شعار قسم ميدان

محفوظ عبد الرحمن.. "اسمه على بوابتها"

ميدان - محفوظ عبد الرحمن

"اللي بنى مصر كان حلواني يا وِلداه

حلواني..

اسمه على بوابتها لا زال ولا زايل

لا زال ولا زايل.."

(سيد حجاب– مقدمة مسلسل بوابة الحلواني)

 

"أنا لا أؤمن بفكرة الأعمال الكاملة، الأعمال الكاملة تعني أن رحلة الكاتب قد انتهت وأن مشروعه قد اكتمل، وأن أشباحه قد تعبت من القدوم كل ليلة من أجل أن تتسامر في رأسه. إن أعمال الكاتب الكاملة، لو كان كاتبا بحق -وهو دوما ما كان أمرا مشكوك فيه بالنسبة لي على الأقل، وأنا الذي اعتزلتُ الكتابة مرات كثيرة- لا يجب أن تصدر إلا بعد استئذانه، وخروجه الأخير من مسرح الحياة، ساعتها فقط يمكن أن نقول إن عمله قد اكتمل، لأنه لم يعد ثمة أي مجالٍ لأن يضع شيئا جديدا من روحه على الورق"[1]

 

في ظهيرة يوم 19 (أغسطس/آب) الجاري، استأذن الكاتب المصري محفوظ عبد الرحمن ليغادر الحياة بعد معاناة طويلة مع المرض، وغيبوبة قصيرة، لا شك أنه لو كان قد عاد منها كان سيروي لنا بحكائيته المعهودة عمّا شاهد وسمع فيها من قصص، ومن التقى بهم من شخصيات، وما ذهب إليه من أزمنة، لكنه آثر أن ينفذ من طرف الممر الآخر بهدوء، كأنه خرج من خشبة المسرح إلى الكالوس ومن الكالوس إلى السماء مباشرة.

  

الكاتب والسيناريست المصري الراحل محفوظ عبد الرحمن (1941 - 2017)
الكاتب والسيناريست المصري الراحل محفوظ عبد الرحمن (1941 – 2017)
  

ولكن قبل هذا الاستئذان العاجل والهادئ، كان محفوظ عبد الرحمن قد أتم حفر اسمه على واحدة من بوابات أرض الكتابة الواسعة، ليس عبر الثلاث عشرة مسرحية أو الخمسة وعشرين مسلسلا أو الكتب الخمسة أو العدد غير المعلوم من السهرات التلفزيونية والمقالات، فالكتّاب لا يحفرون أسماءهم فوق بوابات المرور إلى أرض الكتابة بقياس كمي يسهل إحصاؤه، بل بحجم الأثر الذي تتركه أقلامهم فوق مسام الشعور وتحت باطن الذهن. إن الكاتب لا يصبح كاتبا إلا حين يحوِّل ما بين المتلقي ونفسه، ثم يعود ليجمع شملهما من جديد، لعل كل من كان ضالا يجد ضالته.

 

"فتشت في أحداث الزمن فلم أجد ما أُسليكم به، فالتاريخ كله كرسي وفكرة وكسرة خبز وخفقة قلب. فأما الكرسي، فإنه لا يُسلي بعد أن تَقاتل عليه الآباء والأبناء، وأما الفكرة فهي خطر علينا، فنصف من قُتلوا عبر القرون قُتلوا من أجلها، وأما كسرة الخبز فهي متجهمة لا تليق بالليالي الجميلة، وأما خفقة القلب فهي الغذاء الوحيد وسط الحرائق، فتشت كثيرا ولم أجد، ومع ذلك علي أن أحكي.."
– (محفوظ عبد الرحمن – مسرحية ما أجملنا).

