شعار قسم ميدان

ديفيد آبير.. حينما يعكس المسرح هموم الإنسان وأحلامه

ميدان - ديفيد آبير

"أجد دائمًا أعظم الأشياء إثارة عندما يكون هناك كشف للشخصية، تلك هي اللحظة التي أجد فيها المسرحية. إن عدم معرفة ما سيحدث، هو ما يجعل الكتابة متعة بالنسبة لي. هذا هو فرح الكتابة"
(ديفيد آبير)

      

يحكي آبير أن ولعه بالمسرح بدأ حين شاهد أول عرض في حياته في جنوب بوسطن (حيث ولد)، كانت أوبرا حول "بابار الأسد" وقد رأى ضمن العرض حفلات راقصة. ثم مسرحية من فرقة متجولة هي "آني اليتيمة الصغيرة" في مسرح الكولونيال في بوسطن في سن الثامنة. (1)

       
تشكك في البداية أن يكون المسرح طريقا وهدفا له، لكنه بدأ في كتابة المسرح في سن صغيرة وحصل على منحة لدراسة المسرح في أكاديمية ميلتون للمسرح، حيث درس الدراما ومسرح شكسبير والمسرح الإغريقي والمسرح الحديث ومدارسه.  ومع تجربته التمثيل في بعض المسرحيات، أصبح المسرح هدفه، والكتابة المسرحية هي الشيء الذي يريد فعله.

        
أُعجب آبير بشكل كبير بيوجين يونسكو وإدوارد ألبي. أُعجب بجمعهم مشاعر متناقصة وحادة، وقدرتهم على أن يقدموا شيئًا يكون مضحكًا أو عبثيًا أو يدعو إلى السخرية لكنه في جوهره يرتكز على مسألة مؤلمة وصادقة وإنسانية.  فيونسكو مثلًا كل شيء عنده أكثر حزنًا وكل شيء في الوقت نفسه هراء مضحك وادوارد ألبي كذلك هو الآخر. وقد وصل كلاهما إلى إنتاجه وكانا شديدا الدعم له، في وقت كان يعمل فيه في متجر لبيع الكتب. وكان دعمهما له بمثابة الربتة على الظهر.

     

فيودي ميرز وأعجوبة العالم
بالنسبة لآيبر كل ما يحدث في الحياة يجري صبّه على خشبة المسرح. وكان آبير قد بدأ العمل على مسرحيته فيودي ميزر في ورشة عمل في مؤتمر يوجي أونيل لكتاب المسرح.  في تلك الفترة كما كان يقول، يظن نفسه يعاني من حالة فقدان الذاكرة، ذكريات في رأسه ولا يعرف أصلها، ولا أي دليل على أنها كانت موجودة من الأساس. وجاءت البذور الفعلية للمسرحية حين شاهد تقريرًا إخباريًا عن امرأة تعاني من حالة فقدان الذاكرة، وفي كل ليلة تمثل الأسرة نفس الحياة، وأصبحت الحياة مجرد يوم واحد.
         

undefined 

       

وتكررت الحكاية نفسها مع كتابته لـ " كيمبرلي أكيمبو"؛ حيث كان أحد أصدقاءه قد أخبره أن ابنة أخيه رزقت بطفل لكنه ولد مريضًا، وأخبرته أنه رعايته تشبه رعاية امرأة عجوز عمرها 90 عامًا محاصرة في جسم طفل. المسألة كانت مزعجة له، لكنه كتب المسرحية عن تلك الحالة تحت عنوان" كيمبرلي أكيمبو"، وعند العرض الذي أشرف عليه، وجد نفسه في حاجة إلى شخصية تقدر على لعب دور فتاة في السادسة عشرة من عمرها، فتاة تشبه امرأة عجوز، وقد وجد ضالته في "ماري لويز بيرك" التي أدت الدور بمهارة.

