شعار قسم ميدان

كيف نعالج مشاكلنا الأسرية عبر الفن؟

midan - art

هل يكون الرسم أحد وسائل التخفيف من آلامنا النفسية؟ ربما. فعلى مدار القرن العشرين استخدم عشرات علماء النفس الرسم كوسيلة للعلاج النفسي وأحيانا لمّ شمل الأسرة. فالرسم في النهاية إحدى وسائل التعبير والتواصل.[1]

   
والمقصود هنا ليس رسم لوحات عالمية للمتاحف، ولا أن يكون الرسم عن موهبة، بل كمجرد وسيلة من وسائل التعبير الإبداعي، قد يستطيع الإنسان بها التغلب على قيود اللغة. كما يمكن التعبير بالرسم والتلوين عن الأمور المربكة التي لا تستطيع تجاوز حجر عثرة اللغة.[2]

 
اليوم، صار العلاج باستخدام الفن النهج الأكثر فعالية في علاج العديد من القضايا الأسرية. السبب في ذلك أن هذا النمط من الفاعليات الفنية له مزايا مدهشة يمكن تحقيقها ببساطة دون الحاجة إلى موهبة في الرسم.[3] .
 

فتيسير القدرة على التواصل دون الحاجة إلى كلمات يُمكّن أفراد الأسرة من معالجة وتجاوز الأمور الأكثر تعقيدا أو الصدمات المدمرة، ودون موهبة فنية أو خبرة، يمكن تحقيق أقصى قدر من النجاح وفقا للجمعية الأميركية للعلاج بالفن.[4]

 

 

ويقول الدكتور عوض مبارك اليامي، عضو عامل في الجمعية الأميركية للعلاج بالفن التشكيلي بالولايات المتحدة الأميركية، وحاصل على الدكتوراه في العلاج بالفن التشكيلي من جامعة ولاية بنسلفانيا:
"إن العلاج بالفن التشكيلي يخدم فئات متعددة من أمثال الفئات الخاصة وذوي الاضطرابات النفسية والذين هم بحاجة إلى التعبير عن الأحاسيس والمشاعر مستخدمين في ذلك الصور الذهنية أو الفن التشكيلي الملموس الذي يتفق الجميع على أنه طريق لإسقاط محتوى النفس وجوهرها وفي ذلك تنفيس وارتياح لممارس الفن التشكيلي".[5]

 

وتُعرّف الجمعية البريطانية للمعالجة بالفن العلاج بالفن: "بأنه شكل من أشكال العلاج النفسي الذي يستخدم الوسائل الفنية كوسيلة أساسية للتواصل، ويمارسه كل من المؤهلين والمسجلين والمعالجين الذين يعملون مع الأطفال والشباب والبالغين وكبار السن".[6]

 
ووفقا للجمعية، فإن العلاج بالفن يُسهّل التواصل مع أشخاص ربما يكون لديهم مجموعة واسعة من الصعوبات والإعاقات. ويشمل هذا على سبيل المثال مشاكل الصحة العاطفية والسلوكية أو النفسية، والتعلم أو الإعاقة الجسدية.
كما يمكن تقديم العلاج بالفن للمجموعات أو الأفراد اعتمادا على احتياجاتهم الخاصة. كما أن هذا النمط من العلاج لا يعتبر نشاطا ترفيهيا أو درس رسم بالرغم من أن جلساته ربما تكون ممتعة. والأجمل، أن عملاءه لا يحتاجون إلى أي خبرة سابقة في الرسم أو اطلاع وحصيلة معرفية فنية.


