شعار قسم ميدان

"الواقعية والانطباعية".. كيف اندمج الفن بتفاصيل الحياة اليومية؟

ميدان - لوحة تكسير الأحجار
تتعدد حركات ومدارس الفن التشكيلي حتى تكاد تتجاوز المائة حركة فنية. وقد تشعبت العديد من تلك الحركات، فاحتوت على مدارس وتيارات أخرى، حتى أصبح الوقوف على جميع الحركات والمذاهب والمدارس من بداية التاريخ، وحتى قبل التاريخ، إلى الآن أمرا في غاية الصعوبة. 

    
ومنذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، ظهرت العديد من المدارس والمذاهب الفنية التي كان أكثرها مُتأثرًا بالحربين العالميتين وما قبلهما وما تلاهما من معارك وصراعات سياسية ودينية وفكرية. نتجَ عن ذلك، تغيـّرٌ واضحٌ في الطريقة التي كان يتم بها تناول الأعمال الفنيّة وتغير مفهوم الفن ذاته بين الجماهير والرسامين والنُقّاد. نحاول في ما يلي الوقوف على أبرز تلك المدارس وتعريفها بطريقة مُبسَّطة..

     

الواقعية كأحد آثار عصر النهضة
شهد عصر النهضة في أوربا تطورًا بارزا للفنون. فقد طوّرَ رسامو النهضة مفاهيم ودراسات حول الظل والنور في لوحاتهم، وبدا هناك ميلٌ لتمثيل أحداث الحياة اليومية تمثيلا واقعيًّا بعيدا عن الأساطير والميثولوجيا الإغريقية القديمة. وهذا بدوره ما مهد لظهور أولى مدارس الفن الحديث وهي الواقعية. وقد ظهرت الواقعية بمفهومها الحالي منذ منتصف القرن التاسع عشر ونقلت المدرسة أحداثا واقعية بصدق دون تصنع أو مبالغة. لا تتناول الواقعية أي مواضيع خيالية أو شخصيات خرافية أو أحداث دينية.

    
وتعد الواقعية (Realism) أم مدارس الفن الحديث لأنها رفضت الأشكال التقليدية للفنون والآداب التي عفا عنها الزمن بعد عصر الثورة الصناعية؛ فاستبدلت النزعات الخيالية والرسوم الدينية والأسطورية بمشاهد من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، دامجة بذلك بين الفن والحياة. وقد تناولت مُعظم لوحات المدرسة أحداث الحياة اليومية للعمال والفلاحين والمناظر الطبيعية وكل ما يجري في الهواء الطلق ببساطة وواقعية وصدق حتى لو كانت المشاهد غير سارة أو قبيحة.[1]

              undefined

     

أمرٌ آخر يُحسب للواقعية هو أنها أول حركة فنية تتخلص من أسر المؤسسية التي حكمت جميع العصور الفنية السابقة لها. فبعد أن كان الفن حكرا على بلاط الشخصيات الدينية والملوك، والشهرة تقتضي الوصول لسماسرة برجوازيين بعينهم، أصبح الفن حركة مستقلة له أكاديمياته الخاصة ومعارضه المعروفة. ويُعزى سبب قدرة الواقعية على التخلص من أسر المؤسسية إلى انتشار الصحف وأدوات الطباعة عقب الثورة الصناعية، ما ساعد الرسامين على نشر أعمالهم بأنفسهم دون الحاجة إلى وسيط.[2]

             
ويعدّ الرسام الواقعي الفرنسي غوستاف كوربي (1819 -1877) من أوائل الرسامين الذين استغلوا انتشار الطباعة للترويج لأنفسهم، ويعدّ كوربي أيضًا أحد أشهر رواد الواقعية في القرن التاسع عشر. وبالإضافة إليه، يعد الرسام الفرنسي جان فرنسوا ميلي (1814 -1875) واحدا من أكثر رواد الواقعية شهرة. وقد اهتم ميلي بتصوير مشاهد يومية للفلاحين في الريف الفرنسي في الهواء الطلق والمناظر الطبيعية. أضف إليهما الفرنسي إدوارد ماني (1832 -1883) والذي يعدّ حلقة وصل، فقد طور الواقعية ووصل بها إلى الانطباعية، ليصبح بذلك من أشهر رواد الحركتين. 

    

                

لذلك، يُعدّ فهم لوحات الواقعية أمرًا بسيطًا لا يحتمل أي تعقيد. فالمشهد الذي تقدمه اللوحة أشبه بصورة فووتغرافية لحظة القبض على لقطةٍ ما وتخليدها. وفي ما يلي، نقرأ بعض لوحات الواقعية للرسامين السالف ذكرهم قراءة بسيطة لتوضيح أسلوب وفلسفة المدرسة بصورة أوضح.