 

بوابة الحلواني
ربما يُعتبر محفوظ عبد الرحمن كنزا مخفيا بالنسبة لأي ناقد أو متخصص يرغب في الاستغراق داخل عالم كاتب بعينه متخذا من منهج التحليل المقارن ممرا واسعا نحو استخلاص قراءات نابضة بحكمة السرد وقوة البناء ومتانة الأثر التاريخي والسياسي والإنساني في أعماله. فما بين الدراما التلفزيونية والمسرح، صنع عبد الرحمن بوابة يمكن من خلال النفاذ منها إدراك تفاصيل وخلفيات تجاربه عبر كل وسيط، بمعنى أننا لكي نتمكن من قراءة مسلسلاته بشكل جيد علينا أن نعود إلى مسرحياته وإذا أردنا أن نتوقف أمام أفكار بعينها في مسرحه الفكري الزخِم، علينا أن نعود لنجتاز بوابة مسلسلاته التلفزيونية… وهكذا.

 

"في عام 1975، كانت تُعرض لي أول مسرحية يتم إخراجها وتمثيلها على خشبة المسرح (حفلة على الخازوق) وكان مسلسل (سليمان الحلبي) يُعرض فى التلفزيون، وقد لاقى العملان إعجابا شديدا، وتناولتهما العديد من الأقلام بالنقد والتحليل. حينئذٍ، بدأت أشعر أننى لست مجرد هاوٍ أو متذوق، وبدأت أشعر -ولأول مرة- بمسئوليتي تجاه نفسي ككاتب، تلك المسئولية التى تمثلت فى القراءة والتثقيف والعمل. وأذكر أنني بعد ذلك فى الندوات كانوا يقولون (الكاتب الكبير) وكنت أتعجب كثيرا؛ لأنه لم يكن قد مرّ على اعترافي لنفسي بأنني كاتب سوى عام أو عامين على الأكثر[2]".

  

 

ثمة مفاتيح أساسية للولوج من البوابة الفاصلة ما بين المسرح والدراما التلفزيونية في كتابات محفوظ عبد الرحمن، يبدو أبرزها وأكثرها حضورا بالأساس هو فكرة العلاقة ما بين السلطة والشعب من ناحية، والعلاقة ما بين السلطة والمثقفين من ناحية أخرى. فإذا أردنا على سبيل المثال أن نحلل الشخصيات التاريخية السلطوية في أعمال مثل بوابة الحلواني (الخديوي إسماعيل) أو أم كلثوم (الملك فاروق وجمال عبد الناصر) أو ليلة سقوط غرناطة (عبد الله الصغير وفردناند وإيزابيلا) يمكن أن ننظر إلى حضور عنصر السلطة في آخر مسرحياته (بلقيس في مملكة التيه) حيث نجدها متبلورة جدا في ثلاثة نماذج هي الملك الهدهاد والد بلقيس بكل ضعفه وخيبته، والملك المسرور جدا الذي أحالنا لنموذج الحاكم الموتور، والملك الغائب الدكتاتور أو وهم السلطة المطلقة الذي يستدعي بلقيس ليتزوج منها قهرا..

 

"ليس لدي تفسير معين عن حضور فكرة السلطة ولا أحب فرض التفاسير، ولكن دعوني أتحدث عن مسرحية كتبتُها ولم أنشرها عن السندباد، وقد ذهب إلى أحد الجزر التي يحكمها سلطان مستبد، ثم مات هذا السلطان وأوصى ألا يأتي بعده ابنه مباشرة وهو ولد فاسد، وكان اللوبي الخاص بالسلطة يريد التوريث، وفي الوقت نفسه تنفيذ وصية الملك، فعرضوا على السندباد تولي السلطة لفترة وجيزة عقب الملك لثلاثة أيام، ولكنه رفض في البداية، فالشيء الوحيد الذي يجعلك تخسر نفسك هو كرسي السلطان، وبعد إلحاح يوافق السندباد، ولكنه بمجرد أن يجلس على العرش يستغرقه الشعور بتلك الشهوة ويعشقه، فيتحول إلى سلطان حقيقي ويستبد، بل يقتل ابن السلطان الوريث الشرعي ويتشبث بالحكم. هذا هو إحساسي تجاه السلطة تحديدا، إن الكرسي بغض النظر عن رمزيته تظل شهوته حقيقية، أن تجلس في هذا المكان فأنت تتحول إلى شخص آخر، يمكن أن تقتل من أجل أن يستمر هذا (الهيلامان)، ويمكن أن تعاقب هذا من أجل أنه انتقدك أو تكافئ ذاك لأنه امتدحك، ولقد عاشرت الكثيرين ممن ظلت علامات الكرسي ظاهرة على مؤخراتهم، بعضهم وزراء خرجوا من المنصب وأنشأوا جمعيات أهلية لتظل فكرة "الرئاسة" والمنصب قائمة"[3]