تلوين المشاعر

حسب الطبيبة النفسية تايلور ليسور، في مقالها البحثي المنشور عن مؤسسة "برنامج علم النفس الإيجابي" (Positive Psychology Program)، في هولندا، هناك عدد من الأنشطة الأسرية للتعامل مع الغضب والحزن والعلاقات المُفكّكة خاصة بين الأطفال والمراهقين.[7]

  

ويأتي على رأس تلك الأنشطة اجتماع الأسرة في جلسة عائلية يرسم فيها كل فرد في ورقة بقية أفراد الأسرة، وطبعا دون حاجة إلى معايير الدقة الجمالية، ستعكس الرسومات الصورة التي يرى فيها كل فرد الآخرون. خاصة أن الألوان نفسها ستعكس مشاعر كل فرد، السلبية في ألوان معتمة، والإيجابية في ألوان مبهجة.[8]

  

تعكس الرسومات الصورة التي يرى فيها كل فرد الآخرون،خاصة أن الألوان نفسها ستعكس مشاعر كل فرد
تعكس الرسومات الصورة التي يرى فيها كل فرد الآخرون،خاصة أن الألوان نفسها ستعكس مشاعر كل فرد
 

ووفقا للمقال نفسه، يمكن للأسرة استخدام "بطاقات بريدية" مصنوعة منزليا في التعبير عما يطمحون إليه من بعضهم البعض. فالبطاقة الحمراء قد تعني حياة مليئة بالإثارة مثلا. كما يمكن إرفاق تلك البطاقات الملونة ببعض الكلمات أو البالونات أو الزهور أو أي عنصر من شأنه المساعدة في توضيح مشاعرنا.[9]  

    

نشاط آخر هو النحت. في هذا النشاط يقوم أفراد الأسرة بتشكيل تمثال من الطين لكل فرد من أفراد العائلة، الأم الأب الأشقاء، أو أي شخص مُقرّب من العائلة، لاستكشاف الديناميكيات العاطفية والأدوار داخل عائلتك.[10]
وترى الطبيبة النفسية الأميركية، كاثي مالشيودي، الحاصلة على درجة الدكتوراه في العلاج بالفن، حسب مقالها المنشور في مجلة "سيكولوجي توداي" (Psychology Today)، أن التواصل غير اللفظي بين أفراد الأسرة، وحتى خارج الأسرة، يساهم في تطور الدماغ.[11]  

  

ووفقا لمالشيودي في المقال نفسه، تُعرَف الفنون الإبداعية في مجال الإرشاد بأنها ذات طابع قصصي وتريد توصيل رسالة. والعلاج القصصي يعرف تاريخيا بأنه نهج يخوّل للأفراد اكتساب المهارات اللازمة لخلق علاقات إنتاجية وصحية لأنه يساعدهم على التواصل مع أنفسهم ومحيطهم في المقام الأول.[12]

 

فالفنون الإبداعية يمكن استخدامها بهدف تعزيز العلاقات الإنسانية أسرية كانت أو غير ذلك. وهنا، يكون التعبير عن الذات من خلال التجارب البصرية الملموسة ذات مردود نفسي هائل على أطراف جلسة العلاج لأنها تحفز الشعور بالانتماء. بذلك، تصبح الفنون الإبداعية هي وسيلة لتجربة علاقة آمنة في عائلات ومع أفراد لم يعرفوا ما الأمان.[13]

 

الشفاء وتعزيز الرغبة في الحياة

يستند العلاج بالفن إلى فكرة أن العملية الإبداعية، كشكل من أشكال التواصل غير اللفظي، تستطيع التعبير عن الأفكار والمشاعر. ومثل غيره من أشكال العلاج النفسي، يستخدم الفن لتشجيع النمو الشخصي، وزيادة الفهم الذاتي، والترميم العاطفي للأفراد الذين يستشكل عليهم طلب المساعدة لفظيا. هذا وفقا لكتيب مالشيودي "كُتيب العلاج بالفن" (The Handbook of Art Therapy).[14]

  

يستخدم الفن لتشجيع النمو الشخصي وزيادة الفهم الذاتي والترميم العاطفي للأفراد الذين يستشكل عليهم طلب المساعدة لفظيا
يستخدم الفن لتشجيع النمو الشخصي وزيادة الفهم الذاتي والترميم العاطفي للأفراد الذين يستشكل عليهم طلب المساعدة لفظيا
 

