شعار قسم ميدان

حكاية لوحة.. الهروب بالخيال في لهيب يونيو

ميدان - لوحة
فريدريك ليتون، قيظ يونيو (1895)

يُحكى أنه في أحد أيام عام 1962، ذهب عامل بناء بسيط إلى أحد محلات بيع التحف وهو يحمل بين يديه لوحة قال إنه وجدها معلقة فوق المدفأة أثناء عمله في هدم أحد المنازل الفارغة في جنوب لندن، كل ما كان يطمح إليه هذا الرجل هو الحصول على بعض المال القليل مقابل هذه اللوحة، وبعد التفاوض والمساومة مع صاحب المحل اشترى الرجل اللوحة مقابل 60£، ولم يخطر للرجل المسكين أنه يبيع لوحة "قيظ يونيو" إحدى تحف العصر الفيكتوري وأهم لوحات الفنان الفيكتوري البارز فريدريك ليتون، التي يطلق عليها موناليزا الجنوب.

 

ما بين 1930 إلى 1962 اختفت اللوحة عن الأنظار، واستمرت في الانتقال من مالك إلى آخر في وقت كان الفن الفيكتوري لم يعد محل اهتمام، ثم اُعيد اكتشافها مع قصة هذا العامل الغريبة، والذي يشكك في صحتها الكثير من مؤرخي الفن، لكن القصة لا تخلو من دلالة مهمة، ففي ذلك الوقت مع بداية الحداثة وظهور المدارس الجديدة التحررية في الفن مثل الانطباعية وما بعد الانطباعية، انخفضت أهمية الفن الفيكتوري وأصبح بلا قيمة تقريبا، لدرجة أن تحفة مثل تحفة فريديك ليتون لم تكن معروفة.
 

صورة للوحة التقطت سنة 1895 في مرسم الفنان (مواقع التواصل)
صورة للوحة التقطت سنة 1895 في مرسم الفنان (مواقع التواصل)


رسم فريديك ليتون (1830-1896) هذه اللوحة قبيل وفاته بشهور، وتعد واحدة من اللوحات المثيرة للجدل التي تنقسم الآراء حولها، فالكثير من الناس يحبونها ويعتبرونها نموذجا للجمال الفخم ويعلقونها في المنازل والقصور والصالونات، مثل جامع اللوحات صمويل كورتالد الذي قال عنها: "أجمل لوحة في الوجود.. إنها تجسيد للروعة والبذخ الحسي"، والبعض الآخر يعتبرها مثالا للفن المبتذل والممل الذي لا ينطوي على أي قيمة أو توتر أو حتى مغامرة في التصوير.


تصور اللوحة امرأة نائمة في وضعية معقدة جدا وغير معتادة، تلبس ثوبا برتقاليا شفافا ومتوهجا، تكوين اللوحة بالكامل يجعلنا غير قادرين عن رفع أعيننا عن المرأة الحالمة، التي بالرغم من أنها نائمة إلا أن جسدها ينبض بالحياة والحيوية، كانت التقاليد الفكتورية في ذلك الوقت غير متسامحة مع الفن الذي يصور العري والإثارة الحسية، لذلك لم يرسم فريدريك المرأة عارية على الإطلاق لكنه جعل من ثوبها البرقالي الشفاف مركزا لإثارة الانفعالات الحسية بإظهاره للجسد الذي يتوهج بالطاقة، ويقال إن فريدريك ليتون استوحى هذه اللوحة من منحوتة مايكل أنجلو "
ليل"1 التي تتخذ المرأة فيه وضعية مشابهة لكنها عارية بالكامل، مما يجعل هذه اللوحة أكثر جاذبية.

هل هي فن عظيم أم فانتازيا هروبية؟

تعتبر هذه اللوحة جواز سفر إلى مكان خيالي، ومهرباً إلى الترف والكسل والإثارة الحِسِّيَة بعيداً عن كل شيء، فهي لا تحمل أي رسالة، وبالتالي تعتبر تجسيداً لما يعرف بفلسفة (الفن للفن) وهي من النظريات التي تقول بأن للفن قيمة بمعزل عن الأخلاق والدين والتاريخ والسياسة، فتقر بقطع الصلة بين الفن والمجتمع، أصبحت نظرية الفن للفن في بداية القرن التاسع عشر نوعا من الهروب من تبعات الحاضر، فكان الفنان يهدف إلى خلق فن هو صورة للترف في ذاته غير عابئٍ بالغايات الاجتماعية والخلقية.
 
رفض الفيلسوف الألماني نيتشه فكرة الفن للفن، واعتبر الفن أكبر منبه من أجل الحياة ويستهدف التكوين الأخلاقي للإنسان
رفض الفيلسوف الألماني نيتشه فكرة الفن للفن، واعتبر الفن أكبر منبه من أجل الحياة ويستهدف التكوين الأخلاقي للإنسان

قاد هذا الاتجاه الجمالي في الخلق الفني، الفيلسوف إيمانويل كانت الذي كان يرى أن الجمال غاية تقصد لذاتها لا وسيلة لأي غاية أخرى، وكان فريدريك ليتون أحد أشهر الرسامين في عصره، وكان ينتمي لهذه الحركة الجمالية وتخصص في رسم المواضيع الأسطورية، التي يظهر فيها المزاج وجمال الجسد واللون مقدم على السرد أو الدروس والمواعظ ربما لهذا السبب مازالت هذه اللوحة محل جدل بين النقاد حول قيمتها كإبداع فني.

 

لكن هذا الاتجاه لاقى معارضة قوية من قبل الكثير من الأدباء والفنانين، مثل الشاعر ت. س. اليوت الذي يقول في مقدمة كتابه "الغابة المقدسة": "مهما قيل في استقلال الفن، ومهما اجتهد أهله في الاكتفاء به غاية في ذاته، فإنه لا بد وأن يمس مسائل الخلق والدين والسياسة" وسخر سارتر من هؤلاء الذين تبنوا هذا الاتجاه  ورفض الفصل بين الجمال الفني والقيمة، وكان يرى2 أن من يتبنى تعاليم دعاة (الفن للفن) يهتم أولا بكتابة أثار لا تخدم أي شيء، آثار محرومة من الجذور، وهكذا يضع نفسه على هامش المجتمع، أو لا يقبل بالأحرى إلا يمثل فيه إلا بصفة مستهلك محض، وكان يقول أن الفن الخالص والفن الفارغ سواء بسواء، واتهم أتباع هذا الاتجاه أنهم غير قادرين على التجديد أو إبداع شيئا ذا قيمة.

 

ويرفض نيتشه فكرة الفن للفن، وعلى الجانب الآخر يعتبر الفن أكبر منبه من أجل الحياة ويستهدف التكوين الأخلاقي للإنسان، وقاد مارسيل دوشامب3 الانتقاد الأقوى والأكثر تأثيرا لنظرية (الفن للفن) في القرن العشرين، فوصف دوشامب النظرية بأنها باطلة وتهدف إلى ترسيخ الأمر الواقع، بجعل الفن ينكفئ على ذاته ويقطع علاقته بالحياة من حوله ويبقي على عالمه الداخلي التقليدي جامدا غير قابل للتطور والنمو، والقليلون يعتقدون اليوم بالفصل بين الفن وما تدور في العالم من أحداث وما تُثار فيه من قضايا، ما يعني أن فكرة الاحتكام إلى معايير جمالية فقط في عصرنا الحالي أصبحت دربًا من المستحيل.

المصدر : الجزيرة