شعار قسم ميدان

"مثلي الجنس والموناليزا رجل!".. أبرز التفسيرات العجيبة لأسرار دافنشي

ميدان - موناليزا

في الثاني من مايو/أيار 1519، توفّي ليوناردو دافينشي عن عمر ناهز السابعة والستّين في منزل صغير بمزرعة في وادي اللوار، كان قد أقطَعُه إيّاه الملك فرانسوا الأول، ملك فرنسا. ودُفِن على مقربة من الكنيسة في قلعة أمبواز التي دُمّرَت في مطلع القرن التاسع عشر. بعد عقود من التنقيب، اكتُشفت عظام يُعتقَد أنّها عظام ليوناردو. وكان هناك نقش على القبر يشير بعناية إلى أنّ ما يحويه القبر ما هو إلّا "الرفات المفترَض" للفنّان. إنّ الاعتراف بوجود شكوك حول ماهية محتوى القبر علامة على صراحة غير مألوفة، فمن غير المعروف عن عشّاق ليوناردو ضبط النفس، ويكفي أن تُلقيَ إليهم بلغز صغير مع هامش للمناورة حتى تشهدَ توالُدَ النظريّات العديدة التي تحاول تفسير اللغز.

    

بعد مرور نصف ألفيّة على وفاته، بتنا نرى عددا هائلا من الأبحاث العلميّة حول ليوناردو وما زالت في تزايد حتى الآن. من التطوّرات الجديرة بالذكر إعادة اكتشاف لوحة ليوناردو "سالفاتور مندي" (مُخلّص العالم)، وترميم لوحته "عشق المجوس"، واكتشاف وثيقة توضّح بعض الشكوك حول الموناليزا. إلّا أنّ حياةَ ليوناردو وأعماله كانوا منذ أمد بعيد مادّة للتكهّنات؛ ولّدت لدينا "نظريّات عجيبة وخيالا جامحا"، كما يصفها مارتن كيمب، الأستاذ المتفرّغ في قسم تاريخ الفنّ بجامعة أوكسفورد وأحد أهمّ العلماء المختصّين في دراسات ليوناردو.

  

قال لي كيمب مؤخّرا: "لقد أُمطِرتُ بوابل من الأفكار التي تتناول ليوناردو، تراوحَت بين الفُكاهة والجنون". من بين هؤلاء الذين طرحوا تلك الأفكار علماء في الأعصاب وأطبّاء أسنان وأطبّاء عيون وفنّانون ومصوّرون ومختصّون في علم النفس وفي علم الأمراض وفي مورفولوجيا الأرض، بل حتّى بعض مؤرّخي الفنّ.

    

ليوناردو دافينشي (مواقع التواصل)
ليوناردو دافينشي (مواقع التواصل)

   

ويصف كيمب دان براون، مؤلّفَ رواية "شفرة دافينشي"، بأنّه الأب الروحيّ لبعض تلك التكهّنات التي أحاطت أعمال دافينشي؛ ويقول كيمب عن ذلك: "إنّه مسؤول عن تلك الفكرة القائلة إنّ هناك رموزا ورسائلَ خفيّة وهندسات غامضة وكلمات ملتبسة وأرقاما سرّيّة في اللوحات المرسومة في عصر النهضة. تستمع كارمن بامباخ، وهي أمينة قسم الرسومات والمطبوعات في متحف المتروبوليتان للفنون، ومؤلّفة دراسة من أربعة مجلّدات تصدر قريبا بعنوان "إعادة اكتشاف ليوناردو دافينشي"، إلى مُريدي ليوناردو مرّة أسبوعيا على الأقل. وتعطينا مثالا أخيرا على ما استمعت إليه، فتقول: "قال رجلان إنّهما رأيا في أوّل لوحة موقّعة من ليوناردو، وهي لوحة "وادي أرنو" لعام 1473، أفيالا وجِمالا وطيورا في الخلفيّة الطبيعيّة للوحة. أثنيتُ على حبّهما لليوناردو، لكني قلت لهما إنّه لا أفيالَ ولا أيَّ حيوانات أخرى في اللوحة".

