شعار قسم ميدان

لوحات وموسيقى الذكاء الاصطناعي.. هل يمكن اعتبار الآلة مبدعة أم خاضعة؟

ميدان - لوحة ذكريات العابرين

تخيل أنك عضو في لجنة تحكيم سيناريوهات أفلام، وقُدمت لك تلك القصة التي سنوجزها الآن تحت عنوان "يوم مركبة الفضاء":
  

"ما بدأ كيومٍ عادي بالنسبة لهاريسون، الطالب في الثانوية، لن ينتهي إلا وقد تغيرت حياته للأبد. ظهر أول شيء غريب عندما وصل للفصل ونظر حوله ليجد أن لا أحد موجود سواه. اندهش هاريسون، فذلك اليوم، كما كان يظن، هو يوم دراسي عادي، وفقط عندما خرج من الفصل وقابل زميليه دكستر وياكسلي كان أن اكتشف حقيقة الأمر. فاليوم هو، كما أطلعه ياكسلي، يوم مركبة الفضاء، حين يتم اختيار متطوع ليذهب للفضاء مع اثنين من أصدقائه ويستطلعوا معا أسرار الكون الفسيح. تحمس الصديقان دكستر وهاريسون للفكرة، وذهبا معا لدعوة صديقتهم تشارلي للذهاب معهم، لتوافق على الفور. وفي فناء المدرسة، رشح هاريسون نفسه للذهاب، لكن حتى يحصل على الموافقة، لا بد في البداية أن يثبت أنه الأجدر، وذلك عن طريق خوض نزال مع المرشحين الآخرين والفوز عليهم. حتى تلك اللحظة، لم يكن أحد قد ترشح سواه، لكن بعدها بثوانٍ ظهر شبحُ شخص من بعيد، وأعلن عن رغبته في الذهاب. لم يكن ذلك الشخص سوى ياكسلي.

بعد عدة دورات من النزال كان لياكسلي الغلبة، نظر هاريسون لتشارلي، وتذكر حبه لها، فألهمه ذلك شجاعة وقوة، وتمكن من هزيمة ياكسلي ومن ثم الفوز في النزال وإثبات أنه وصديقيه الأجدر بالسفر للفضاء. لكن بدلا من الفرح حيال ذهابهم لاستكشاف الكون، تلبَّس الثلاثة قلق عميق.

على متن السفينة سيطر التوتر والخوف على الأجواء. أولئك المراهقون وحدهم تماما الآن، والفضاء فسيح ومخيف ومليء بالمخاطر. خائفا من أن النهاية قد تكون قريبة، لم يجد هاريسون شيئا أفضل ليفعله من أن يحاول استدراج تشارلي حتى تعترف له هي أيضا بحبها له، وهو ما لم تستجب له. حزن هاريسون كثيرا، لكن ذلك الحزن سرعان ما تبدد وحل مكانه ذعر، نفد الوقود، وسيكون عليهم الآن أن يهبطوا اضطراريا فوق أحد الكواكب.

وحيدون تماما فوق تلك الصخرة الباردة البعيدة، في انتظار مستقبل لا يعرفون عنه شيئا، وقف الثلاثة يتأملون ماضيهم. في تلك اللحظة فقط، تمكنت تشارلي أخيرا من الاعتراف لهاريسون بحبها له، وهو ما لم يستطع هاريسون أن يفعل شيئا حياله سوى البكاء. كان يوم مركبة الفضاء اليوم الأطول، وربما الأخير في حياة الثلاثة، لكن من بين كل الأشياء في الحياة التي ملأهم الندم حيالها، لم يكن صعودهم على متن المركبة في ذلك اليوم واحدا منها".[1]

                                                                 

بماذا ستحكم على هذه القصة؟ هي بالتأكيد ليست مثالية، فالشخصيات لا تتسق مع ذاتها في أحيان كثيرة، وتأتي فيها الكثير من الأحداث بلا بناء أو تمهيد مناسب لها، كما جاء في متن الحوار الكثير من العبارات الغريبة، مثل وصف ضحكة تشارلي بكونها "تجعل الآخرين يفقدون السيطرة ككبد ينفجر"، وذكر كيف أن "حزنا عميقا ملأ جيوب هاريسون الأنفية". قد تتساءل: من الشخص "الأحمق" الذي قد يكتب عبارات كتلك؟ فحتى الأطفال لا يصفون الأشياء بتلك التشبيهات الغريبة. لكن المذهل، هو أن من كتب تلك القصة ليس إنسانا من الأساس، بل برنامج ذكاء اصطناعي. شيء غريب، أليس كذلك؟ كيف ستحكم إذن على القصة الآن؟