        
وفي مسرحية "أعجوبة العالم" عمل آبير مع " سارة جيسيكا باركر" الممثلة الهزلية المشهورة. كان مع كتابته تلك المسرحية قد بدأ يصبح لديه قضاياه الخاصة مع المسرح. كانت المسرحية تيمة جديدة، أكثر نضجًا، كتبها بدافع عميق داخله، انعكاسًا لتبلور رؤيته للعالم وما يجرى من حوله.

        
وتدور المسرحية حول امرأة اسمها كاس تترك زوجها كيب (بعد اكتشافها ولعه الجنسي/fetish مع رؤوس عرائس الباربي، وتغادر مستقلةً حافلة إلى شلالات نياجرا بحثًا عن معنى للحياة والحرية. وهي أثناء الصعود، يرافقها لويس عبور الممرات، والكحول والكابتن لويس، مع قائد القارب وزوجين من المحققين، ومعالج نفسي، ويجدون قبر به جرة كبيرة ويحاولون اكتشاف أنفسهم من خلال تتبع أصلها.
           

       

جحر الأرنب
"لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصا نحبه"

(وديع سعادة، محاولة وصل ضفتين بصوت)

       
 تتشكل الحياة من تفاصيل صغيرة. لما كان آبير طالبًا في جوليارد، قالت له أستاذته مارشا نورما: "اكتب عن الشيء الذي يخيفك أكثر من غيره". وحين كان في العشرينات من العمر لم يكن يعرف ما الذي يخيفه بالضبط، تزوج وأصبح لديه ابن، وبدأ يسمع عن أصدقاء يموت أطفالهم فجأة. وقتها فهم الخوف بطريقة عميقة، وعادت كلمات مارشا إليه والتي أصبحت بذور المسرحية.

           

undefined

        

كان ابنه في عمر الرابعة عندما بدأ الكتابة، والطفل الذي يموت في المسرحية عمره أربع سنوات كذلك.  لذا، أثناء الكتابة أبقى الأمر سرًا حتى على زوجته بينما كان يكتب. كان مفزعًا للغاية الكتابة عن وفاة طفل يبلغ من العمر أربع سنوات، وكان هذا الجزء الأصعب، كان عليه الوصول إلى كل ما كان يخاف منه، ويواجهه. (3)

   
كتب آبير مسرحية جحر الأرنب في 2006 وبعدها بعام حصل على جائزة البوليتزر عنها. تدور المسرحية حول هاوي وبيكا اللذان يعيشان حياة مثالية في أحد الأحياء الثرية، ولكنها يتعرضان لمنغصة كبيرة وهي فقدانهما طفلهما ذي الأربع أعوام. ثمانية شهور على ذلك وهما ضائعان، وساقطان في فخ الحزن وعدم القدرة على تجاوز الفقد الذي لا يمكن عزاؤه، ويصبح زواجهما على وشك الانهيار لأن كل واحد منهما يذكر الآخر بالخسارة. تتألم بيكا بالطريقة الاعتيادية من خلال مواربة ما يذكرها بابنها وبمحاولة التخلص من البيت ببيعه، هاوي يحاول أن يجد عزاءه في مشاهدة لقطات الفيديو التي صورها لابنه على هاتفه.

  
 في بحثهما عن طريقة للشفاء واعادة بناء زواجهما، يقومان بالانضمام لجماعة استماع، العلاج بجلسات الاستماع لمشاكل بعضها البعض. غير أن بيكا التي لا تتأثر تغادر المجموعة. وهاوي، من جهة أخرى، يستمر بالحضور، لكنه يقضي وقتا أطول في تدخين الماريجوانا مع امرأة اخرى. خلال ذلك الوقت، تقوم بيكا بالتفتيش عن مراهق، كان مسؤولًا بشكل غير مقصود عن الحادث الذي قتل ابنها، وتتشارك ألمها معه.