وحسب الكُتيب نفسه، فالمهم هو المشاركة الجماعية في العمل الفني، عبر جلسات دورية يتم فيها اختيار وتسهيل الأنشطة الفنية التي تقتضي مساهمة كل أفراد المجموعة. من ثم تصبح عملية المشاركة الجماعية نفسها طريقة الأسرة في حل المشكلات وتناولها من جميع الجوانب.[15]

 
لذلك على الأسرة، بعد استعراض مجمل الإنتاج الفني في الجلسة الواحدة، طرح أربعة أسئلة رئيسية تتمكن بموجبها من فهم ما وصلوا إليه، تلك الأسئلة هي: ما المشكلة، وما الذي يستشعره الرائي من الصورة المعبرة عن تلك المشكلة، وما المشاعر التي سيطرت على الشخص الذي رسم الصورة أثناء الرسم، وما الواجب فعله الآن.[16]

 

وعادة ما تعكس الأعمال الجو الأسري الصحي أو الجو الأسري المختل. وفي حالات عدة تعكس الأعمال حتى المخاوف من إساءة محتملة إن لم تكن قد وقعت بعد. لذلك، يُفضل أن تُعطى كل عائلة موضوعا واحدا للرسم عنه لاحقا.[17]
الرأي نفسه تؤيده مستشارة العلاج بالفن، د/ ميشيل ستانجلين، حيث إن إعطاء فرض موحد لكل أفراد الأسرة للعمل عليه هو أمر ضروري لفهم صورة العائلة في خيال كل فرد من أفرادها. وقد يستغرق هذا الفرض جلسة أو جلستين فلا داعي للاستعجال حتى يضع كل فرد مشاعره على الورق.[18]

 

عادة ما تعكس الأعمال الجو الأسري الصحي أو الجو الأسري المختل  (مواقع التواصل)
عادة ما تعكس الأعمال الجو الأسري الصحي أو الجو الأسري المختل  (مواقع التواصل)
 
بمجرد الانتهاء من الفرض تأتي مرحلة التحليل والنقاش من أجل العلاج. في تلك المرحلة، وفقا لستانجلين، يُطلب من كل فرد السماح لبقية الأفراد بالاطلاع على رسوماته، ثم يُطرح السؤال لماذا رسمت فُلان بهذا الشكل ولماذا استخدمت تلك الألوان في تلوينه![19]
  
وتلفت دكتورة سانجلين النظر إلى أمر مهم وهو أن المساحات بين أجسام الأفراد المرسومة تعكس حجم الترابط أو التفكك الأسري الذي تعايشه الشخصيات. فيجب عدم إهمال المنظور والمساحات والألوان والأحجام لأنها هي الرسالة التي تحملها الرسمة.[20]
 
وترى ستانجلين، في المقال نفسه، أن وقوف فرد معين بجوار الأب والأم في معظم الأعمال قد يكون رسالة مفادها أن الأبوين يصبون كامل اهتمامهم على ذاك الفرد دون الآخرين، وأن ترتيب الأشقاء في الوقوف هو في ذاته انعكاس لحجم الرعاية التي ينالونها من الأبوين.
 
الشاهد، يُعزز استخدام الأعمال الإبداعية كمنهج علاجي فرصة أكبر لسبر أغوار النفس البشرية. كما أن استخدام الفن التشكيلي في علاج المشاكل الأسرية ييسر سبل التواصل بين أفراد يعجزون عادة عن الكلام فيما بينهم.

كذلك، يُميّز هذا المنهج العلاجي عن غيره، وفقا للدراسات والأوراق البحثية السالف ذكرها في هذا التقرير، أنه يستجيب لجميع الفئات العمرية تقريبا دون عوائق مثل مستوى ثقافة كل فرد على حدة.