        

اللوحة الأولى

"كاسروا الأحجار" (The Stone Breakers) للرسّام الواقعي الفرنسي جوستاف كوربي، رسمها في 1849، واللوحة مشهد حقيقي لعاملين بثياب بالية، أحدهما صغير نسيبا على مثل هذا العمل الشاق، والآخر كبير يضرب بالفأس في الحجر. تُركز اللوحة على حالة المشقة التي يُكابدها العاملان في سبيل كسب قوتهما. عندما عُرضت اللوحة للمرة الأولى كانت بمثابة نبرة إشمئزاز من كوربي ضد الأورستقراطيين والطبقة العليا لصالح العمال والفلاحيين والفقراء.[3]

     

undefined

           
وقد وصف الفيلسوف الفرنسي الاشتراكي بيير جوزيف برودون (1809 -1865) اللوحة بأنها أيقونة لمعاناة الريفيين. وعموما، تدور معظم لوحات كوربي حول أحداث الحياة اليومية للشعب الفرنسي. وقد صورت العديد من لوحاته مشاهد حقيقية لأغراض سياسية. كما أن لوحاته كانت أشبه بصرخات احتجاج تطالب بالعدل والرحمة والمساواة.

     

اللوحة الثانية

"حظيرة الخراف" (The Sheepfold) للرسام الواقعي الفرنسي جان فرانسوا ميلي؛ رسمها في 1860، وهي مشهد ليلي حقيقي لراعي غنم يقود خرفانه إلى البيت فيما يُلقي القمر ضوءا ساحرًا على امتداد السهل. واللوحة معروضة الآن في متحف "ذا والترز" (The Walters).

            undefined

         

وقد سُئِل ميلي مرّة عن لوحة حظيرة الخراف فرد قائلًا: "أوه، أود لو أجعل من يشاهدون لوحتي يشعرون بقدر عظمة وروعة تلك الليلة! لو أنني أقدر على جعل الناس يسمعون صوت الأغاني، صوت الصمت وحفيف الهواء. هذه هي الأبدية حقًا."[*]

     

اللوحة الثالثة

"بار في فولي بيرغير"[**] (A Bar at the Folies-Bergère) للرسام الانطباعي الفرنسي إدوارد ماني، رسمها في 1882، وتصور مشهدا حقيقيا لنادلة البار في فولي بيرغير. وقد عُرضت اللوحة للمرة الأولى في صالون باريس في 1882، قبل وفاة ماني بعامٍ واحد.[4]

        undefined

   

أثارت اللوحة موجه من النقد وسط  النُقّاد والمشاهدين لأنها كانت بمثابة تحدٍّ أخلاقي للمجتمع الفرنسي. إذ قيل إن الملهى، بالإضافة إلى عروض السيرك والرقص، يُسهل الدعارة بين النادلات والزبائن.[5] ونجد في أقصى يمين اللوحة أن ماني قد صوّر نادلة من الظهر، ما أخفى هويتها، تتفاوض مع أحد الزبائن يظهر وجهه كاملا.

       
بالإضافة إلى الجدل الأخلاقي، أثارت اللوحة جدلا علميا بسبب لغز بصري مُحير. فالنادلة التي تظهر بوجهها خلف البار في منتصف اللوحة تقف أمام مرآه تعكس الصالة أمامها بكل ما فيها. بالتالي فإن النادلة التي أعطت ظهرها للرائي تكون إنعكاسا للنادلة الرئيسية في المرآة، ويكون الرجل الذي يتفاوض معها، بدوره، انعكاسا لشخص غير موجود أمام المرآة!

       
فإذا كانت المرآه تعكس نادلة تتفاوض مع سيد أورستقراطي عن قضاء ليلة معه؛ وإذا كان لا يوجد أمام المرآه إلا نادلة والسيد لا يظهر، فأين الرجل الذي يظهر إنعكاسه في المرآة؟ الحقيقة أن ماني لم يترك لنا مساحة للهرب من المأزق الأخلاقي الذي تفرضه اللوحة. فالرجل الذي يظهر انعكاسه في المرآة هو بالضرورة الرائي المُشاهِد للوحة. والرائي للوحة هو بالضرورة المجتمع الفرنسي ذاته![6]

    

الانطباعية وما بعد الانطباعية التطور نحو النفس من الداخل

برزت الانطباعية وما بعد الانطباعية (Impressionism and Post – impressionism) كحركتين فنيتين في فرنسا في القرن التاسع عشر. وقد اهتمت الإنطباعية برسم المشاهد حسب إنطباع الرسام عنها. وقد اعتمد الإنطباعيون على مشاهد الحياة اليومية أو اللحظات العابرة كمصدر للإلهام عوضًا عن الأساطير والروايات التاريخية.ويأتي هذا بحكم تطوّر الحركتين من الواقعية أيضًا.