 

في مسرحه، كان عبد الرحمن يميل دوما إلى استخدام لفظ "السلطان" ليكون أقرب لذهن المتلقي لفكرة السلطة، بالإضافة إلى أنه كان مستلهما من الإطار التراثي المفتوح لتجاربِه المسرحية، فنجد أن لفظ السلطان يُوجد في عناوين (السلطان يلهو -عريس لبنت السلطان).. "أنا مستعير اللفظ من التراث بالطبع ولكنها استعارة مقصودة لأنها موصلة للفكرة، فلفظ الملك أو الوالي أقل في التوصيل، وفي عالمنا العربي استخدام مثل هذه الألفاظ يوقعك دوما في مشاكل، كنت أعرض "ما أجملنا" في أحد الدول العربية وبطلها والي على ولاية وهمية ولكن كان إلى جانبي يجلس والي الولاية التي نعرض فيها وكلما تحدثت الشخصيات المسرحية عن فساد الوالي تغير وجه الرجل. أنا لا تهمني شخصية السلطان ولا مَن أمامه، ولكن الفكر الذي تطرحه الشخصيات، أن القضية هي التي تشغلني، ومِن هنا لا ألجأ إلى تسمية شخصياتي المسرحية. إن ميزة المسرح بالنسبة لي هو هذا الفضاء التجريدي الذي يعفيك من أنسنة الشخصيات ولكن تركيز القضايا الكلية من خلال الشخصيات وصراعها وأفكارها"[4]

  undefined

 

إذن ما بين القضايا الكلية الكبرى في المسرح وما بين استدعاء اللحظات التاريخية في الدراما التلفزيونية (ليلة سقوط غرناطة -اغتيال كليبر على يد سليمان الحلبي -في فترة الحُكم العثماني لـمصر -عصر النهضة الحديثة تحت حكم الخديوي إسماعيل -تأميم قناة السويس) وذلك لتحقيق الامتداد الزمني ما بين الماضي والحاضر من أجل استقراء المستقبل، ما بين هذا وذاك توجد (بوابة الحلواني) المفتوحة ما بين عوالم محفوظ عبد الرحمن.

 

الكتابة على لحم يحترق
لا يوجد أكثر حساسية من الفنانين ولا أشد قلقا من المثقفين في استشعارهم للفساد المقيم أو الخطر القادم، ومن هنا ينطلقون في الكتابة والغناء وإطلاق الشعر في كل ركن من أركان المجتمع أسفا وتحذيرا وتمجيدا للمقاومة وتاكيدا على الحلم والثورة، وتدريجيا تصعد الأغاني إلى قصور السلاطين وتصل القصائد في بهو العروش فترتعش ظلالهم الخاملة على أرض الوطن وتصيب مناماتهم الطويلة كوابيس الاقتحام والإسقاط والإعدام باسم الشعب، وتدريجيا تصبح نشاطات المثقفين أشبه بالكتابة على لحم السلطة المحترق.

 

تظهر شخصية المثقف/الفنان في كل أعمال محفوظ عبد الرحمن المسرحية والتلفزيونية والسينمائية على حد سواء، وتبرز أيضا تلك العلاقة القلقة الجدلية ما بين المثقف/الفنان والسلطة، بل ويمتد السياق الفكري إلى محاولة طرح "السؤال الحاد" عن طبيعة الدور الاجتماعي والسياسي والإنساني الذي يجب على المثقف أن يلعبه.