طالما كانت القدرة على الإبداع هي أحد أهم الأشياء التي تُميّزنا نحن كبشر عن غيرنا من الكائنات. فنحن وحدنا مَن أبدعنا فنًّا، وموسيقى، وغناء، ومَن ألّفنا قصصا وشعرا ومسرحيات وأفلاما؛ القدرة على الإبداع الفني إذن هي شيء بشري للغاية، مرتبط بنا تمام الارتباط، فلقد ظللنا طوال تاريخنا بأكمله الوحيدين القادرين على ذلك النوع من الإبداع. وفي عالم اليوم الذي باتت الأتمتة فيه وحلول الآلة محل البشر في نسبة ليست بالقليلة من الوظائف واقعا لا يفصلنا عنه سوى سنوات قليلة بحسب توقعات الخبراء، وهو ما أعلى من قيمة الإبداع الفني،  كملجأ أخير آمن للبشرية لن تقدر الآلة على منافستنا فيه في يوم من الأيام. لكن من الواضح أن الظنون لم تكن دقيقة لحدٍّ بعيد.
  

   

ليس التأليف الأدبي -الذي أدرجنا مثالا له فيما سبق- المجال الفني الوحيد الذي تمكّنت الآلة من اقتحامه. ففي العام الماضي، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، عرض معرض كريستي لوحة "إدموند دي بيلامي"، المرسومة من قِبل برنامج ذكاء اصطناعي من ابتكار شركة أوبسرفر الفرنسية في مزاد. وبينما قدّر الخبراء أن سعر اللوحة سيتراوح ما بين 7 و10 آلاف دولار، جاء يوم المزاد وكانت المفاجأة: بيعت اللوحة مقابل قرابة نصف مليون دولار. [2]

       

لوحة إدموند دي بيلامي التي صنعتها شركة أوبسرفر الفرنسية بواسطة برنامج ذكاء اصطناعي
لوحة إدموند دي بيلامي التي صنعتها شركة أوبسرفر الفرنسية بواسطة برنامج ذكاء اصطناعي
     

أما بالنسبة للموسيقى، فبرامج الذكاء الاصطناعي القادرة على تأليف المقطوعات ليست بالشيء الجديد. ففي العام 1980، ابتكر العالم ومؤلف الموسيقى ديفيد كوب برنامج "إميلي هاول" القادر على تأليف موسيقى على نمط فيفالدي أو باخ أو أي مؤلف موسيقيّ، بشكل متقن خدع الخبراء أنفسهم.
  

لم يعد إبداع الآلات للأنماط الفنية موضوعا من موضوعات الخيال العلمي إذن، إنه واقع نقف بإزائه الآن، واقع يفرض علينا أن نسأل الكثير من الأسئلة حيال طبيعة الفن نفسه، وحيال عملية الخلق الإبداعي. فهل إبداع الفن، على خلاف ما ظننا طوال تاريخنا، هي عملية آلية في معظمها من الممكن أن تقوم بها برمجة آلة؟ أم أن ما تنتجه برامج الذكاء الاصطناعي ونطلق عليه اسم "فن" هو ليس فنًّا من الأساس؟

      

     

كيف تُبدع الآلة؟

قبل أن نستطيع الإجابة عن أيٍّ من الأسئلة السابقة، يجب علينا في البداية أن نفهم كيف تُبدع الآلة. وعلى عكس ما قد يظنه البعض، فالأمر ليس سحريا على الإطلاق، أنت لا تضغط على زر ما لتأتي لك النتيجة كقصة أو لوحة أو مقطوعة موسيقية من العدم. على العكس تماما، فالأعمال الفنية التي تبدعها الآلات تأتي في نهاية عملية منهجية محددة الخطوات.

