شعار قسم ميدان

وجه أميركا البشع.. كيف صورته لوحات جينسبورغ؟

ثمانية عشر مليون شخص لقوا حتفهم في حرب عالمية مدمرة[1] ثم لقي أكثر من ستين مليون حتفهم في حرب عالمية ثانية[2] ثم بعد ذلك بعدة سنوات؛ لقي ثلاثة وعشرون مليون إنسان حتفهم في مائة وثمان وثلاثين حربا في الفترة ما بين عامي 1945 و1989[3] ولا يزال إزهاق الأرواح الإنسانية في ازدياد.

ورغم أن تلك الأرقام كانت كفيلة بتعليم الأحياء عشرات الدروس. فإن الحروب على ما يبدو تتجه نحو مزيد من التصعيد ومزيد من حصد البشر. هنا يمكننا السؤال ما إن كان هناك أمل يلوح في الأفق، يسعنا  أن نرنو إليه في مواجهة آلة القتل تلك التي لا تتوقف؟

ترى الكاتبة والباحثة التونسية  الدكتورة أم الزين بن شيخة المسكيني، والمختصة في فلسفة الجمال، في كتابها "الفنّ يخرج عن طوره"، أنه ربما استطعنا التعويل على الفن بوصفه ميدانا للأمل والرجاء. فالعمل الفني لا ينبغي بالضرورة أن يكون بهدف إسعاد المُتلقي. الفن ليس لمجرد الفُرجة السطحية البلهاء ولا للمُتعة الساذجة، فالعمل الفني، تشكيليا كان أو شعريا أو غنائيا… إلخ، يمكن أن يكون -على حدّ عبارات دريدا- "تلسكوبا هائلا لحدث فظيع"، فظيع كأن يلقى أكثر من مائة مليون إنسان حتفهم في حروب القرن العشرين.

وهذا بالتحديد ما قاد الرسام الأميركي ماكس جينسبورج -من مواليد 1931- للتركيز على فكرة الحروب والمظالم الاجتماعية في لوحاته، محاولة منه لاستكشاف المآسي المحدقة بالنفس البشرية بشكل يومي، هذا ما خلفته الحروب: أحزان وأوجاع ويتم وتشرّد ووأد لأحلام الناس.

يضع جينسبورج الإنسانية واللاإنسانية كلتيهما محور اهتمام كبير في فنه، فيركز في مجمل لوحاته على البشر كشذرات مبعثرة في عالم المدينة الحديثة. وغير عالم المدينة وويلات الحروب، يضع جينسبورغ عين المشاهد على المكسورين والمحطمين والمهمشين والفقراء.

ويرى المتابع لأعمال جينسبورج أن اللوحات لا تحيد أبدا عن الواقعية، ويبدو أن الرسام فضل الانتماء للواقعية المؤلمة بديلا عن الواقعية السحرية، فعوضا عن مشاهد البهجة والسعادة، حتى لو كانت حقيقية، يركز على الوجع والحزن والهشاشة والانكسار باعتبارهم أكثر تعبيرا عن الإنسان الحديث.

وماكس هو ابن رسّام البورترية الأميركي إبرهام جينسبورغ الذي عمل في صناعة السينما في الفترة من 1925 وحتى 1929. وقد ركز والده على تعليمه الرسم ودعمه في النمو بموهبته، فدرس ماكس الموسيقى والفنون في المرحلة الثانوية ثم انتقل إلى جامعة سيراكيوز لدراسة الفن التشكيلي[4]

ويسلط ماكس جينسبورغ في مجمل لوحاته الضوء على قضايا التمييز العرقي، حياة الشوارع اليومية الطبيعية، الفروق الطبقية الاجتماعية، مآلات الحروب الأميركية حول العالم، مظاهر الفقر الحاد في المناطق الحضرية وفي حياة الطبقة الوسطى العاملة، كل ذلك بأسلوب واقعي لا يكاد يخلو من إحساس بالشفقة على الحالة اللاإنسانية التي يعيشها أولئك الأشخاص[5]

ففي لوحته "شفقة الحرب"[6] عام 2007، يقدم جينسبورغ صورة مُقربّة لامرأة تحتضن رجلا يحتضر أو مات بالفعل. في اللوحة لا نفهم من هي المرأة أو العلاقة التي تربطها بالرجل، فكل ما يركز عليه الرسام هو صرخة المرأة التي تتكبد حسرة الفراق.

undefined

في اللوحة قدم جينسبورغ مشهدا قريبا شبيها بالعذراء التي تضم ابنها إليها، يتضح ذلك من غطاء الرأس الذي ترتديه. كما أن الرجل يحتضر أو قد يكون ميتا دون ملابسه كالمسيح؛ في إشارة من الرسام لأن الكل على اختلاف عقائدهم وأزمانهم يصلبون لكن بطرق مختلفة.