 

يمكن بقليل من الحساسية أن نلمح هذا أيضا في مسرحيته الأخيرة "بلقيس"، حيث تتجلى في شخص الفيروزي الشاعر الذي يلحق بموكب بلقيس -في رحلتها للزواج القسري- حاملا خنجرا لقتل الملك.

تقول له بلقيس: (لقد انقلب الشاعر إلى مقاتل ولعله كان كذلك ونحن لا ندري).

فيرد الفيروزي: (لقد فقدت قدرتي على نسج الكلمات ولم يعد لي إلا السيف).

 

"في الثورات الكبرى دائما ما كان المثقف يتجاوز دوره الفكري أو المعنوي، تأملوا موقف اللورد بايرون الشاعر الشهير في الحرب اليونانية التركية، لقد ذهب يقاتل في الصفوف الأولى، إن وجود مثقف وسط الثوار أو المقاتلين هو شئ مهم جدا، ويمكن أن يكون دافعا للكثيرين.

  

غالبًا ما استطاع عبد الرحمن أن يضع كثيرا من فلسفته ورؤيته فيما يخص الشعب وعلاقته بالسلطة وأحلامه وقدراته الكامنة وصناعته للبطل القومي أو تحقيقه لشهرة الفنان
غالبًا ما استطاع عبد الرحمن أن يضع كثيرا من فلسفته ورؤيته فيما يخص الشعب وعلاقته بالسلطة وأحلامه وقدراته الكامنة وصناعته للبطل القومي أو تحقيقه لشهرة الفنان
  

في عام 56، على سبيل المثال، انطلقتُ أنا ومجموعة من أصدقائي، وكنا طلبة "مثقفين" نرغب في الانضمام للمقاومة الشعبية وحمل السلاح. وفي ثورة 19، كان الأساس هو التظاهر، وشارك فيها سيد درويش وبيرم بديع خيري وفاطمة اليوسف من مثقفي ذلك العصر -وهو ما كتبتُ عنه في مسلسلي الأخير "أهل الهوى". وفي مسرحية بلقيس، نجد الشاعر المثقف هو من أطلق شرارة القتال الأولى عندما قتل المنذر وزير الملك، هذا هو الدور الذي أراه للمثقف، إنه هو الذي يطلق الشرارة، أقول لكم نحن لدينا اختلاف بين مثقفينا ومثقفي الغرب، ولكن ليس لعيب فينا، وإنما في كم العداء الذي تُكنه السلطة للمثقف منذ عصر محمد علي وحتى اليوم، السلطة دوما في مصر ضد المثقفين. إن السلطة -بحكم مكرها أو فسادها أو خوفها- ترى دوما أن الخطر يكمن في المثقفين، لماذا مثلا تم  تعيين رفاعة الطهطاوي بكل شأنه مجرد ناظر لمدرسة في السودان؟! مرورا بكل ما تعرض له المثقفون من إقصاء أو سجن أو حتى اغتيال معنوي أو مادي من الأنظمة؟ وكلما توغلنا في تاريخ الأدب العربي سوف نكتشف أن نسبة هائلة من الشعراء العرب سواء ذائعي الصيت أو المجهولين، ماتوا قَتلا! وحتى أعظم شعراء عصره، المتنبي، مات مقتولا. وبالتالي هذا الاضطهاد ولّد نوعا من التقوقع لدى المثقف، وأصبح متكاسلا عن دخول المعركة، ولكن الطبيعي أن يتقدم الصفوف"[5]

 

في مسلسل عنترة، الذي أنجزه محفوظ عقب سليمان الحلبي -في أواخر السبعينيات- تتجاوز شخصية العبد الأسود الإطار الضيق الذي طالما حُصر فيه الشاعر والمقاتل الذي يبحث عن حبيبته البعيدة. لقد وجد محفوظ في عنترة ضالته التي تجمع ما بين الفن والثورة، قدّم محفوظ عنترة من زاوية الفنان الثوري الذي يملك مخزونا من الحساسية والخيال والشجن -بحكم كونه ولد عبدا ابن أمة-.