 

إحدى أوسع النظريّات انتشارا حول ليوناردو تتناوَل شخصيّة يوحنّا الرسول، بملامحه الأنثويّة الغامضة، في لوحة "العشاء الأخير". فكرة النظريّة هنا، والتي تتوازى مع اكتشاف روبرت لانغدون في رواية براون "شفرة دافينشي"، الشخصيّة الخياليّة التي تعمل "أستاذا لعلم الرموز" في جامعة هارفارد، هي أنّ ليوناردو لم يرسم يوحنّا الرسول، وإنّما رسم مريم المجدليّة؛ وأنّ سلطات الكنيسة شنّت حملة على مدار قرون للتغطية على العلاقة الحميميّة بين المسيح ومريم المجدليّة. على حد عِلمي، لا يوجد باحث شهير يدعم هذا التفسير للوحة "العشاء الأخير". بالطبع قد تكون المؤسسة الفنّيّة مشاركة في المؤامرة.

 

ليس من المدهش أن تكون الموناليزا مركز اهتمام "الخبراء" غيرِ ذوي الخبرة. فقد زعم كثيرون اكتشاف "الصور الخفيّة" في اللوحة؛ إذ زعَمَ رون بيتشيريللو، وهو فنّان مقيم في نيويورك، في موقعه على الإنترنت أنّه حين نظر إلى اللوحة مقلوبة وتتبّع "أبرز معالم صورتها" استطاعَ تحديد "ما تبيّنَ أنّه رأس أسد ورأس قرد ورأس ثور"، مضيفا: "بالنسبة لي، فإنّ ممّا يساعد على هذا أن يستخدم المرءُ عينا واحدة" وأن يكون المشاهِد "قريبا للغاية من الحافّة اليُسرَى من اللوحة".

   

"الموناليزا" أحد أعظم الأعمال الفنيّة على مر التاريخ (الفرنسية)

   

يزعم سيلفانو فينسيتي، وهو منقّب في تاريخ الفن يدير مركزا في إيطاليا يسمّى "الجمعيّة الوطنيّة لتعزيز التراث التاريخيّ والثقافيّ"، أنّ بإمكانه تمييز حروف دقيقة مرسومة في عين الموناليزا. في العين اليُمنى، مثلا، يتبيّن له حرفا "L" و"V". تقول إدارة متحف اللوفر إنّهم فحصوا اللوحة "بكل سبل الاختبارات المعمليّة الممكنة"، ولم يجدوا أيّ حروف. ربّما كان هذا محبِطا ومخيّبا للآمال؛ فقد كان هذان الحرفان ليجعلا من شركة لوي فيتون (Louis Vuitton) راعيا تجاريا مثاليا.

 

أصبحت المزاعم حول منظر الخلفيّة في لوحة الموناليزا أشبه بصناعة متنامية. في منتصف تسعينيّات القرن العشرين، قال كارلو ستارنازي، أحد علماء الحفريّات في جامعة فلورنسا، إنّ البحيرة في الجانب الأيسر من اللوحة هي بحيرة كيانا، وإنّ الجسر في الجانب الأيمن منها هو جسر بورجانو، وكلاهما قريبان من مدينة أريتسو. كتبَت كارلا غلوري في كتابها "معضلة ليوناردو" (The Leonardo Enigma)، الصادر عام 2010، أنّ الجسرَ في اللوحة يمكن العثور عليه في قرية بوبيو، جنوب بياتشنزا. تعتقد المصوّرة الفنّانة روزيتا بورشيا وأوليفيا نيسكي -المختصّة في مورفولوجيا الأرض بجامعة أوربينو- أنّ موقع الجسر هو منطقة مونتيفيلترو في شمال إيطاليا، إذ يمكن رؤية الجسر من مرتفعات فالماريكيا.

