شعار قسم ميدان

بؤس الواقع الاجتماعي بريشة ليون ليرميت

midan - art
بعد الثورة الفرنسية، من 1789 حتى 1799[1]، أصبحت القومية أيديولوجية واضحة طرحت نفسها بقوة على ساحات السياسة الدولية. هذا بدوره انعكس على الفن الذي ظهر فيه ما يُعرف بـ"الواقعية الاجتماعية". وهو توجه اعتُبر فيه الرسامون أنفسهم أعضاء حاسمين في المجتمع بأسره، بدل من الساسة والبرجوازيين الذين يعيشون في أبراجهم العاجيّة.[2]

 
وبالرغم مِن أن "الواقعيّة الاجتماعيّة" ظهرت بشكلها الصريح في القرن العشرين في فترات الحروب العالمية وما تلاها من حرب باردة؛ إلا أن العمل بقواعدها ومفاهيمها كان جارياً من بعد الثورة الفرنسية. ففنانو "الواقعية الاجتماعيّة" سلَّطوا فُرشاتهم على نقد هياكل السلطة الاجتماعية وظهر ذلك في لوحات مشحونة سياسيا بدلالات عن المعاناة الإنسانية للفقراء والفلاحين.[3] أحد أولئك الرسّامين هو ليون أوغستين ليرميت.
 
ولد الرسّام الواقعي ليون أوغستين ليرميت في إقليم "أنْ" الفرنسي في 31 يوليو 1844.[4] في صغره، كان والده أول مِن شجعه على ممارسة الرسم بعد أن رأى براعة ابنه في نقل رسومات المجلات بدقة. شرع ليرميت بعد ذلك في دراسة أعمال الرسامين الفرنسيين وبخاصة الواقعيين منهم.[5]
 

  "دفع الحصاد" والتي رسمها ليرميت عام 1882

 
تقدم والده بعددٍ من أعماله لمدير كلية الفنون الجميلة والذي أُعجب بأعمال ليرميت الصغير وعرض عليه منحة لدراسة الفن عام 1860.[6] التحق ليرميت بالكلية الملكية للتصميم. وفي الكلية، تتلمذ لرميت على يد الرسام الفرنسي هوارس ليكوك بويسبودران (1802-1897).[7]

انتقل بعد ذلك لباريس وبدأ دراسة الفن في كلية باريس للفنون الجميلة عام 1863. ومن ثم عرض أعماله في نفس العام في صالون "ديس ريفسس [Salon des Refusés).[8) والذي حاز ليرميت فيه على ميدالية المركز الثالث في الرسم عام 1874. وقد اتبع ليرميت أسلوبًا واقعيًّا في عرض مواضيع ريفيّة والتي اعتبرها ميدانًا شديد الثراء.

 
"لو تنشر لوموند كل شهر إحدى أعماله.. سيكون مِن دواعي سروري متابعته، وحقيقةً أنا لم أر مشهدا بهذا الجمال منذ سنين."[9]

(فنسنت فان جوخ، عن ليرميت)
 
كعادة العديد من الرسامين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، مال ليرميت لتصوير الريف الفرنسي ونقل مواضيعه بدقة شديدة وواقعية مُفرطة. مرد ذلك هو نشاط المذهب الواقعي في الرسم في تلك الفترة كأول المذاهب التي مهدت للفن الحديث.
 
والواقعيّة هي تَوجُّه فني ظهر في منتصف القرن التاسع عشر. ونقل أحداثا واقعية بصدق دون تَصنُّع أو مبالغة، بالتالي، لا تتناول الواقعية أي مواضيع خيالية أو شخصيات خرافية. وتعتبر الواقعية أول مدرسة مهَّدت للفنّ الحديث؛ لأنها رفضت الأشكال التقليدية للفنون والآداب التي عفا عليها الزمن بعد عصر الثورة الصناعية؛ فاستبدلت المثالية والنزعات الخيالية والرسوم الدينية والأسطورية بمشاهد من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ دامجةً بذلك بين الفنّ والحياة. وعليه، فقد ركَّزت المدرسة على أحداث الحياة اليومية للعُمَّال، الفلاَّحين، المناظر الطبيعية وكل ما يجري في الهواء الطلق ببساطة، واقعية.
 
undefined
 
مثال ذلك، لوحة "جامعو المحصول" التي رسمها ليرميت عام 1898. وفي اللوحة، يظهر عدد مِن الفلاحات في وضح النهار يجمعن المحصول. وقد اهتم ليرميت برسم درجات الظّل والنّور وإظهار الفلاحات مُنحنيات تعبيرا منه عن حجم المشقَّة التي يلاقينها في العمل.
 