 

لهذا كان بحثه الأصيل هو سعي من أجل حريته لا من أجل إثبات وهم البطولة الزائل، لم يكن عنترة بالنسبة لعبد الرحمن بطلا مغوارا قادرا على انتزاع النخل من جذوره وضرب صفوف من الكومبارس الذين يعانون من الهزال -كما في الفيلم الشهير الذي قدمه فريد شوقي- بل كان فنانا ثوريّا يرغب في التحريض على الحرية، يرغب في أن ينتزع طوق القهر القابض على رقبته في مسرحية عريس بنت السلطان يقول: (عندما تكون الإجابة دائما نعم، ونعم ،فقط فهذا هو القهر)، ولما يكون لزاما على العبد أن يقول نعم فقط، فقد كانت ثورة عنترة الشاعر هو ثورة الفنان ضد القهر، وثورة الاختيار ضد الجبر.

 

بلقيس: "أريد أن أجيب بـ"لا" على طلب الملك".

آصف مبعوث الملك: "لماذا؟ إن نعم هي دائما الأفضل!"

بلقيس: "حتى لو "لا" هي الأسوأ.. أليس لدي الحرية في اختيار الأسوأ!"

  

يبدو الشعب، الناس، أهل المدينة، المواطنون، جزء من النسيج العام دوما لأعمال محفوظ عبد الرحمن، سواء في المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية
يبدو الشعب، الناس، أهل المدينة، المواطنون، جزء من النسيج العام دوما لأعمال محفوظ عبد الرحمن، سواء في المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية
  

إن الكثير من سياقات العلاقة بين المثقف والسلطة تتجلى في مسلسلات محفوظ عبد الرحمن والتي يمكن من خلالها تجاوز فكرة العلاقة نفسها إلى قراءة العصر بأكمله، ويمكن للمشاهد العابر أن يرصد ذلك في العلاقة ما بين الخديوي إسماعيل وكلٍ من ألمظ وعبده الحامولي في بوابة الحلواني، وأم كلثوم والملك فاروق وجمال عبد الناصر في أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومجلس قيادة الثورة ونظام ناصر في حليم وفي علاقة بيرم التونسي والوسط الثقافي والفني المصري بالصراع السياسي والثوري إبان ثورة 19 في أهل الهوى. بل إن أولى أعماله التلفزيونية التي قدمها عام 1972 كان مسلسلا عن عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية والفنان المصري الشامل وذلك اقتباسا عن رواية العودة من المنفى للكتاب أبو المعاطي أبو النجا.

 

إن ما يبدو ظاهريا استغراقا في التاريخ السياسي المصري والعربي عبر مسلسلات محفوظ عبد الرحمن، إلا أن قلب أعماله النابض بالخيال والحلم والثورة هو شخصية الفنان/المثقف، وإلا لماذا كان لديه دوما هاجس أن يكون الفنان حاضرا إما كشخصية رئيسية في أعماله (عبد الله النديم -عنترة -المتنبي -أم كلثوم -بيرم التونسي -حليم) أو كجزء من محاولة قراءة العصر بأكمله (بوابة الحلواني).

 

لو كنت تدري ولا أظنك تدري

لن يوصف شخص يجلس فوق هذا العرش بأنه سعيد

لو كنت تدري ولا أظنك تدري

أتمنى الموت قبل أن أرى غيرك في هذا المكان

ولكننا للأسف مقبلون على ما هو أسوأ من الموت..

