شعار قسم ميدان

أغنية فيروز الجديدة "لمين؟".. هوامش عن الحُب والغياب والمعنى

ميدان - فيروز 2017
"لا يُمكن لأحد أن يُسمّي نفسه جديداً أو قديماً أو ثوريّاً. ما سَيُسمّيه ويقيّمه في النهاية: الناس والزمان" 
(عاصي الرحباني)

 

هكذا غرّدت ريما الرحباني في التاسع عشر من (يونيو\حزيران) على الصفحة الرئيسية لفيروز عبر موقع تويتر، تزامُنًا مع نشرها مجموعة من الفيديوهات، في الفترة من الخامس عشر وإلى العشرين من (يونيو\حزيران)، تجمعها بوالدتها في أحد الاستديوهات أثناء ما بدا كتسجيل فيروز لأغنية جديدة. ومع حلول الذكرى الـ31 لرحيل عاصي الرحباني، أطلقت ريما الأغنية: لمين. وكانت ريما قد صرّحت عبر صفحتها على الفيس بوك أن "لمين" مأخوذة عن أغنية "غيلبر بركو" الفرنسية "لمن تلمع النجمة؟" بعد أن عربّت هي بنفسها كلماتها.

 
في أغنيتها، تتساءل فيروز: "لمين، بتسهر النجمة.. لمين؟ لمين يبكي الحور.. لمين؟ ليه الأرض بتدور؟" وتحاول الإجابة "إلك أو إليّ؟" وفي النهاية تصل إلى أنه "مش لا شي.. ولا أي شي."

 

لمين؟

في حوارها مع جريدة الشرق الأوسط عن أغنية فيروز الجديدة [1]  تقول ريما:"اخترت هذه الأغنية بالذات في ذكرى رحيل والدي، لأنها عبثية وتطرح أسئلة كثيرة لا أجوبة لها. لا أدري لماذا لامستني كلماتها إلى هذا الحد، ولكنها أعجبتني كثيرًا ووجدتها مناسبة لطرحها في ذكرى وفاة والدي عاصي." 

 

 
هل كلمات "لمين" إذًا محاولة أخرى للتعبير عن معضلة الإنسان الأزلية مع العبث وغياب المعنى-حيث تتوالى عليه الأيام والشهور والسنين، تلمع فيها النجوم وتدور الأرض بلا هدف أو غاية ينبثقان عن حركتهما الأزلية؟  أم هل تحمل الأغنية لفيروز معنى شخصيّ آخر؟
 
تقول فيروز في إحدى لقاءتها [2]: "كل نفسي بتعبر عنها غنيّتي لما بقدمها". ونحن لا نملك هنا سوى التكهن عن أي جزء من نفس فيروز قد عبرّت عنه في أغنيتها "لمين". لكن، على الأقل، نستطيع الوثوق من حقيقة واحدة: إطلاق الأغنية في ذكرى وفاة عاصي الرحباني يجعلها بمثابة أنشودة خاصة تبعثها فيروز إليه من الأرض إلى السماء.

 

"بيعزّ عليّ غني يا حبيبي… لأول مرة ما منكون سوا"

لا يمكننا حقًا أن نفصل بين حياة فيروز الفنية وحياتها الزوجية، فقد كان للاثنين نقطة بداية واحدة وهي عاصي الرحباني. التقت فيروز بعاصي أثناء غناءها بالجوقة (Chorus) بالإذاعة حيث كان يعمل هناك كعازف كمان. أُعجِب عاصي بجمال صوتها وبدأ يلحن لها الأغاني التي لاقت رواجًا كبيرًا، وبعد فترة وجيزة، تحديدًا في (يناير\كانون الثاني) من عام 1955، تزوجا [3].

 

قضت فيروز عُمرها في صناعة الفن بجوار عاصي، ما جعل حياتها الفنية وحياتها الزوجية يتصلان بُعرى وثيقة ويتضافران ليصيرا الشيء نفسه. قالت فيروز بهذا الصدد في أحد اللقاءات: "كان شغلنا هو حياتنا، ليل نهار. يعني كنت عايشة حياتي بفني أكتر، لما بظهر عالحياة بحس إنه غلط. يمكن هالعلاقة، هالقرب العائلي، يمكن كان لازم يصير لنسمح للفن إنه ينعاش أربعة وعشرين ساعة بالأربعة وعشرين ساعة..، كنا عم نخلق موجة فنية جديدة ما كانت موجودة ضد الفن اللي كان موجود." [4]

 