      
بالتالي، فإن معظم لوحات المدرسة الانطباعية تنقل مشاهد الحياة اليومية، مثلها مثل الواقعية، ما جعل لدرجات الضوء والظل دورا رئيسيا في اللوحات. تميزت لوحات المدرسة أيضًا بضربات حادة ومتقطعة للفرشاة، واستمدت الانطباعية اسمها من لوحة "انطباع "شروق الشمس" (Soleil Levant) للرسام الفرنسي كلود موني (1840 -1926) والتي انتهى منها في 1872.[7]

        

       

ظهرت ما بعد الانطباعية مختلفة مع الانطباعية في بعض المبادئ. فقد رفض رسامو ما بعد الانطباعية تركيز الانطباعيين على اللحظات العفوية لمشاهد الحياة اليومية. من ثمَّة، تحول رواد ما بعد الإنطباعيية للرسم بحس مِن الرمزية للتعبير عن عمق الحالات النفسية والمشاعر الشخصية في مواضيع اللوحات.[8] وتعدّ لوحات الرسام الهولندي فنسنت فان جوخ (1853 -1890) والفرنسي بول سيزان (1839 -1906) مِن أبرز أعمال ما بعد الانطباعية.

          
لذلك يمكن حصر الفرق بين الانطباعية وما بعد الانطباعية في ميل الثانية إلى التركيز على الحالات النفسية والقضايا الإنسانية عوض تركيز الأولى على مشاهد الطبيعة اليومية، بالتالي جاءت لوحات الثانية متكلفة أحيانًا. لكن رواد هذه الحركة اهتموا أيضًا بالألوان الواضحة مع إظهار الزوايا الحادة للأشكال، مثل الإسطوانة، المربع، الدائرة والمخروط؛ ما مهد لظهور مذاهب أخرى، مثل التكعيبية والوحشية بعد ذلك. ونعرض في ما يلي بعض لوحات للأولى والثانية.

     

اللوحة الأولى

"انطباع شروق الشمس (Soleil Levant) ولتي أعطت المدرسة اسمها، للاطباعي الفرنسي كلود موني ورسمها في 1874. تصوّر اللوحة شروق الشمس على ميناء لوهافر الفرنسي وهو مسقط رأس موني. اللوحة عبارة عن مشهد ضبابي لبعض قوارب الصيد الصغيرة والبواخر والشمس وإاعكاسها البرتقالي على صفحة الماء. وتظهر في اللوحة أبرز تقنيات المدرسة الانطباعية في الرسم، وهي ضربات الفرشاة الحادة المتقطعة.

          undefined

   

اللوحة الثانية

"ليلة مليئة بالنجوم (Starry night) للرسام ما بعد الإنطباعي الهولندي فنسنت فان جوخ. وقد رسمها في 1889 من شباك غرفته في المصح العقلي في مدينة سان ريمي دي بروفنس.[9] وعلى الرغم من أن اللوحة مشهد ليلي للمدينة، فإن جوخ رسمها نهارا بالكامل من ذاكرته عن الليل.

                undefined

   

وتعدّ اللوحة إحدى أشهر الأيقونات التاريخية عن الليل لأن فان جوخ رسم السماء والنجوم بكيفية متخيلة غير واقعية. فالسماء في اللوحة أقرب إلى رسم تخطيطي لمجرة الزوبعة، التي رسمها الفلكي البريطاني ويليام بارسونز قبل 44 عاماً من رسم فان جوخ للوحة.[10]

        

اللوحة الثالثة

"لاعبو الورق (The Card Players) للرسام الفرنسي بول سيزان وهي واحدة من سلسلة لوحات تحملُ الاسم نفسه، وقد رسم هذه اللوحةَ في 1892. وتصور جميع لوحات السلسلة عددًا من أهالي المقاطعات الريفية يلعبون الورق في ملابس حديثة مدخنين سجائر وغليون. يُركّز لاعبو الورق عيونهم على الورق، وعلى عكس لوحات لعب الورق السابقة، لرسامين آخرين، التي كانت تصوِّر اللعب في جوٍّ من الصَّخَب والغوغائية، تظهر لوحات سيزان مفتقرة إلى محتوى سردي قوي، مُرَكِّزة على حالة التركيز والهدوء فقط.

              undefined

    

ولاتزال مدارس الفن ومذاهبه في تمدد وتشعب حتى اليوم، وما أتينا على ذكره هنا مجرد اثنتين من أبرز المدارس الفنية. يساعدنا كل مذهب ومدرسة منها على رؤية العالم والتعامل منه من منظور مختلف. كل مذهب منهما له أسلوبه الخاص في مسِّ دواخلنا، معالجة حُزننا وإشعال حماستنا إذا لزم الأمر.

_____________________________________________________

   

(*): "Oh, how I wish I could make those who see my work feel the splendors and terrors of the night! One ought to be able to make people hear the songs, the silences, and murmurings of the air. They should feel the infinite." – Millet

(**): ملهى ليلي في العاصمة الفرنسية باريس

المصدر : الجزيرة