– (ليلة سقوط غرناطة)

 

دعوة خاصة جدا
كثيرا ما كانت الاتهامات تلاحق دوما مسلسلات وأفلام السير الذاتية التي كان محفوظ عبد الرحمن واحدا ممن أطلقوا شرارتها حين قدم مسلسل أم كلثوم في نهاية التسعينيات من إخراج "أنعام محمد علي" ثم فيلم حليم من إخراج شريف عرفة، وكان الاتهام الرئيسي الذي طالما يَطال هذه الأعمال والذي أصبح سمة أساسية في كثير من أعمال السير الذاتية التي حاولت أن تقتفي أثر الشرارة الأولى بكل قوتها وأصالتها التي لم تتكرر كثيرا، كان الاتهام هو داء المثالية واسع الانتشار في إبعاد الشخصية التي ينهض العمل على أكتاف حياتها الخاصة وسيرتها المهنية، خاصة عندما تكون هذه الشخصية في حجم أم كلثوم على سبيل المثال أو عبد الحليم حافظ.

  

  

ولكن ما أغفله الكثيرون من أصحاب نظرية المثالية والخير المطلق غير البشري في نظرتهم إلى هذه الشخصيات أن محفوظ عبد الرحمن لم يكن معنيا في المقام الأول بالشخصية كسيرة ذاتية خاصة لها، وإنما كانت الشخصية دوما مفتاح قراءة العصر بأكمله كما سبق وأشرنا، كانت الشخصية سواء كانت فنية أو سياسية هي مفتاح الولوج إلى سمات العصر أو أركان القضية أو تفاصيل الحدث، كما في ناصر 56 الذي لا يعتبر من أفلام السير الذاتية على عكس ما يصنفه البعض، وإنما هو محاولة توثيقية لحادث تأميم قناة السويس والذي يعتبر أول خطوة على طريق ترسيخ دعائم "نظام يوليو" ليس فقط على المستوى المحلي وإنما الدولي أيضا.

 

وهو في جانب منه جزء من مشروع عبد الرحمن في تتبع عصر النهضة الذي بدأ مع إسماعيل ورصده في بوابة الحلواني من خلال التناول التفصيلي لمشروع حفر قناة السويس، وبالتالي فإن مشاهدة بوابة الحلواني متبوعه بناصر 56 كافية لتلمس ملامح هذا المشروع الدرامي وبقوة والذي يتكامل بشكل واضح مع سياقات مسلسل أم كلثوم والذي يتسلم الشعلة تقريبا من مسلسل بوابة الحلواني؛ حيث يستكمل محفوظ قراءته في تاريخ مشروع النهضة المصري ما بعد عصر الخديوي إسماعيل مستخدما شخصية استثنائية مثل أم كلثوم مكنته رحلتها الفنية والإنسانية والاجتماعية والسياسية من تحقيق الامتداد الزمني المطلوب لمصر ما بعد عصر إسماعيل وحتى منتصف سبعينيات القرن العشرين مع بداية الانتكاسة السياسية والاجتماعية والردة الحضارية التي شهدها المجتمع، وكأن موت أم كلثوم في تأويله الأشمل لَهو نهاية لعصر النهضة وبداية النفق المظلم الذي دخلت إليه مصر ولم تخرج منه حتى الآن.

 

إذن، لم يكن هذا الكاتب مَعنيا بالإخلاص في تقديم الشخصية مستوفية أبعاد الخير والشر والذكاء والمكر والقوة والبطش، بل كانت عينه دوما على العصر بمشتملاته والتي لم تكن الشخصية في النهاية سوى مجرد مفتاح للولوج إليه عبر تفاصيلها الأعم وليس حدودها الخاصة.

 

السيد (م)
يبدو الشعب، الناس، أهل المدينة، المواطنون، جزء من النسيج العام دوما لأعمال محفوظ عبد الرحمن، سواء في المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية، هل تذكرون حامد عدلي الجميل موظف الكوبانية البورسعيدي المفصول في ناصر 56..

 

ناصر: "ما تيجي تشتغل معانا في مصر."