في المرحلة الأولى، يختار الفنان المشرف على هذه العملية عددا من الأعمال الفنية، سواء كانت لوحات أو مقطوعات أو قصصا، ويعطيها للآلة لتتمرّن عليها. يأتي هذا التمرين كجزء من "تعلم الآلة" (machine learning)، العملية الأساسية في ميكانيزم عمل برامج الذكاء الاصطناعي. بعدها، تحاول الآلة تطوير خوارزمية تُمكّنها من أن تخلق بنفسها عملها الفني الخاص. في الخطوة التالية، يحاول الفنان أن يعدّل في الخوارزمية حتى تقترب بنتائجها من محاكاة الأعمال الفنية التي تدرّبت عليها. وفي النهاية، بعد أن تنجح الآلة في إنتاج عمل فني، يعود الدور مجددا للفنان حتى يُقيّم ما أنتجته، ويُعدّل عليه في بعض الأحيان ليصير صالحا للعرض.

في حالة القصة التي عرضناها على سبيل المثال، تمرّنت الآلة على قاعدة بيانات مكوّنة من سلسلة روايات هاري بوتر وسيناريوهات أفلام حرب النجوم وبعض روايات ستيفن كينج. أما بورتريه إدموند دي بيلامي، فقد جاء نتيجة لتمرّن الآلة على قاعدة بيانات مكوّنة من 15 ألف لوحة كلاسيكية رُسمت ما بين القرن السابع عشر والقرن العشرين. [3] [4]

كما ترى، فإبداع الآلة ليس "آليا" مئة في المئة. إذ يظل العنصر البشري، المتحكم الأساسي في كل الخطوات السابقة، من يختار قاعدة البيانات التي سيتدرّب عليها البرنامج، وهو من يُعدّل في الخوارزميات لتُنتج أعمالا فنية جيدة، وهو من يختار المنتج النهائي الذي سيُعرض على الجمهور. نحن هنا إذن أمام عمل يتعاون فيه الإنسان مع الآلة، ولسنا أمام منتج آلي بشكل خالص.
   

لوحة
لوحة "رمبرانت القادم" التي رسمها برنامج ذكاء اصطناعي تدرب على لوحات الفنان الهولندي رمبرانت (مواقع التواصل)

    

وبعيدا عن الدور الذي يلعبه الفنان المشرف على العملية بشكل مباشر، سنلاحظ أن ما أنتجته الآلات من أعمال فنية جاء فقط محاكاة للأعمال التي تدرّبت عليها. فعندما تنظر إلى بورتريه دي بيلامي الذي أنتجته شركة أوبسرفر، سينتابك شعور أن ما أمامك ليس سوى تفاصيل مأخوذة من العديد من اللوحات الكلاسيكية وقد جُمعت معا، وكذا الحال بالنسبة للمقطوعات التي ألّفتها آلة ديفيد كوب، إنها محض محاكاة لأعمال فيفالدي أو باخ أو بيتهوفن، على حسب قاعدة البيانات التي تدرب البرنامج عليها. إن ما تنتجه الآلة باختصار، ليس سوى تقليد لأعمال فنية أخرى، تقليد يفتقد أهم عنصر يجعل الفن فنًّا: الأصالة.

يقول شون دورانس كيلي، الفيلسوف بجامعة هارفارد، عن هذا: "تمكّنت خوارزميات الذكاء الاصطناعي من أن تأخذ مقطوعات باخ وتؤلّف موسيقى على غرارها بشكل يمكنه حتى أن يخدع الخبراء ويجعلهم يظنون أنهم يستمعون لموسيقى أصلية. وهذا يسمى تقليدا. هذا ما يفعله الفنان في مرحلة التدريب: ينسخ ويتقن أساليب الآخرين بدلا من أن يحاول أن يخلق لنفسه صوتا خاصا به، ومن ثم، لا يمكننا أن نعد هذا إبداعا". لكن، دعونا نتخيل أن الآلة تطورت بشكل يجعلها قادرة على أن تصنع أعمالا أصيلة، فهل سيكفي هذا لنعد ما تصنعه فنًّا؟ [5]

هل الأصالة وحدها ستكفي؟

الإجابة المختصرة التي يجيب بها كيلي هي لا قاطعة، يشرح وجهة نظره ويقول: "لا يمكننا أن نفكر في قرد جلس إلى آلة كاتبة وكتب مسرحية "عطيل" عرَضَا على أنه فنان مسرحي عظيم. فلو أن هنالك أي شيء جيد في المنتج النهائي، فقد جاء فقط نتيجة للمصادفة. وبالمثل، فيمكننا أن نرى ما تُنتجه الآلة عظيما، لكن إن عرفنا أن الناتج النهائي لم يأتِ سوى كنتيجة اعتباطية لخوارزمية، فلا يمكننا حينها أن نرى فيها تعبيرا حقيقيا عن أي نوع من المعنى".[6]