  
المسرحية تقريبًا لا قصة او استنتاج واضح؛ نحن فعليًا نكون أمام توابع ما حصل، وتداعياته. الشخصيتان، نزاعهما المؤلم، بؤسهما الذي لا يمكن علاجه، ونضالهما للوصول للشفاء. الطريقة التي يحاول فيها هاوي يائسا استعادة حياته وحميميتها مع بيكا، الحميمية التي توقفت فجأة قبل ثمانية شهور بدلًا من أن تزيدهما الخسارة قربًا. بيكا هي الأخرى، تفشل في الانفتاح والتواصل مع زوجها وأختها وأمها، تبدو محتجزة في سجن من الحزن والفجيعة، وليس هناك طريق للخروج والتعافي من ذلك.

   
يزداد الصراع بين هاوي وبيكا بشكل لا يمكن تجنبه، وحين يتضح أن الضرر الذي تعرض له زواجهما لا يمكن اصلاحه، يعودان إلى رشدهما ويلاحظان أنهما قد تسمما بالألم نفسه وأنهما في نفس الجحر، محتجزان فيها، يحتاجان بعضهما البعض لكي يجدا المنفذ.   

      

undefined

       

انتقلت المسرحية إلى شاشة السينما على يد نيكول كيدمان صاحبة انتاج الفيلم، وبطلته إلى جانب آرون إيكهارت، وقام آبير بكتابة السيناريو. كان فوز المسرحية بجائزة البوليتزر قد ضمن لها حضورًا كبيرًا، وصيت جعل نيكول كيدمان كمنتجة تفكر فيها. وقد قام آبير بكتابة السيناريو ببراعة، وحيًّد نفسه عن كونه كاتب المسرحية، ولم يكتب مجرد سيناريو لفيلم مقتبس عن مسرحية، لكنه قدم سيناريو أصيل، أبقى على الصورة الكلية للتيمة الرئيسية، وأعاد توزيع العناصر في بنية المسرحية لتكون مناسبة للصورة(السينما) لا الكلمة (المسرح)، وإن كانت المسرحية تركز على المرأة/ الأم بصورة كبيرة، فقد وسع السيناريو ليكون التركيز متوزعًا على الوالدين.

        

       

المسرح ما بين الحياة والسينما
يمكن للحياة أن تكون غامضة كلية، لا يمكن التنبؤ بها ولا معرفة إلى أية طريق ستأخذ الفرد، ويريد كل واحد أن يشعر أنه على قيد الحياة، يريد أن يشعر بأنه مرتبط  بـ شيء أو بشخص. وذلك ما يبحث عنه ديفيد آبير، أن يكون المسرح وجهة ليعرف الواحد أنه ليس وحيدًا، وأن هناك من هو مثله، من يبحث عن شيء، هناك من خسر وهناك من كسب. 

     
كان اهتمام آبير الأول أن يكون صادقًا مع أولئك البشر الذين عرفهم وأحبهم فعلًا. (كتب مسرحية أهل الخير عن منطقته التي عاش فيها وشاهد فيها أولى مسرحياته). وكتب آبير المسرح كنوع من العرفان لنفسه وللناس الذين عاشوا في حياته. وحاول وصل المسرح بالحياة ومده إليها، ومده كذلك إلى شاشة السينما، وغير أن المسرح فن مستقل ومتكامل، والحياة يمكن أن تكون غامضة تمامًا، فإن المسرح يمكن أن يفسرها، يمكن أن يكون وسيطًا ما بين الحياة والسينما.

       

تتمتع مسرحيات آبير بشعبية واسعة: على خشبة نادي مسرح مانهاتن أُديت خمس من مسرحياته، كما أُنتجت مسرحية "الناس الطيبون" في برودواي مع الممثلة فرانسيس ماكدورماند، ومسرحية "تيت دونوفان" و"جحر الأرنب" التي عرضت في برودواي من تمثيل سينثيا نيكسون وتاين دالي وجون سلاتري وحصلت المسرحية على جائزة البوليتزر وترشحت لجائزة توني المسرحية.  كتب آبير بالإضافة إلى مسرحياته بعض الأشعار والأغاني للمسرحية الموسيقية "شريك" التي فازت بجائزة برودواي للموسيقى.

المصدر : الجزيرة