حامد متعجبا: "أومّال إحنا هنا فين؟"

 

والسيدة غنيمة قرني الكحال التي أحضرت لناصر ثوب جدها الكبير قرني الكحال على اعتبار أن ما فعله عبد الناصر وقت تأميم القناة هو أخذ بالثأر لآلاف من المصريين الذين ماتوا أثناء الحفر.هل يمكن تصور بوابة الحلواني بدون أسرة الحلوانية (شلش الحلواني وسلامة وحمزة وأصيلة وأم أصيلة) التي كانت تسكن الفرما (بورسعيد قبل حفر القناة) وتشكل من شتاتها بين المحروسة وقصر الخديوي وصولا إلى الأستانة تلك الأرضية الاجتماعية الشعبية التي تخص مصر ما قبل وأثناء عصر إسماعيل؟

 

مِن عرض لمسرحية
مِن عرض لمسرحية "عريس بنت السلطان" بقصر ثقافة شُبرا الخيمة
  

هل تعلمون من هو عريس بنت السلطان ذهبية الذي فاز بها في النهاية؟ إنه أحمد الغلبان، الصعلوك الذي يحمل رسالة خاقان التتار التحذيرية إلى رأس السلطة والذي يرى أنه (من السهل أن تكون سلطانا، ولكن من الصعب أن تعود إلى نفسك بعد ذلك، أفضل لك أن تكون صعلوكا، فلا تفقد أبدا متعة الحلم) وأن (عمر الإنسان لا يقاس بالسنين بل بعدد المرات التي يختار فيها بين ما لا يجب وما لا يجب، أي بين الخطأ والخطأ).

 

على لسان العامة وشخصيات أهل البلد والمواطنين والطبقات الشعبية أو البنية التحتية الاجتماعية غالبا ما استطاع عبد الرحمن أن يضع كثيرا من فلسفته ورؤيته فيما يخص الشعب وعلاقته بالسلطة وأحلامه وقدراته الكامنة وصناعته للبطل القومي أو تحقيقه لشهرة الفنان، الشعب لدى عبد الرحمن هو ذاته العصر الذي يتحدث عنه، فلا زمان ولا مكان بلا بشر، لأنهم روح الحياة وعقلها الواعي.

 

في مسرحيته الأخيرة "بلقيس في مملكة التيه" تدور الأحداث وسط مجموعة الملك وحاشية بلقيس ولا يوجد حضور للشعب سوى في الفصل الأخير حين تظهر شخصية علاء الدين هذا الكسيح الجالس على قارعة الطريق الذي تحدث له حالة من التآخي والانسجام مع القائد العسكري الأعمى "عاني"، تصل هذه الحالة إلى حد أن يحمله عاني ويجلسهُ على كتفه، ومن هنا تتسع الدلالة وتحتاج إلى تأويل، فهذه القوة العسكرية العمياء أو التي أصبحت عمياء بعد معركة مع جيوش الملك لا تستطيع أن ترى سوى بعيون الشعب وهذا الشعب كسيح لا يمكن أن يسير دون القوة العسكرية التي هي ساقيه!

 

"لا أريد تحميل النص أكثر مما يحتمل ولكن فنية الفكرة هي التي كانت آخذة بالنسبة لي، بغض النظر عن الدلالات، إنها فكرة التكامل الذي ينتج عن اجتماع شخصيتين بعاهتين مختلفتين، الأعمى والكسيح، ولكن هذا ليس أي أعمى وذاك ليس أي كسيح!  إن الكسيح بلا ذاكرة. وإذا كان أحدهم يبحث عن الدلالات فإنني أنصحه بالتفكير في معنى أن يكون علاء الدين هذا الشاب العادي بلا ذاكرة! ولكن على أية حال، المنتج النهائي هو وجود كائن متكامل يتمكن من خوض معركة والانتصار فيها بعد أن أصبح هذا يرى وهذا يسير، وما أشد حاجتنا لهذا التكامل في الفترة الراهنة من تاريخنا المعاصر"[6]

المصدر : الجزيرة