شعار قسم ميدان

أوسكار الموسيقى التصويرية.. 5 مقطوعات تجعل الحسم صعب المنال

midan - OSCARS
وراء أيّ مشهد سينمائي هناك من يقف بفرقته الموسيقية وأوراقه التي كُتبت عليها خصيصا ألحان لهذا الفيلم ويحاول عبر آلات معينة خدمة المُخرج وهو يحكي حكايته في مدة لا تتجاوز -عادة- الساعتين. لا تُخلق الموسيقى من الصفر فحسب، ولكنها تتميز بارتباطها بحالة الفيلم الذي تُصاحبه، تتقمص حالته وترتدي ثوبه وتدعو آلاتها لإصدار الأصوات المناسبة بالضبط لأجواء هذا الفيلم دونا عن غيره.

   

سواء تأثرت بالبوب أو الجاز أو الروك تبقى تلك الألحان "أصلية"، ولهذا يُطلق على جائزة الأوسكار الخاصة بها "أفضل موسيقى تصويرية أصلية"، وعلى هذه الجائزة تحديدا يتنافس هذا العام خمسة من ألمع الأسماء في هذا المجال والذين يفرد هذا التقرير مساحة لأكثرهما حظا: جوني غرينوود عن فيلم "فانتوم ثريد"، وألكسندر ديسبلا عن فيلم "شكل الماء"، وهما مُرشحان إلى جانب كل من هانز زيمر وجون ويليامز وكارتر بورول.

    

جوني غرينوود.. فانتوم ثريد

الصباح بالنسبة لرينولدز وودكوك ليس وقتا عاديا، إن فَسد الصباح يفسد سائر اليوم، وإن كانت وجبة الإفطار أثقل مما يجب فلا داعي للاستمرار. يمكن معرفة هذا عن وودكوك الذي يؤدي دوره الممثل الإنجليزي دانيال دي لويس في فيلم "فانتوم ثريد" (Phantom Thread) من خلال المشاهد الافتتاحية للفيلم نفسه، ليس لأن الألوان في تلك المشاهد ساطعة وكأن كلّ شيء يُضيء مع شمس لندن النادرة، ولا لأنّ ابتسامةً ترتسم على وجه وودكوك الذي يُسرّح شعره بعناية ويرتدي ملابسه الفاخرة وينزل للطبقة السفلى من منزله الباروكي الفخم ليبدأ يومه بتناول طعام الإفطار كما هو معتاد، ولكن لأنّ "جوني غرينوود" يخبرنا ذلك منذ الدقيقة الأولى في الفيلم.

   

غرينوود هو الاسم اللامع في فرقة موسيقى الروك البديل "راديوهيد" (Radiohead) الإنجليزية، الفرقة التي أثارت جدلا واسعا في أوروبا الصيف الماضي إثر إعلان نيتها زيارة "إسرائيل" من أجل تقديم حفل هناك،(1) ليس مجرّد عازف جيتار ولكنه أيضا مؤلف موسيقي لثمانية أفلام سينمائيّة نصفها كان في أعمال أخرجها الأميركي "بول توماس أندرسون"، إذ يترشّح كلاهما للمنافسة على جوائز الأوسكار هذا العام بعد تعاونهما الأخير في فيلم "فانتوم ثريد".

   

الفنان الموسيقي جوني غرينوود
الفنان الموسيقي جوني غرينوود
  

يفتتح أندرسون فيلمه بمقطوعة "منزل وودكوك" (House of Woodcock) التي تستمر لمدة طويلة معلنة عن بطء ما في حياة الرجل الذي تتركز حوله القصّة في النصف الأول من الفيلم. لعبة الأنصاف هنا مشتركة بين أندرسون وغرينوود، فالإيقاع سيبدأ بالتسارع في النصف الثاني من الفيلم كما تتسارع الأحداث، في الحقيقة، يبدو التواطؤ أكبر من ذلك بكثير عندما يتبين أن كليهما متفق أيضا على أهميّة التناقضات في حكاية غرينوود وأزيائه التي يصممها بعناية لا تقل عن عنايته بأي مظهر آخر من مظاهر حياته.

    

لتبيان ذلك يجب إيضاح ملخص بسيط لقصّة الفيلم. وودكوك مُصمم أزياء إنجليزي مرموق يعيش في منزل فخم وسط لندن في الخمسينيات من القرن الماضي، ساعدته أخته على تحويل هذا المنزل إلى مؤسسة لتصميم الأزياء فيها من العاملات الكثير. يختار بعناية الفتيات اللاتي سيحظين بشرف ارتداء ثيابه في العروض الخاصة وأيّ فتاة تحلم بذلك.

   

يبدأ عالمه بالتغيّر عندما يلتقي مصادفة بفتاة تعمل نادلة في أحد المطاعم الريفية تُدعى ألما، وتتحول نفسها إلى أهم قطعة فنية يمتلكها وودكوك، ويجعل منها نجمة، ولكنها لا تُحسن الدخول إلى قلبه من بابه العاطفي. يُبقيها وودكود مجرد أداة بيده، وهو ما ترفضه ألما فتقرر الاستحواذ على قلبه عبر طريقة واحدة: تسميمه بأحد أنواع المشروم الذي يُسبب إعياء لا يؤدي إلى وفاة.

    

يخصص غرينوود لألما مقطوعة مُرتبكة تحمل اسمها "Alma" تُعطي للشخصيّة أبعادا أكثر غرابة، مع ذلك يستخدمها أندرسون في المشهد الأخير من الفيلم حيث المشاعر كلها ترتكز على وودكوك وليس ألما، وودكوك هناك هو المُنفعل، الغاضب، المرتبك والعاشق في الآن ذاته، وودكوك هو من تبدو عليه آثار التعامل مع شخص بغرابة ألما وجُرأته وهدوئه في الآن ذاته.

  

      

تحوّله ألما إلى جسد ضعيف هزيل يحتاج إلى مساعدتها، ويخصص غرينوود لهذه اللحظة مقطوعة "Never Cursed" المليئة بالخفّة التي على عكس كلّ القوة والحزم اللذين كان عليهما في النصف الأول من الفيلم، ينهار جسده وقلبه معا ولا يجد أقرب إليه من ألما، حينها فقط، يُدرك وودكوك أن السدّ الذي بناه في وجهها قد حان وقت انهياره، يستسلم لها كليا ويتناول سُمّها بيديه، لأنه هو أيضا أعجبه طعم الحُب.

    

يفهم المؤلف الموسيقي غرينوود ذلك تماما، لذا يختار بعناية فائقة الأماكن التي تلعب فيها مقطوعاته، في المشاهد المتوترة لا نسمع شيئا، وفي المشاهد العادية يُتخمنا بالموسيقى التي تعلو أحيانا على مستوى الحوارات. يريد غرينوود أن يفتح بابا للتواصل كما يريد أندرسون أيضا أن يفعل في حكايته هذه، التواصل مع الحدث دون مؤثرات مُباشرة.

  

يقول غرينوود في مقابلة معه(2): "أردت صنع موسيقى يرضى عنها وودكوك لو استمع إليها"، وهو ما بدا ظاهرا في مقطوعة "Phantom Thread I" فحضر تأثره واستلهامه لواحد من أشهر عازفي البيانو في القرن العشرين، الكندي غلين غولد، وعلى وجه الخصوص معزوفاته لأعمال باخ،(3) ولإضافة المزيد من الأسطَرة التي تليق بفيلم في لندن منتصف القرن الماضي استخدم غرينوود أوركسترا كبيرة من ستين عضوا، حضرت جميعها في عرض حي للفيلم في لندن قبل شهر وعزفت الموسيقى الخاصة بالفيلم.(4)

     

ألكسندر ديسبلا.. شكل الماء

undefined

  

فرنسي يبلغ من العمر 56 عاما، ترشح 9 مرات لجائزة الأوسكار منها مرتين في نفس العام (2015) عن فيلمي " لعبة التزييف" (The Imitation Game) و"فندق بودابست الكبير" (The Grand Budapest Hotel) فنال عن الأخير جائزته الوحيدة هناك. يعود ألكسندر ديسبلا هذه المرّة بعد غياب استمر ثلاث سنوات بحظوظ عالية لنيل أوسكاره الثاني بعد أن حصد بالفعل جوائز الغولدن غلوب والبافتا هذا العام.

   

يكمن السر في هذا الصعود الجبّار والأفضلية التكريمية في المقطوعة الموسيقية الأساسية للفيلم والتي حملت نفس العنوان. نسمعها منذ اللحظة الأولى فيه ولكننا نسمعها مجددا في نهايته، وكأنّه حلم أو أننا بالفعل قابعون "تحت الماء"، أو أننا نحن الماء ذاته الذي يأخذ "شكل" الإناء، يُوحّدنا مع آلاته مغمورين بأصواتها مدندنين ألحانها كلما ذُكر اسم الفيلم.

    

الشعور بالانغمار تحت وطأة الموسيقى هنا ليس مقتصرا على فاعل واحد اسمه ألكسندر ديسبلا، ولكنه جاء مكملا للحلم الذي أراد دل تورو تحقيقه من خلال "شكل الماء" أن يُغرقنا بالحب ثم يطلب منّا التنفّس من تحت مائه. بلمسة دفء حتى في التعامل مع الشر/الأشرار كان باستطاعة ديسبلا أن يجعل من الجميع أجساما تطفو وسط ألحانه ومشاهد دل تورو التي تُشبه الأُنشودة.

   

تَعْبُر الألحان أجسادنا كما يدلف الماء من أي مكان للآخر. كان الخيار واضحا بالنسبة إليه مع كاميرا دل تورو التي لا تتوقف، تطفو هي الأخرى فتطفو ألحان ديسبلا معها، كان لا بد له من استخدام آلات النفخية فاعتمد على 12 آلة فلوت وأكورديون وصفير بشري ناعم يجعل أصواته تبدو كما لو أنّها تحت الماء.

   

      

"عندما تسمع الموسيقى من تحت الماء تشعر بمسافة عنها، هناك شيء غير واضح فيها وكأنّها مكتومة. أردت أن أُبرز هذا الكتم في ألحاني" في مقطوعة "The Shape of Water" أراد ديسبلا التعبير عن الوحش القادم من أميركا الجنوبية بصوت يبدو وكأنه ينتمي إلى هناك، فاستخدم نوعا محددا من أنواع الأكورديون ذي منشأ لاتيني تماما كما هو الوحش القادم من الأمازون.(5)

   

تمتعت موسيقى "شكل الماء" بخفّة حقيقية يمكن الإمساك بها في مشهد القبلة الأولى التي جمعت بين إيلايزا وحبيبها "الوحش"، ورغم رومانسية المشهد أبقى ديسبلا على آلاته كما هي، بدا صوت الحبّ هذه المرّة واضحا لا كتمان فيه كما نسمع في "Underwater Kiss". إيلايزا التي تتكلم بلغة الإشارة فقط وتعتمد على جارها المثلي وزميلتها السمراء في فهم العالم لم يعوضها عن فقدان النطق سوى أنها ترى بعين غير التي يرى بها العاديون، فكانت وحدها من رأى في وحش برمائي حبيبا في لحظة رآه الجميع مسخا إما أن يستغلوه أو أن ينتهوا منه.

      

استطاعت إيلايزا أن تتواصل مع هذا الوحش عبر الموسيقى بالأساس، لذا لا ينسى ديسبلا أن يُخصص له مقطوعة "The Creature" الظلامية والمليئة بالرعب والقلق بحضور الآلات الوترية فيها وكأنها موسيقى من فيلم لهيتشكوك، محاولا أن يدعم مخيلتنا بالمزيد من الصور النمطية التي يتعمّد هدمها لاحقا، على عكس تلك التي حملت اسم "Elisa’s Theme" حين جاءت ناعمة كحلم جميل أو كنسمة لطيفة، يمكن سماعها وتخيّل لو كان عقل إيلايزا يصدح بها أيضا فيكون كل هذا الجمال الداخلي فيها مُبررا أكثر!

    

كارتر بورول.. هانز زيمر وجون ويليامز

undefined

 

يملك كارتر بورول في رصيده مئة فيلم قام بتأليف الموسيقى التصويرية لهم، كان من ضمنهم الأفلام الثلاثة التي أخرجها الأميركي مارتن ماكدونا حيث ينافس كلاهما على نيل جائزة الأوسكار الأولى لهما عن فيلم طويل هذا العام بعد تعاونهما في فيلم "ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينغ، ميسوري"، يتبع بورول مدرسة "إنيو موريكوني" في التأليف الموسيقي، فيعتمد على البساطة الشديدة في ألحانه مقابل تأثيرها العظيم في طريقة تلقي الفيلم.