لم يقتصر دوّر عاصي في حياة فيروز الفنيّة على كونه مُلحن أغانيها، فغير مرة، عبّرت فيروز عن حالة الخوف التي كانت تنتابها قبل القيام بأي خطوة جديدة في حياتها الفنيّة، ولم يكن ليبدد ذلك الخوف ويشجعها على المضي قُدمًا سوى عاصي. تقول فيروز: "كل خطوة مشيت عليها جديدة بحياتي الفنية كنت بخاف إني أعملها، لأني كنت بحس إني ما راح أنجح فيها، لكن هو كان شايف فيّ وأنا ما بعرف كل الأدوار اللي عطاني إياها." [5]

 

  فيروز تتحدث عن عاصي الرحباني

 

وتروي فيروز قصة أول مرة سافرت فيها للغناء للولايات المتحدة الأميركية، وتذكر كيف سيطر عليها الخوف من ألا تُلاقي نجاحا كبيرا في تلك الأرض الغريبة عنها. تقول: "قالي عاصي، هلأ إذا ما إجا حدا على المسرح انتي غني وما يهمك. قلتله كيف بدي أغني إذا ما في حدا؟ قالي بتغني ولا يهمك. صار يخبرني قصص ليخليني ما أخاف أو ما فكّر بالموضوع. صرّت بدي أبكي أنا، قالي لا لا ما عليكِ، انتي غنيّ وعم بقولك لو ما في حدا اطلعي غني وبس. أجا الليل، وأجت اللحظة، وطلعت عالمسرح وإذا الصالة مليانة ناس، وغنيت." [6]

 

لكل هذه الأسباب، لم يكن مرض عاصي الأخير بالشيء السهل أبدًا على فيروز. كانت رحلة عاصي مع المرض قد بدأت عام 1972 عندما داهمه نزيف دماغي نُقِل على إثره للمشفى. حينها، كان الرحابنة وفيروز بصدد التحضير لمسرحية "المحطة"، وبمرض عاصي، أخذ زياد الرحباني الذي لم يكن يبلغ من العُمر سوى سبعة عشر عامًا على عاتقه دور التلحين. كتب حينها منصور الرحباني كلمات أغنية "سألوني الناس" ضمن أغنيات المسرحية لتصف حالة فيروز وعاصي حينها. " سألوني الناس عنك يا حبيبي… كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا… بيعز عليّ غني يا حبيبي… ولأول مرة ما منكون سوا."[7]

 

  فيروز تغني "سألوني الناس"

 

في الواحد والعشرين من (يونيو\حزيران) عام 1986، تغلّب المرض على عاصي الرحباني وصعدت روحه إلى السماء. تحكي فيروز بعينين حزينتين عن مرض عاصي ثم موته وتقول: "لما مرض عاصي، صرت أحس بخوف عليه وعلى حالي وعلى شغلنا. غيابه تعبني وحسسني بكل الإشيا اللي كان حاملها عني، يعني شي أكيد. وأنا كل ما بغني بمطرح أكيد بيكون هو موجود، موجود مش بس بالغنيّة، موجود بشخصه، وأفكر يعني أني بعمل الإشيا مثل ما هو بيحبها."[8]

وفي حديث آخر تقول: "حبيت صور عاصي ومطارحه، دخلت عليا وما عاد فيي اطلع منها، صارت هيي عالمي. كانت حياته قصيرة، بس ملياني شغل وتعب، ما كان يرتاح لا ليل ولا نهار، زيارته عَ الدني كانت قصيرة زرع جمال، تركلنا جمال كتير وفلّ بكير." يُقال أنه بعد موت عاصي بفترة، كانت فيروز تغني "سألوني الناس" على المسرح، وعندما وصلت لمقطع " بيعز عليّ غني يا حبيبي، ولأول مرة ما منكون سوا"، غلبتها دموعها وبكت [9]

 

  فيروز تتحدث عن مرض عاصي وموته

 

سيدة المعنى

"كتبت ذات مرة أن صوت فيروز لا يكبر، فهو مرتبط بعُمر كل واحد منّا. لقد رسخ فينا منذ الطفولة، ورسخ في الوجدان الشخصي والعام، وبالتالي، أصبحت فيروز إحدى مكونات هويتنا الجمالية والوطنية"[10].

 

هكذا قال محمود درويش عن فيروز في إحدى اللقاءات التي تعود إلى الثمانينات. إلى الآن، ونحن على وشك الانتهاء من العقد الثاني في الألفية الجديدة، لازالت كلماته تُمثلّنا. فحتى إن كبّرت فيروز وجاوزت الثمانين، وحتى إن غنت عن غياب المعنى، فقد ظلت كل أغنية من أغانيها تحمل معانٍ خاصة جدًا لكل منّا.

 

عن أغنية "لمين"، وعن المعاني والذكريات التي تحملها لهم أغاني فيروز بثناياها، قمنا بالفعل بمُحاورة مجموعة من الشباب، وقد شاركنا كُل منهم بحكاية له مع إحدى أغاني فيروز.