ففي لوحة أخرى؛ يقدم جينسبورغ مشهد تعذيب أحد المعتقلين في سجن "أبو غريب" في العراق على يد جنود الجيش الأميركي في واحدة من أكثر لوحاته إثارة للرعب والألم. واللوحة التي عُرضت بعنوان "التعذيب في أبو غريب" عام 2007؛ تحمل وجها شبيها بالمسيح المُعلق على الصليب.

في اللوحة؛ نرى التصوير الواقعي جدا لحالة تعذيب أحد المعتقلين على يد القوات الأميركية، لكن جينسبورغ صور الضحية في وضعية المسيح نفسها مصلوبا على قضيب حديدي ويداه مفرودتان والدماء تسيل من حوله بالإيقاع البصري نفسه.

تم إخفاء بعض عناصر اللوحة من قِبَل إدارة الموقع
تم إخفاء بعض عناصر اللوحة من قِبَل إدارة الموقع

وفي غير تلك اللوحات؛ يُفسح جينسبورغ المجال لفكرة النفوس التي استعصى عليها التأقلم مع عالم المدينة الموحش وقسوته وقدرته التدميرية، فنرى في لوحات مثل "البيت المرهون" (foreclosure)، عرضا واضحا لرؤية جينسبورج لعالم المدينة.

فجميع التفاصيل في اللوحة تقدم قصة موجزة عن حال أسرة أميركية شُرد أهلها بعد رُهن منزلهم، وفي اللوحة نرى عددا من الأفراد تتملكهم الحسرة والصدمة؛ ما بين الأم المرضعة والطفلة الصغيرة التي تحمل أرنبا وتحتمي بأبيها وبقية الأفراد الذين يعجزون عن استيعاب ما حدث.

وقد استوحى جينسبورغ فكرة اللوحة من مأساته الشخصية حين خسر هو وأسرته منزلهم في فترة الكساد العظيم بُعيد الحرب العالمية الثانية، ثم انتقل بعد ذلك معهم للعيش في منزل جده في أحد الأحياء البسيطة؛ مما فتح له النافذة لتصوير حياة الطبقات الفقيرة والكادحة في لوحاته[7]

وبالرغم من أن جينسبورغ كان في ريعان شبابه مُحاطا بأواسط ونخب فنية تميل للتجريدية كأحدث صيحات الفن الحديث، فإنه ظل ملتزما التزاما صارما بالواقعية؛ معتبرا أن شخوص الحياة الواقعية هم الأبطال الحقيقيون في ملحمة الحياة.

undefined

لذلك، فإن فكرة الحروب والإمبريالية الأميركية وعالم المدينة القاسي بوصفه هو الآخر ساحة حرب نجدها دائمة الحضور في لوحات جينسبورغ، ثم يعيد ربط تلك التيمة/الفكرة بالعذاب الذي عاشه المسيح وعاشته العذراء بحس كلاسيكي شديد الواقعية وأقرب ما يكون للواقعية الاجتماعية.

وجينسبورغ يحاول بذلك أن يُخلد لحظات صراخ المُعذبين والمظلومين والمشردين، يُخلدها للأبد؛ لعل أنينهم يصل إلى قلوب عليها أقفالها. فإذا لم يكن الفن قادرا على تغيير العالم؛ فهو على الأقل قادر على مواجهته بحقيقته السوداوية المرعبة.

ويرى الناقد الفني كريس هيدجيس في كتابه "وفاة الطبقة الليبرالية" صفحة رقم 113 أن عالم اليوم لا يحتاج لمزيد من سلطوية النخب الفنية؛ بل يحتاج للواقعية التي على حد قوله: "تعطي الناس لغة يمكنهم بواسطتها فهم أنفسهم وفهم المجتمع.[8]

وهو الأمر الذي يُحسب لجينسبورغ باعتبار أن لوحاته تعمل من هذا المنطلق. ففي لوحته "محطة الحافلات" Bus Stop) 2010)؛ يصور الرسام عددا عشوائيا من الأشخاص المبعثرين في انتظار الحافلة، امرأة تتناول القهوة سريعا قبل الذهاب إلى العمل، رجل يحمل طفلته، امرأة مسنة ترتدي قبعة شمسية، رجل يدخن سيجارة مع صحيفة تحت ذراعه، وآخر يتحامل على عكاز.

