شعار قسم ميدان

"عازف الغيتار".. الموسيقى كأداة لمواجهة بؤس الحياة

ميدان - بيكاسو

لاعب الغيتار المُسن أو (The Old Guitarist)، هي إحدى إبداعات الرسّام الإسباني بابلو بيكاسو، 25 (أكتوبر/تشرين الأول) 1881 – 8 (أبريل/نيسان) 1973، والتي رسمها في مدريد عام 1903، وقد حجزت لنفسها مقعدًا وثيرًا في قوائم أشهر اللوحات في التاريخ منذ عرضها للجمهور للمرة الأولى في أوائل عام 1904.[1]

اللوحة تنتمي لما يُعرف بـ"الفترة الزرقاء" وهي الفترة التي أعقبت انتحار صديق بيكاسو، طالِب الفنون الإسباني، كارلوس كاسيغماس، بدأت عام 1901، وسيطرت على لوحات بيكاسو في تلك الفترة مواضيع مأساويّة آسية، استخدمَ في رسمِها اللون الأزرق ودرجاته بشكلٍ كبير، ولهذا سُمِّيَت بالزرقاء.[2]

واللوحة عبارة عن لاعب غيتار مُسن، وربما أعمى، يرتدي ملابس بالية، يجلس في فضاء قاتم، ويضم عليه آلة غيتار. وهي إحدى أشهر لوحات الفترة الزرقاء. لأنها كانت تُسلّط الضوء على المعاناة النفسية والمادية، وربُما العقلية، في حياة المبدعين. وكثيرا ما يُنظر لعازف الكمان المُسن باعتباره انعكاسًا لكاسيغماس ذاته، رغم أنه انتحر شابا.[3]

وبالرغم من أن بيكاسو معروف باعتباره رائد المدرسة التكعيبيّة وأحد المؤسسين لها، إلا أن تلك اللوحة تنتمي للمذهب التعبيري. وهو مذهب فني اعتمده بيكاسو في الفترة الزرقاء قُبيل ظهور التكعيبيّة بشكلِها المعروف على يده هو والفنان الفرنسي جورج براك (1882- 1963).[4]

 

undefined

 

والتعبيرية كمذهب فني نشأت في ألمانيا في بدايات القرن العشرين وانتشرت منها لجميع أنحاء أوروبا. تميل التعبيرية لتمثيل العالم بطريقة انسيابية وألوان قوية، والاعتماد على المواضيع المأساويّة والأحزان الوجودية التي خيّمت على عالم الحداثة في تلك الفترة؛ فظهرتِ الأعمال وكأنها نزيف ألوان على القماش، فالمهم ليس الشكل الجمالي للوحة؛ بل صدق انفعالها. ويعتبر النرويجي إدفارد مونش أكثر من ألهم تلك المدرسة، بلوحته الأيقونية[5] "الصرخة" (The Scream).

أحادية اللون وأحادية الشعور
استخدم بيكاسو في اللوحة، اللون الأزرق بدرجاته. وهذا الحزن الأزرق المُخيّم على اللوحة وغيرها من لوحات الفترة الزرقاء كان انعكاسًا لأحادية الشعور، شعور الكآبة، الذي خيّم بظلاله على عالم الحداثة وأفضى لحروب عالمية وقنابل ذرية. فحالةُ الكآبة والتساؤلاتُ الوجودية التي خيّمت على الإنسانيّة بشكل عام غذّاها بشكل خاص انتحار كاسيغماس على المستوى الشخصي.[6]

 
في "عازف الغيتار المُسن"، لا يتم التركيز على حالة الشيخوخة بآثارها المعروفة بقدر ما يتم التركيز على شيخوخة الروح التي انعكست آثارها في فقر وعُزلة العازف الذي لا يؤنسه شيء غير آلته البالية، أعمى وفقير ووحيد بملابس تكاد تستره؛ مُنكفئ على نفسه في فضاء موحش.

  

بالرغم من أن العازف لا يُظهر أي علامة من علامات الحياة، غير العزف، إلا أن فكرة العزف نفسها تأتي كنوع من مقاومة الاقتراب من الموت الذي يغذيه الفقر المدقع والعزلةُ والوحشةُ
بالرغم من أن العازف لا يُظهر أي علامة من علامات الحياة، غير العزف، إلا أن فكرة العزف نفسها تأتي كنوع من مقاومة الاقتراب من الموت الذي يغذيه الفقر المدقع والعزلةُ والوحشةُ
  
تلك المشاعر التي تعكسها اللوحة لا تجعل العمل بورتريه لعازفِ غيتار مُسن، وبالأحرى فإن القدرة على رسم مثل مشهد مشحون بالمعاناة لا يتأتى إلا من رجل يعرف جيدًا ما معنى أن تكون فقيرًا ووحيدًا. فغير انتحار صديقه، كان بيكاسو مُفلسًا تمامًا، عام 1902، وربما يكون هذا السبب وراء تصوير العازف أعمى، أن بيكاسو الفقير  المُفلس الذي فقد صديقه للتو لابد أنه فاقد القدرة على رؤية أي أمل.[7]
 

وحالة فقدان الأمل تلك، ليست على المستوى الشخصي فقط؛ بل على المستوى العام، فعازفُ الغيتار المُسن يعكس حال الطبقات الدُنيا ككل، الذين لا يَأبه بهم العالمُ، وجلد العازف الأزرق الشاحب يؤكد ذلك، رُبما لم يتناول هذا الشخص وجبة منذ وقتٍ طويل.

  

  

عمى البصر مُقابل نور البصيرة
يعوّض بيكاسو العازف المُسن الأعمى عن فقدانه بصره بحالة من نور البصيرة المُتمثلة في القدرة على العزف رغم فقدان البصر. وبالرغم من أن العازف لا يُظهر أي علامة من علامات الحياة، غير العزف، إلا أن فكرة العزف نفسها تأتي كنوع من المقاومة؛ مقاومة الاقتراب من الموت الذي يغذيه الفقر المدقع والعزلةُ والوحشةُ والكآبة. 

وهو ما يؤكد فرضيّة أن المُبدع، حتى في أحلك لحظاتهِ، حتى وإن كان على حافة الموت، لا أمل له إلا جماليّة حرفته كسبيل واحدٍ وحيد للخروج من وحشته الشخصية أو محنة الإنسانية ككل في تلك الفترة. وإذا كانت "عازف الغيتار المُسن" تصوير لأقصى حدود الفقر والألم والعزلة، فإنها أيضًا تصوير لمعنى عبارة ديستويفسكي الخالدة: "الجمال قد يُنقذ العالم."[8]

المصدر : الجزيرة