 

في نظر البعض، تُثير الموناليزا بعضَ المسائل الطبّيّة وأسئلة تتعلّق بالهويّة الفيسيولوجيّة. في 2010، أكّد فيتو فرانكو -أستاذ علم الأمراض في جامعة باليرمو- أنّ من المرجّح أن تكون موناليزا -المرأة نفسها ليزا غيرارديني، زوجة فرانشيسكو ديل جيوكوندو تاجرِ الحرير الفلورنسيّ الذي كلّف ليوناردو برسم اللوحة- قد عانَت من مشكلات صحيّة تتعلّق بالكوليسترول. أشار فرانكو إلى تراكمات صفراء ناتجة عمّا فسّره بأنّه أحماض دهنيّة تحت الجلد. أمّا كيمب في أوكسفورد فقد فحص ذلك الجزء من اللوحة تحت عدسة مكبّرة، وتوصّل إلى تشخيص مختلف مفاده أنّ رواسب من جهود الترميم قد "بهتَت". في العام 2014، قال المؤرّخ الفنّي أنجيلو باراتيكو (في التصريح ذاته) إنّ الموناليزا ربّما كانت أمَة صينيّة وأمّ ليوناردو.

   

  

بينما تعتقد نظرية أخرى أن الموناليزا هي صورة بورتريه لرجل، سواء دافينشي نفسه أو تلميذه وعشيقه المحتمل، سالاي، مرتديا زي امرأة. ظهرت نظرية البورتريه الذاتي للمرة الأولى في مقال نشرته مجلة "Art & Antiques" للكاتبة ليليان شوارتز، الفنانة وإخصائية الحاسوب التي استخدمت بعض الوسائل الرقمية لتركيب صورة لبورتريه ذاتي لليوناردو دافينشي على صورة المرأة في اللوحة. تستنتج شوارتز أن ليوناردو استخدم نفسه نموذجا لرسم الصورة دون شك. وهو الاستنتاج نفسه الذي توصّل إليه فيديو منشور على يوتيوب بعنوان "الموناليزا هي ليوناردو دافينشي". يعرض الفيديو للمشاهدين تراكب بورتريه دافينشي الذاتي على صورة الموناليزا، ليروا التطابق المدهش بينهما. إلا أن هذه النظرية لم تَرُق للخبراء.

 

تكهّن محققون آخرون بأن تعبيرات وجه الموناليزا تشير إلى إصابتها بمتلازمة الجز القهري للأسنان أو فقر التغذية أو معاناتها من علاقة زواج معطوبة أو إصابتها بالصمم، أو شلل في الوجه، وأن نظرة الرضا في عينيها ووضعية يدها المتحفظة تشير إلى أنها إما كانت حاملا أو عاهرة، أو أنها كانت تبتسم مغلقة شفاهها، لتخفي سواد أطراف أسنانها بسبب علاجها من مرض الزهري باستخدام الزئبق، أو أنها عانت من الحول في عينيها. في عام 2005، حلل باحثون من جامعة أمستردام (بمساعدة تقنية من جامعة إلينوي في أوربانا شامبين) ابتسامة الموناليزا الشهيرة، وذلك باستخدام برنامج حاسوبي سموه "برنامج التعرف على المشاعر". وتوصل الباحثون إلى أن المرأة المرسومة في تلك اللوحة تبلغ نسبة سعادتها 83%، كما تعكس ملامحها بعض التقزز (بنسبة 9%)، والخوف (بنسبة 6%)، إضافة إلى الغضب (بنسبة 2%). بينما خلصت دراستي التي أجريتها دون استخدام برنامج التعرف على المشاعر إلى أن خبراء مثل كيمب وبامباخ يشعرون بالتسلية بنسبة 100% أثناء قراءة التحليلات من هذا النوع.

   

لن يأتي اليوم الذي سيتوقف فيه الناس عن هذه التكهّنات الخيالية بشأن ليوناردو وأعماله. لكن كما أشرنا سابقا، هناك مستجدات حقيقية عنه وعن فنه. يقول بامباخ: "أحد المستجدات المهمة هو إثبات بعض الحقائق المتنازع عليها حول لوحة الموناليزا". لقد خاض المؤرخون طويلا في التاريخ الفعلي لرسم اللوحة، أو في إن كانت المرأة في اللوحة هي إيزابيلا ديست أم ليزا ديل جيوكوندو. أرّخ البعض لتاريخ رسم اللوحة بأنه ما بين عامي 1500 و1512. لكن أرمين شليشتر، خبير الوثائق بمكتبة جامعة هايدلبرغ، عثر على رسالة يعود تاريخها لعام 1503، يشير فيها أوغستينو فيسبوتشي، واحد من المسؤولين في مدينة فلورنسا، والذي كان على صلة بليوناردو، إلى أن الفنان يعمل في هذه الأثناء على لوحة بورتريه لغيرارديني. لتحسم هذه الرسالة الجدل حول تاريخ رسم اللوحة.