رسّام الفقراء
تصوير ليرميت للحياة الريفية لم يكن بوصفها منظرا طبيعيا أو اتَّباعا للمذهب الواقعي فقط؛ بل يحاول إظهار فقر الفلاحين بتصوير ملابسهن وبيوتهن من الداخل وطرق معيشتهن. فجولة كلية في أعمال ليرميت[10] تعطي فكرة واضحة عن حجم الفقر والمعاناة التي لاقاها فلاحو الريف الفرنسي في القرن التاسع عشر.

 
لذلك كان غالبا ما يُشار لرسَّامي الأرياف والفلاحين على أنهم رسامون سياسيّون. وذلك بسببين، أولا، أنَّ الرسم كان ينقل طبيعة حياة الفقراء للطبقة البرجوازية في باريس المهتمة بصالونات ومعارض الفن. ثانيا، أن تلك اللوحات كانت بمثابة اعتراض على مآلات الثورة الفرنسية (1789 – 1799) والتي كان أحد أهم أهدافها تحقيق عدالة اجتماعية.[11]
 
undefined
 
على اليمين، لوحة "الأسرة الكبيرة" رسمها ليرميت عام 1908. وعلى اليسار، لوحة "درس القراءة" رسمها عام 1912. في اللوحتين، نرى بوضوح حالة الفقر والعوز البادي أثرها على شخوص اللوحات. يلفت ليرميت الانتباه بذلك لشريحة عريضة من الفقراء على أنهم طبقة اجتماعيّة موجودة بالفعل وليسوا مجرد حالات فردية.
 
بالتالي، اعتبرت هذه الأنماط من فن الرسم نقدًا للهياكل الاجتماعية التي تُشرع وتحافظ على هذا التقسيم غير العادل. وبالرغم من اختلاف وتعدد مواضيع اللوحات إلا أن ليرميت حافظ على درجة من الواقعية يمكن تسميتها "بالواقعية المُحرجة / الواقعيّة الاجتماعيّة".
 
undefined

على اليمين، لوحة "صانعو التبن" رسمها ليرميت عام 1887. وعلى اليسار، لوحة "فتاة الإوز" رسمها عام 1892. في اللوحتين، أُسر شديدة الفقر تتكبد معاناة الحياة اليوميّة. فالغاية من لوحات ليرميت كانت تصوير فقر الريف أكثر مِنها تصويرا لمناظر طبيعيّة. وفي اللوحة الثانية مثلا؛ أبرز ليرميت علامات الفقر المدقع على الفتاة التي ترتدي سروالا ممزقا.
 
بعد عام 1900، اهتم ليرميت أكثر بموضوع الأمومة. ورغم أنّ لوحات الأمومة تلك كانت لأسر ريفيّة فقيرة أيضًا؛ إلا أن الزوجين والرضيع يظهرون في مشهد متناغم مليء بالدفء رغم العوز وصعوبات الحياة.
 
undefined
 
مِن أقصى اليمين، لوحة "الأمومة"، تليها لوحة "أم شابة"، ثم لوحة "الأمومة أو الأسرة السعيدة". في اللوحات الثلاث يستعيض ليرميت بالعلاقات الإنسانية على الفقر والعوز. فحياة بتلك الوعورة لا تخلو من بعض الملذات المُتمثلة في الحُب والزواج والأطفال الذين يظهرون في جو أسري دافئ.
 
بعد تقدمه في العمر، اتخذ ليرميت منزلا بجوار ضفاف نهر المارون؛ حيث فضل الرسم في الاستديو على ما تلهمه به الذاكرة من مناظر طبيعية.[12] وعاش كذلك حتى توفي في 18 يوليو 1925.[13] واليوم، تُعرض لوحاته بشكل دوري في متحف أورسيه في باريس، ومتحف بوسطن، ومتحف أمستردام، ومتحف بروكسل، ومتحف واشنطن.[14]

المصدر : الجزيرة