 البشر في عالم المدينة -حسب لوحات جينسبورغ- يعيشون حالة من التفكك الواضح، لا يجمعهم سوى مأساتهم المشتركة وهي عالم المدينة القاسي. فلا نرى في اللوحة أن أي شخص يتطلع نحو الآخر أو يدور بينهم حديث، فقط أشخاص مبعثرون بشكل عشوائي.

undefined

ورغم تلك البعثرة؛ تظهر اللوحة أقرب لعمل مسرحي منظم بطريقة سينمائية تعطي إحساسا بالحركة في اللوحة التي تعتمد على مجموعة من الألوان الحية المشرقة، فالشخصيات المتناثرة تشتبك في مساحة اللوحة في حدث مسرحي درامي يومي رفيع.

وعن اللوحة؛ تقول الناقدة الفنية سارة ساترو: "بالنسبة إلى كل من يهتم بنيويورك؛ فإن لوحات مثل "محطة الحافلات" تجسد الطريقة التي نعيشها بها الآن. وكما يقول جينسبورغ: "لكي ترسم الناس في نيويورك؛ عليك أن تكون واقعيّا ورحيما.[9]

التمثيل الواقعي جدا لوحشية الإمبريالية الأميركية التي قدمها جينسبورغ في لوحة "التعذيب في أبو غريب"؛ يُقابله في الداخل الأمريكي تمثيل لوحشية وقهر السلطات الأميركية إزاء الطبقات الفقيرة والأقل حظا، ويظهر ذلك في لوحة "طابور العاطلين" التي تعود للعام 2013.

ونرى في اللوحة طابورا لعدد من العاطلين مرسومين في خط أفقي، فيما يتقدم اللوحة رجل أمن في خط عمودي يقف مع كلب ينبح على العُزّل يفصلهم سياج خشبي مكتوب عليه "سياج الشرطة"، وتعطي اللوحة طابع طوابير الهولوكوست في ألمانيا النازية رغم اختلاف الحقب الزمنية.

undefined

ويستخدم جينسبورغ تيمة الهولوكوست في إشارة منه أن حريتهم كمواطنين عاديين مهددة وأنهم رهائن لحالة البطالة والفقر والعوز، و"طابور العاطلين" -كبقية لوحاته- هي تحدٍ فني للواقع السياسي الراهن، إذ يكشف في لوحاته عن الوجه القبيح للنظام الأميركي في الداخل والخارج.

ويرى جينسبورغ أن الرسم الرديء -في إشارة منه إلى انتشار التجريدية- كان يسمى إبدعا في منتصف القرن الماضي، وأن المدرسة الواقعية ما فتئت في التراجع بحكم آلة الدعاية والبروباجندا التي استندت عليها التجريدية. ففي الوقت الذي كانت تحتل فيه لوحات التجريدية وجهات معارض الفن الحديث؛ كان جينسبورغ يعرض أعماله في اتحادات العمال[10]

"الحرب والسلام، العدالة والتمييز العرقي، الأوضاع الإنسانية اليومية التي أراها في شوارع نيويورك يوميا، تلك هي القضايا التي أهتم بها"[11]

                               (ماكس جينسبورغ)

يتناول جينسبورغ في لوحاته أزمات المجتمع الأميركي المعاصر وحجم السلطوية والقهر النافذ في الداخل والخارج، كما يركز على معاناة الطبقات العاملة والوسطى والمهمشين والفقراء بأسلوب واقعي اجتماعي. وقد نالت تبعات الحرب على العراق اهتمامه؛ فرسم التعذيب الوحشي الذي تعرض له المعتقلون في "سجن أبو غريب".

حتى قال الناقد الفني كريس هيدجيس في كتابه "وفاة الطبقة الليبرالية" واصفا الفلسفة الكامنة وراء لوحات جينسبورغ: "بما أن المجتمع بدأ يشعر بالآثار المدمرة للفروق الطبقية الناجمة عن نهب نظامنا المالي والافقار المتسارع للطبقات العاملة والطبقات المتوسطة، فلا أمل لنا دون اتصال مباشر مع المعوزين والمعدمين، وسيستند النمط الأخلاقي الجديد في التعامل على حقائق واقعية؛ لأننا سنشهد بأعيننا على ألم ومعاناة تجعلنا نلتزم التزاما لا هوادة فيه بحرمة الحياة.[12]