    

ما يعنيه كيلي هو أن الآلة التي تُنتج أعمالا إبداعية تفتقر إلى عنصر مهم يمتلكه أي فنان بشري، ذلك العنصر هو القصدية. فعمل الآلة الفني حتى لو جاء بديعا ولا يشبه أي شيء سابق عليه، فهو ببساطة جاء نتيجة لعنصر المصادفة الاعتباطي. فالآلة لم تقرر من تلقاء نفسها أن تصنع عملا فنيا يستلهم تجربتها في الحياة، هي لم تقصد أن ترسم لوحة بديعة أو تؤلّف قصة مؤثرة، تماما كما أن القرد الذي جلس لآلة كاتبة في مثال كيلي لم يقرر أن يكتب مسرحية عظيمة، عمل الآلة وعمل القرد كلاهما جاء بشكل اعتباطي، ما يسحب القيمة عن أي شيء يصنعانه. فالآلة، وإن امتلكت الكثير من القدرات التي كنا نعزوها للبشر وحدهم، ما زالت تفتقر إلى الإرادة. وينهي كن وينر من مجلة "ساينتفيك أميركان" (Scientific American) الحكم على تلك المسألة بقوله: "إلى أن يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يجد الإلهام بنفسه ويحتاج إلى التعبير عن أفكار خاصة به بشكل خلّاق، فلا يمكننا أن نعدّ ما يصنعه فنًّا".[7]

لوحة مرسومة من قِبل برنامج ذكاء اصطناعي من معرض
لوحة مرسومة من قِبل برنامج ذكاء اصطناعي من معرض "ذكريات العابرين" (مواقع التواصل)

    

لكن، هنا نسمع صوتا آخر معارضا يقول: دعونا من التفلسف المبالغ فيه، ولنحكم على الأعمال الفنية التي تصنعها الآلات بالمقياس نفسه الذي نحكم به على الأعمال الفنية التي يصنعها البشر، معيار الجودة، ونرى إن كانت الآلة تنتج أعمالا جميلة أم لا.

لكن حتى هنا أيضا، تفشل الآلة بشكل كبير. فمع كل ما تفتقر إليه من أصالة يجعل أعمالها باهتة مقارنة بأعمال الفنانين الذين تحاول محاكاتهم، تفتقر الآلة إلى شيء مهم للغاية، تفتقر إلى الشعور. منذ عامين، عرض بعض من مطورين الجرافيكس على قطب الأنيمي الياباني هاياو ميازاكي مقطعا قصيرا لبرنامج يحاكي إنسانا يتحرك بشكل أعرج. وهنا، لم يستطع ميازاكي أن يكتم امتعاضه مما يراه، ويُعبّر عنه قائلا: "هذا الشيء لا يوجد لديه أدنى فهم أو إحساس لمعنى الألم الإنساني". [8]
    


وهو ما ذهب إليه الفنان روبير بريستيجيانو نفسه عند سؤاله عن الأعمال الفنية التي تنتجها برامج الذكاء الاصطناعي، فيقول: "لا تستطيع تلك البرامج أن تشعر بأي شيء، ما يجعلها غير قادرة على إنتاج فن عظيم. فلو لم يشعر بيكاسو بالغضب، لما خرجت لوحة الغرنيكا بهذا الشكل، ولو لم يقع مودلياني في حب عارضاته، لما كانت لوحاته جميلة لهذا الحد". [9] مع افتقار ما تنتجه الآلات اليوم إلى الأصالة والقصدية والشعور إذن، نجد أنفسنا أمام أعمال هي على أفضل الأحوال باهتة، لا ترتقي بمكان للإنتاج البشري. لكن ما زال مجال الذكاء الاصطناعي في بداياته، ولا يمكننا التنبؤ إلى أي مدى ستصل براعته، ويظل السؤال، هل سيأتي اليوم الذي تتفوق فيه الآلة على الإبداع الفني للبشر؟ في حالة مجيء ذلك اليوم، ستقف مفاهيمنا التي راكمناها طوال تاريخ بأكمله حول الفن والإبداع والإنسانية نفسها عزلاء أمام واقع لن تعود ملائمة له بعد الآن.

المصدر : الجزيرة