     

أظهر التصوير الرقمي واستخدام الأشعة تحت الحمراء للوحة
أظهر التصوير الرقمي واستخدام الأشعة تحت الحمراء للوحة "عشق تالمجوس" أنه رسم عناصر اللوحة التي تقترب من 70، مباشرة على اللوح الجاهز بيده، دون وسائل نقل الرسومات الأولية إلى اللوح الخشبي
     

كما مثَّلَت إعادة اكتشاف لوحة سالفاتور موندي حدثا ضخما كذلك، فبالرغم من أنه كان من المعروف وجود لوحة لدى ليوناردو بهذا الاسم، فإن حوادث التاريخ (وطبقات الترميم العديدة) أخفت هويتها. وفي مرحلة ما، في عام 1958 بيعت اللوحة في بريطانيا مقابل 45 جنيها إسترلينيا فقط على أساس أنها مرسومة من قِبل شخص آخر. وفي 2017 بيعت اللوحة في مزاد كريستيز مقابل 450.3 مليون دولار، بالرغم الأسئلة العالقة بين بعض من الخبراء حول نسبة اللوحة وإسنادها. قالت وزارة الثقافة والسياحة في أبوظبي إنها مالكة لوحة سالفاتور موندي وإن اللوحة ستُعرض في متحف اللوفر أبوظبي، ثم في سبتمبر/أيلول أعلنت أن عرض اللوحة سيؤجل دون ذكر الأسباب. في فبراير/شباط أكد متحف اللوفر أنه يأمل أن تُعرض لوحة سالفاتور موندي في أكتوبر/تشرين الأول. بحسب صحيفة "The Art" فإن تصريح اللوفر "يشير إلى أن اللوحة ما زالت مملوكة لشخص واحد، يسود الاعتقاد بأنه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان".

 

وفي 2017، عُرضت لوحة عشق المجوس بعد ترميمها على الملأ في معرض أوفيزي في فلورنسا. وفقا لفرانك زولنر، مؤرخ الفن بجامعة لايبزج ومؤلف كتالوج "raisonné of Leonardo"، "أظهر التصوير الرقمي واستخدام الأشعة تحت الحمراء أنه رسم عناصر اللوحة التي تقترب من 70، مباشرة على اللوح الجاهز بيده، دون وسائل نقل الرسومات الأولية إلى اللوح الخشبي. وفي اللوحة ملامح تمهيدية يدوية لأنها لم تكتمل. وهي تُظهر العفوية الفنية لدى ليوناردو". وذكر كيمب اكتشافا آخر قائلا: "سلّط الفحص العلمي لكل أعماله الفنية الضوء على مدى تنوع أساليبه. كان ليوناردو توّاقا دائما لشيء جديد. كل تصور أطلق العنان لتجربة جديدة. على سبيل المثال، استخدم مسحوق الزجاج مخلوطا بالجص، بدلا من الجص وحده، في تهيئة اللوحة ليكسبها بريقا خاصا".

 

اليوم، وفي الوقت الذي تسافر فيه مئات من أعمال ليوناردو حول العالم، ازدادت الفرص المتاحة أمام العديد من الناس لمشاهدة تقنياته مباشرة أكثر من أي وقت مضى. كيف كان رد فعل ليوناردو ليكون تجاه كل هذا الضجيج المُثار حوله في ذكراه المئوية الخامسة، وتجاه كل هذه النظريات الهامشية المجنونة التي تحيط به؟ سألتُ كيمب هذا السؤال، متوقعا إجابة متحفظة تصدر عن باحث مبجل في أوكسفورد. لكني تلقيت شيئا آخر، إذ أجاب كيمب قائلا: "كان ليحب الأمر. كان محبا للشهرة والخلود. من ثم، كان ليسعد بخلود ذكر اسمه على شفاه الناس بعد كل هذه الأعوام".

———————————————————————–

ترجمة: فريق الترجمة.

هذا المقال مترجَم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة