شعار قسم ميدان

بينك فلويد.. ما هدف وجودنا في هذه الحياة؟

ميدان - فرقة بينك فلويد
استمع للتقرير

  

"طويلا تعيش وعاليا تطير
كل بسماتك وكل دموعك
كل ما تمس وكل ما ترى
هو كل ما ستكونه حياتك"

(من أغنية "تنفس")

  

في وحدته الباردة عند آخر فصول الرواية، أخذ راسكيلنكوف بطل "الجريمة والعقاب" يتساءل: ما الذي يعيش من أجله؟ ماذا يبقيه على قيد الحياة؟ ما الذي يجعله يختار أن يستيقظ في الصباح ويمضي عبر ساعات اليوم البائسة عوضا عن التخلص من كل هذا الألم والانتحار؟ باختصار، لماذا يعيش؟ أيعيش فقط كاستمرار لوجوده؟ (1)

  

قد تستغرب تساؤل راسكلينكوف الأخير، لكن عليك أن تأخذ في الاعتبار أن كلمتي الوجود والعيش ليستا بالمترادفتين. فكل ما تقع عليه عيناك هو بالضرورة موجود، وكل ما يشغل حيزا في المكان ويقع داخل الزمان موجود، وكل ما ليس عدما موجود. أنت، كونك على قيد الحياة ورئتاك تتنفسان وقلبك يعمل بشكل سليم موجود. لكن، هل أنت عائش؟ بمعنى آخر: هل يوجد معنى ما وراء حياتك؟

   

شغل هذا السؤال فلاسفة القرن العشرين وكان الأساس الذي قامت عليه فلسفات بعينها كالوجودية. في كتابه "أسطورة سيزيف"، يعقد الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو المقارنة بين إنسان العصر الحديث وحياته المكونة من: "النهوض، الحافلة، أربع ساعات في الدائرة* أو المصنع، وجبة الطعام، الحافلة، أربع ساعات من العمل، وجبة الطعام، النوم، والاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، طبقا للنسق نفسه"(2)، وسيزيف، البطل الإغريقي الذي حكمت عليه الآلهة بدحرجة حجر لقمّة جبل فقط ليراه يسقط ثانية ويدحرجه مرة أخرى للقمّة وهكذا للأبد (3). يطرح كامو فكرة أن حياتنا التي نعجز عن إيجاد معنى من ورائها لا تقل عبثية عن حياة سيزيف.

  

نجد هذه الفكرة تغلب على أعمال فرقة الروك الإنجليزية "بينك فلويد" والتي تتعرض في أعمالها لطرح تساؤلات كثيرة عن المعنى الكامن وراء الحياة، وإحساس الإنسان بالعزلة، وعبثية الحياة الحديثة وضغوطها التي قد تقود المرء إلى الجنون.

  

بينك فلويد
فرقة 
فرقة "بينك فلويد"  من اليمين إلى اليسار: ريتشارد رايت، دافيد جيلمور، نيك ماسون، روجر واترز (مواقع  التواصل)

  

في منتصف ستينيات القرن الماضي، اجتمع أربعة من الشباب البريطاني في العشرينيات من عمره وكوّنوا الفرقة التي سيطلقون عليها لاحقا "بينك فلويد". تكوّنت الفرقة حينها من عازف الجيتار "سيد باريت"، عازف البيانو "ريتشارد رايت"، عازف الطبول "نيك ماسون"، وعازف الباص الجيتار "روجر واترز".

  

ظلّت الفرقة تحت قيادة "سيد باريت" لثلاث سنوات قبل أن يغادرها للأبد لتدهور حالته الذهنية نتيجة لتعاطيه عقارات الهلوسة. اختارت الفرقة "دافيد جيلمور" ليـأخذ مكانه في عزف الجيتار وتولي "روجر واترز" قيادة الفرقة. كان واترز أيضا مؤلف الكلمات الرئيسي وصاحب فكرة أشهر ألبومات بينك فلويد: "الجانب المظلم للقمر" و"الجدار". حظيت فرقة "بينك فلويد" على شهرة مدوية ومكانة كبيرة عند الجمهور والنقاد على السواء ودخل كثير من ألبوماتها وأغنياتها قوائم "الرولينج ستونز" لأفضل الأعمال الغنائية على الإطلاق (4).

  

تتميز فرقة "بينك فلويد" عن غيرها من الفرق باقتصارها على إنتاج الـ "Concept Album" أو "ألبوم الفكرة"، فبدلا من مناقشة فكرة ما عبر أغنية واحدة، يتم اتخاذ الفكرة كثيمة أساسية لألبوم كامل تطرح كل أغنية إحدى جوانبها. (6) كما امتازت موسيقى الفرقة أيضا بإدخال عناصر ومؤثرات صوتية غير موسيقية في أغانيها لخلق مناخ مناسب للفكرة التي تطرحها الكلمات.

  

الجانب المظلم للقمر
غلاف ألبوم
غلاف ألبوم "الجانب المظلم للقمر" (مواقع التواصل)

  

"كنا نجلس في غرفة التدريب عندما خطرت لروجر فكرة مناقشة كل الأشياء التي تدفع بالناس إلى الجنون"(5). هكذا وصف "دافيد جيلمور" اللحظة التي جاءت لروجر واترز فيها فكرة ألبوم "الجانب المظلم للقمر" الذي خرج إلى الوجود عام 1973 ليصبح أحد أعظم ألبومات موسيقى الروك على الإطلاق.

  

بطريقة ما، يمكننا النظر إلى أغاني الألبوم العشر كموسيقى تصويرية للحياة. فيبدأ أول جزء من أول أغنية بصوت نبضات قلب، وينتهي آخر جزء من آخر أغنية أيضا بصوت نبضات قلب. وبين نبضة القلب الأولى ونبضة القلب الأخيرة تتابع أغاني الألبوم مصورة فصولا من حياة كل منا وفي كل فصل منها سؤال كامن عن المعنى من وراء كل هذا.

 

أول شيء فعلناه حين جئنا إلى العالم هو أن تنفسنا. منذ ذلك الحين في كل لحظة لا نتوقف أبدا عن التنفس. يظل فعل التنفس البيولوجي البسيط إذن أساسا يقوم عليه كل وجودنا المعقد، ولهذا جاءت أغنية "تنفس" (Breathe) في بداية الألبوم كأول أغنية فيه مرفقة بالكلمات.

   

(أغنية "تنفس")
    

علينا أن نسأل: ماذا بعد التنفس؟ ماذا بعد المجيء إلى الوجود؟ ماذا عن الحياة؟ تجيب الأغنية عن هذا التساؤل أن حياة كل منا هي مجموع لكل لحظاته، وكل تجاربه، الحزينة منها والسعيدة، مجموع كل من اختلط به وعرفه، وكل ما رآه، وكل ما لمسه.

"طويلا تعيش وعاليا تطير
كل بسماتك وكل دموعك
كل ما تمس وكل ما ترى
هو كل ما ستكونه حياتك"

  

تنتقل الأغنية بعدها إلى الوجه الآخر للحياة والذي يكاد يكون مضادا لها، تتناولها كحلبة سباق محموم يسير كل منا فيه.

  

في روايته "أولاد حارتنا" يعرض نجيب محفوظ عن طريق الرمز المعضلات الإنسانية والروحية الكبرى، فيرمز للإله بـ"جبلاوي" الأب، ويرمز لأول البشرية آدم بابنه "أدهم". عندما أخطأ أدهم وعصى جبلاوي، عاقبه جبلاوي عن طريق نفيه خارج قصره الجميل بحدائقه الغنّاءة.

      undefined

  

خارج أسوار القصر، يشعر أدهم بالوحشة والقلق. انتهت إلى الأبد تلك الأيام التي يأكل فيها ويشرب ويجول في حدائق البيت الكبير دون خوف عن كيف سيوفر لقمة غده. من الآن فصاعدا ستختلط يده الناعمة بتراب الأرض، سيضطر أن يكد ويشقى ويعمل حتى يستمر في العيش هو وزوجته أميمة (حواء) وأولادهما القادمون. نرى إذن في طرح محفوظ العمل كعقاب سلّطه الإله على الإنسانية، وأن الحالة المثلى ستكون أن نتمكن من الاستمتاع بطيبات الحياة دون أن نشقى لتوفيرها.

  

يأتي طرح أغنية "تنفس" للعمل قريبا من طرح محفوظ. فعلى جانب، تقف كل لحظاتنا وخبراتنا الحياتية، وعلى الجانب الآخر، يأتي سباقنا المحموم إلى القمة. وكل دقيقة نقضيها في السباق/العمل هي بالضرورة دقيقة تأخذها من حياتنا. في طرح "بينك فلويد" يأتي العمل الذي نقوم به فقط لكسب العيش كالحجر الذي يدحرجه سيزيف إلى الأبد دون معنى.

"اجْرِ، اجْرِ يا أرنب
احفر النفق، انسَ الشمس
وعندما تنتهي من العمل
لا تسترح
بل احفر نفقا آخر"

  

تنتهي الأغنية بالفكرة المتشائمة أن سباقنا المحموم نحو النقود والنجاح والشهرة والمجد ليس في الحقيقة سوى سباق إلى القبر، مشيرة في ذلك إلى اللامعنى وراء تلك الطموحات الفانية.

"طويلا تعيش، وعاليا تطير
لكن فقط إن استطعت ركوب المد
والاتزان فوق أكبر موجة
فسباقك هو نحو موت مبكر"

 

ثم يأتي "الوقت" كأحد أبرز مسببات أزماتنا الوجودية في الحياة. فنحن، كوننا بشرا فانين، لا نمتلك سوى مقدار محدود منه، وكل دقيقة تمر بنا تقربنا أكثر للنهاية. وعلى محدودية الوقت تترتب محدودية خيارتنا في الحياة، فلا أبدية تلوح في الأفق حتى نتمكن من تجربة كل الخيارات المتاحة عند مفترقات الطرق التي تقابلنا. لذلك، فعلى اسم "الوقت" (Time) جاءت ثاني أغنية مرفقة بالكلمات في "الجانب المظلم للقمر".

 

(أغنية "الوقت")

  

نتيجة لمحدودية الوقت ومحدودية الخيارات تواجهنا معضلة أخرى وهي: ماذا عسانا نفعل؟ أو بمعنى أصح: ماذا عسانا نختار؟ فنحن في النهاية نجهل نتائج خياراتنا، وعندما نعرفها يكون الوقت قد فات لتغييرها. من ثم، فنتيجة لكثرة الطرق التي قد نسلك واستحالة معرفة نهاية أي منها، يصاب الكثير منا بالشلل، ويؤثر عدم فعل أي شيء على المخاطرة بفعل الشيء الخاطئ.

 

تناقش أغنية "الوقت" حالة الشلل تلك التي قد تصيبنا وتمنعنا من الاختيار. تبدأ الأغنية بصوت ساعات ومنبهات تدق ومن ورائها دقات قلب، في إشارة إلى تفاعل الوقت بشكله الموضوعي متمثلا في دقات الساعة مع الوقت في شكله الذاتي متمثلا في دقات القلب. بعدها، تُصوِّر مشهدا لشخص قد يكون أيًّا منا وهو يضيع اليوم تلو الآخر "منتظرا أن يأتي شخص أو شيء ليرشده". ثم تأتي نتيجة الانتظار بلا نهاية الحتمية:

"وتجد في أحد الأيام
أن عشر سنوات قد فاتت
أحد لم يخبرك متى تبدأ بالجري
وفوّت صفارة البداية"

 

يقول "روجر واترز" أنه كتب تلك الأغنية عند بلوغه الثامنة والعشرين من عمره، عندما أدرك فجأة أنه ما عاد في مرحلة التجهيز "للمستقبل" عندما "يكبر"، بل إنه قد كبر بالفعل وما كان مستقبلا صار هو الحاضر.
 

تتابع أغاني الألبوم عارضة لضغوط الحياة الحديثة العبثية التي قد تقود المرء في النهاية إلى المرض النفسي أو في أسوأ الحالات إلى الجنون. فتأتي أغنية "على الطريق" (On The Run) الخالية من الكلمات بمؤثراتها الصوتية تحاكي خُطى شخص يحاول اللحاق بطائرته التي تتحطم في النهاية في إشارة أخرى إلى ضغوط الحياة المهنية. ثم تأتي أغنية "النقود" (Money) عارضة بشكل ساخر لحياتنا التي صارت تتمحور حول الاستهلاك والرغبة الدائمة في مزيد من النقود لشراء مزيد من الأشياء، أو كما قال تشاك بولانيك في روايته "نادي القتال": "نعمل في وظائف نكرهها لنشتري هراء لا نحتاجه".

   

وفي أغنية "نحن وهم" (Us and Them) تعرض الفرقة للامعنى الكامن وراء الحروب في تشبيه لما يجري بلعبة شطرنج تموت فيها البيادق دفاعا عن الملوك. وأخيرا في "عقل مدمر" (Brain Damage) نكون قد وصلنا إلى الذروة وهي الجنون. لم يستطع "روجر واترز" تخطي ما حدث لصديقه "سيد باريت" من تدهور لحالته الذهنية واضطرارهم لإخراجه من الفرقة لعجزه عن العزف معهم. نجد بطريقة ما في معظم ألبومات الفرقة التالية لرحيله إشارة ما له، وقد جاءت تلك الإشارة في ألبوم "الجانب المظلم للقمر" في أغنية "عقل مدمر"(7).

   

(أغنية "عقل مدمر")

   

يمكن النظر إلى أغنية "عقل مدمر" على مستويين، على المستوى الأول يمكن رؤيتها كتناول للجنون بمعناه الحرفي، وعلى المستوى الثاني، يمكن اعتبار "الجنون" في الأغنية مجازا لوصف كل شخص يتمرد على قواعد المجتمع. توجد في الأغنية أيضا إشارة إلى العمليات الجراحية النفسية (Psychosurgery) التي كان يتم إجراؤها في القرن الماضي للمرضى النفسيين، فيتم شق أو استئصال أجزاء كاملة من الفص الجبهي في المخ، وينتج عنها تغيير تام في شخصية المريض (8).

"ترفع الشفرة، تجري التغيير
تعيد ترتيبي لأصبح عاقلا
تقفل الباب وتخفي المفتاح
هنالك شخص في رأسي لكنه ليس أنا"

 

واصلت فرقة "بينك فلويد" إنتاج ألبومات وأغانٍ تتعرض لأسئلتنا الكبرى في الحياة وأزماتنا النفسية والوجودية بعمق لم تقترب منه فرقة أخرى. ويظل ألبوم "الجانب المظلم للقمر" أهم أعمالها، فحتى بعد مرور أكثر من أربعين عاما على إطلاقه، ما زالت في استطاعة أغانيه مخاطبة الكثير منا على مستوى عميق، كأنها إنسان يربت على كتفه ويقول: "لا تقلق، لست مجنونا تماما".

____________________________________

هوامش:

(*) جاءت في الترجمة الإنجليزية بمعنى "مكتب".

المصدر : الجزيرة