 

تقول دينا نبيل: "ارتبطت بأغنية "كيفك انت" ارتباط خاص، فقد مثلت لي آخر ذكرى حقيقية جمعتني بأبي قبل مرضه الأخير ووفاته في سن صغيرة نسبيًا. كان ذلك في صيف 2008. قبل المصيَف بأسبوع، "اكتشفنا" كيفك أنت. لم نكن نعرف فيروز قبلها سوى في "يا طير الوروار" و"حبيتك بالصيف" و"الأندلسيات" وما شابه، لذا كان اكتشافنا لفيروز الجديدة بلحن زياد الحديث مفاجأة سارة. رافقتنا الأغنية على التيلفون القديم في رحلتنا لرأس بر. كنا عائلة كبيرة، تقضي وقتها في اللعب في البحر أو وسط الرمال أو التبضع. أثناء هذا، كنا نستمع أنا وأبي لكيفك أنت، مرة تلو الأخرى، يوم تلو الآخر، حتى عدنا للقاهرة. كان ذلك ببساطة لأننا لم نصطحب معنا أغنية سواها. أغنية ثلاث دقائق تُعاد طوال الوقت، وفي كل مرة، نكتشف تفاصيل جديدة في الكلام واللهجة. "كيفك انت" كانت الخلفية الموسيقية لأحداث ذلك الصيف. لاحقًا، أُصيب أبي بجلطة دماغية وتسارعت الأمور."

 

أغنية
أغنية "لمين" هي واحدة من أغاني ألبوم فيروز الجديد "ببالي، وسيصدر الألبوم كاملًا في الثاني والعشرين من (سبتمبر\أيلول) بهذا العام

 

وعن أغنية "لمين" قالت: "خوفي الوحيد كان من تغُيّر صوت فيروز بحُكم اختلاف السن. عند إطلاق الأغنية، أخذت أستمع للمقدمة الموسيقية الطويلة ونفس السؤال يخالجني "هل سأستمع لفيروز التي عهدتها، أم أُخرى عجوز تغطي التأثيرات على صوتها؟" وعندما استمعت لصوت فيروز في أول كلمة "لمين"، بمَدّة صوتها ورقتها، أوقفت الأغنية وحمدت الله أن فيروز هي فيروز، دائمًا وأبدًا. في النهاية، يكفيني معرفة أن فيروز التي عرفناها لازالت تتنفس على هذه الأرض البائسة."

 

ويقول مصطفى سليمان: " كانت "وحدن" دائمًا رفيقتي في أحلك الأوقات. كنت أستمع إليها وأشعر أن كلماتها نابعة من نفس الألم الذي يُغلفني. حتى بعدما عرفت قصة الأغنية الأصلية، ظللت أسمعها برأسي بشكل تلقائي كلما مررت بوقتٍ عصيب."

 

ويروي لنا أحمد قمر: "أكثر أغاني فيروز قُربًا إلى قلبي هي "فزعانة". اللحن والتوزيع تحفتان فنيتان من زياد رحباني. دائمًا ما تُذكرني تلك الأغنية بأول فتاة ارتبطت بها، حيث كانت هي من عرفتني عليها. وفي إحدى المرات، أثناء بحثي عن كلمات الأغنية، وجدت مقال صغير عنها بمنتدى قديم. راسلت كاتبة المقال لأشكرها عليه وأشاركها رأيي، وشاءت الظروف أن جمعتني بها أعظم صداقة بحياتي، دامت خمس سنوات حتى هذه اللحظة."

 

أما محمود العطّار، فلم يحمل ذكرى خاصة لأغنية بعينها، وعن هذا يقول: "نشأت بمنزل يصدح فيه صوت فيروز باستمرار، كنت استمع إليها منذ صغري حتى قبل أن أفهم ما تعنيه من وراء كلماتها. بعدها، بدأت أشعر أن فيروز هي الشخص الوحيد القادر على التعبير عن كل ما أُحس به."

  

ويقول عن لمين: "كلمات الأغنية هادئة وجميلة، مناسبة لذكرى رحيل عاصي. في مضمونها، تُعبّر عن عدم جدوى الحياة بعد فراق المُحبين. تقريبًا، أحدًا لم يلحظ أن مُلحن الأغنية الأصلي هو "إدواردو بيانكو"، ذاك الذي اقتبس عاصي ومنصور الكثير من ألحانه بكلمات عربية من تأليفهم في الستينات. ربما لهذا وقع اختيار السيدة فيروز على هذا اللحن، كوّنه يذكرها ببداياتها مع الأخوين رحباني."

 

أغنية "لمين" هي واحدة من أغاني ألبوم فيروز الجديد "ببالي، وسيصدر الألبوم كاملًا في الثاني والعشرين من (سبتمبر\أيلول) بهذا العام. 

المصدر : الجزيرة