المواضيع الصالحة للتصوير بدلا من الانخراط والاستمتاع، كأن عملية التقاط الصور تقوم بنوع من التلطيف والتهدئة لمشاعر الارتباك والقلق التي تتفاقم عند القيام بشيء جديد مثل السفر.

إن أغلب الناس أصبحوا مضطرين إلى وضع الكاميرا بينهم وبين أي شيء مثير للانتباه أو مميز يقابلهم، مما يمنح التجربة أو الرحلة "شكلا" محددا هو: قف، التقط صورة، واصل طريقك.. بهذه البساطة، هذا المنهج يجذب كثيرا أناسا معاقين بأخلاقيات عمل صارمة لا تعرف الرحمة.

استخدام الكاميرا والتقاط الصور يهدئ من القلق الذي يحس به المضطرون للعمل عندما يتوقفون عن العمل ويذهبون في عطلة، فتكون التسلية والمتعة بمثابة شيء يجب عليهم القيام به
استخدام الكاميرا والتقاط الصور يهدئ من القلق الذي يحس به المضطرون للعمل عندما يتوقفون عن العمل ويذهبون في عطلة، فتكون التسلية والمتعة بمثابة شيء يجب عليهم القيام به

فاستخدام الكاميرا والتقاط الصور يهدئ من القلق الذي يحس به المضطرون للعمل عندما يتوقفون عن العمل ويذهبون في عطلة، فتكون التسلية والمتعة بمثابة شيء يجب عليهم القيام به، في رد فعل محاك تماما لفكرة الواجب الذي يطرحه العمل.

إن ما يجعل التصوير يعمينا عن رؤية الجمال هو هوسنا بالتقاط الصور لأسباب أخرى غير الاستمتاع بما نراه، غير الفن. في الرحلات على سبيل المثال نجد أنفسنا مشغولين بتوثيق كل لحظة في صورة، كي نشاركها الآخرين كدليل يثبت أننا كنا في هذا المكان وأننا بالفعل خضنا هذه التجربة.

رغم هذا، يمكن -كي نلتقط الصور بوعي وانتباه لما نرى أنه يقوم بدور مشابه لما يقوم به الرسم- أن ننظر جيدا ونمنح أنفسنا فرصة كاملة لاستكشاف وتأمل الجمال المحيط بهدوء، ثم التقاط صور الأشياء التي رأيناها جيدا وتأثرنا بها وشعرنا برغبة في رؤيتها مرة أخرى.

المصدر : الجزيرة