   

في صبيحة يوم عادي كانت الأمور في واحدة من بلدات ميسوري الأميركية على وشك الانقلاب عندما قامت أمّ مكلومة بمقتل ابنتها بعد اغتصابها باستئجار ثلاث لوحات إعلانية ضخمة على طريق جانبي كتبت عليهم تساؤلا بسيطا: "اُغتصبت أثناء قتلها، ولم يعتقل أحد، كيف حدث هذا أيها المأمور ويلوغبي؟"

   

   

ليتضح بعدها أن ما قامت به هذه السيدة ليس بالبساطة التي يبدو عليها، فالشخصيات الأخرى تحلت بكثير من التعقيد الذي صعّد الموقف مع غياب "عدو" حقيقي يمكن للفيلم أن يرتكز عليه، وهو ما يستمر باستغلاله مخرج العمل وكاتبه مارتن ماكدونا من خلال تحويله الأشرار إلى خيّرين والعكس، إلى جانب ذلك كله كانت موسيقى بورول أكبر تعبير عن حالة الغضب التي تملّكت الأم ونزوعها الخاص إلى إحداث الضجة اللازمة من أجل تحريك المياه الراكدة في قضية ابنتها المغدورة.

   

يمكن قراءة الموسيقى تماما كما نفعل مع الفيلم، أي من وجهة نظر الأم، الممثلة الأميركية فرانسيس مكدورماند التي حصدت حتى اللحظة كافة جوائز التمثيل عن هذا الدور، والتي تسود عليها الحالة المأساوية للأُم المتعطشة للعدالة دون أمل حقيقي في تحقيقها. فغلب على الموسيقى أيضا الحس السوداوي دون أن تكون بسيطة في تركيبها يتخللها بعض الألحان المرحة كما في مقطوعة "Mildred Goes to War" والتي تمثل تعبيرا حقيقيا عن روح الفيلم الدرامية ضمن أجواء من الكوميديا.  

   

هانز زيمر والمخرج كريستوفر نولان
هانز زيمر والمخرج كريستوفر نولان

    

مُشتغلا على فيلمين من أضخم الإنتاجات في عام 2017 استطاع المؤلف الموسيقي هانز زيمر أن يحجز لنفسه الترشيح رقم 11 في تاريخه لجائزة الأوسكار، وهو الثالث ضمن أعمال جمعت بينه وبين المخرج الإنجليزي كريستوفر نولان، إذ جاء هذه المرة عن فيلم "دونكيرك" (Dunkirk)، فقدّم 11 قطعة تراوحت في طولها بين 5 دقائق و7، مما يعني أنها طويلة نسبيا.

  

يسير الفيلم بثلاثة خطوط زمنية مختلفة رغم حدوثها في نفس الوقت تقريبا، وهو ما أقام عليه نولان المهووس بالزمن فيلمه الذي يتحدث عن عمليّة إخلاء الجيش البريطاني المُحاصر في دونكيرك أثناء الحرب العالمية الثانية من ثلاثة مواقع وأزمنة متفاوتة، أحدها على الأرض مع جنود المشاة وعلى مدار أسبوع كامل، والثاني في البحر مع أحد المُنقذين على مدار يوم واحد، والأخير في الجو برفقة أحد الطيّارين وعلى مدار ساعة واحدة.

   

استخدم زيمر تأثير نغمة شيبرد كما فعل في عدد من أعماله السابقة، وهو تأثير يعطي إيهاما للمُستمع بأن النغمة التي يستمع إليها لا تنتهي أبدا، من خلال العلو في طبقة معينة من النغمات، مع الدنو في أُخرى، ووضع ثالثة في موقف ثابت متوسط، والاستمرار بعكس العملية أكثر من مرّة. تحايل موسيقي ذكي يُمثّل ربما حالة الانتظار القاتلة التي عانى منها الجنود البريطانيون على الأرض طيلة أسبوع من التهديد المُستمر بالموت في أيّ لحظة.

      

   

أمّا بالنسبة لجون وليامز، فرغم توقّع العديد أن الترشيح رقم 51 الذي سيناله لجائزة الأوسكار سيكون عن فيلم "ذا بوست" (The Post) فإنه فاجأ الجميع وناله عن فيلم حرب النجوم الأخير، وهو بذلك يحوّل ساحة التنافس إلى "حرب نجوم" بطريقة ما كونه قد حصل على خمس جوائز فيما سبق كان أحدها عن فيلم "حرب النجوم: أمل جديد" الصادر عام 1977.

   

يستمر وليامز بإثبات أنه الأفضل فيما يتعلق بموسيقى أفلام الأبطال الخارقين أو الأفلام ذات الإقبال الجماهيري الكبير والأعمال الأسطوريّة. عبر سنوات عديدة سطّر وليامز اسمه كواحد ممن غيّروا شكل الموسيقى التصويرية في هوليوود، بل إن العديد ممن يشتغلون اليوم في المجال ذاته يعتبرونه أبا روحيا لهم.