هيلموت شميت.. من السياسة للتنظير الإستراتيجي

Former German Chancellor Helmut Schmidt speaks during a panel discussion at the Nicolas Berggruen Conference in Berlin in this October 30, 2012 file photo. Schmidt, who led the country for eight years at the height of the Cold War, has died at the age of 96, his office said on November 10, 2015. REUTERS/Thomas Peter/Files

سياسي ألماني تولى منصب المستشار بين عامي 1974 و1982، واجتاز ببلاده أزمات عالمية وتحديات داخلية كبيرة. سعى لموازنة علاقة برلين الاستثنائية بإسرائيل بعلاقات مع العالم العربي. بعد اعتزاله السياسة تفرغ للتنظير الإستراتيجي، وأبدى اهتماما بالصين والإسلام وعالمه.

المولد والنشأة
ولد هيلموت شميت في 23 ديسمبر/كانون الأول 1918، بعد أسبوعين من نهاية الحرب العالمية الأولى، لوالدين معلمين في هامبورغ الميناء الجامع بين وضع المدينة والولاية بشمالي ألمانيا.

الدراسة والتكوين
حصل شميت على الثانوية العامة عام 1937، وحلم بأن يصبح مهندسا معماريا، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية غيّر مجرى حياته، حيث استدعي للخدمة في جيش ألمانيا النازية، وقاتل معه بين عامي 1941 و1944 بجبهتي الشرق في روسيا والغرب في بلجيكا حيث اعتقلته القوات البريطانية هناك. بعد الإفراج عنه عام 1945 درس الاقتصاد والقانون وحصل فيهما عام 1949 على درجة الدبلوم.

الوظائف والمسؤوليات
عمل هيلموت شميت في قسم الاقتصاد والمواصلات في بلدية هامبورغ، وترأس فيها قسم المواصلات لمدة سنة، عام 1952. وعين وزيرا للشرطة في ولاية هامبورغ عام 1961، وفي العام التالي تولى منصب وزير داخلية الولاية وأظهر كفاءة في إدارة أزمة سيول عارمة اجتاحت هامبورغ وشمال ألمانيا، وتغلب على تداعيات هذه الكارثة التي هددت وقتها حياة ثلاثمئة ألف شخص، مما أكسبه شعبية كبيرة في عموم ألمانيا.

وفي عام 1967 انتخب شميت رئيسا لكتلة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في البرلمان الألماني (البوندستاغ) الذي كان موجودا حينذاك في بون عاصمة ألمانيا الغربية، وبعد فوز الاشتراكيين بالانتخابات البرلمانية عام 1969 أسندوا إلى هيلموت شميت منصب وزير الدفاع بالحكومة التي شكلوها بمشاركة الحزب الديمقراطي الحر.

تولى بين عامي 1972 و1974 منصب وزير المالية والاقتصاد، ثم وزير المالية، ثم اختير عام 1974 خلفا لأستاذه فيلي برانت مستشارا لألمانيا بعد استقالة برانت إثر فضيحة اكتشاف تجسس مدير مكتبه لحساب جهاز استخبارات جمهورية ألمانيا الشرقية "شتازي".

التوجه الفكري
التزم هيلموت طوال حياته بالتوجه الفكري للحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي انتمى إليه عام 1946، وأصبح فيما بعد من منظريه التاريخيين.

التجربة السياسية
بدأت المسيرة السياسية الحقيقية لهيلموت شميت عام 1953 بانتخابه لعضوية البرلمان الألماني (البوندستاغ) الذي ظل نائبا فيه حتى عام 1962، ثم عاد إليه عام 1965 حيث انتخب نائبا لرئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي التي أصبح رئيسا لها بين عامي 1967 و1969 خلال أول تحالف حكومي كبير في تاريخ ألمانيا الحديثة بين الحزبين المسيحي الديمقراطي وحزبه الاشتراكي.

لم يتولَّ رئاسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، واقتصرت مناصبه في الحزب على نائب الرئيس الذي تولاه بين عامي 1968 و1984، مختلفا بذلك عن مستشاريْن اشتراكيين ديمقراطيين آخرين هما فيلي برانت وغيرهارد شرويدر، جمعا بين منصب المستشار ورئاسة الحزب الاشتراكي.

واجه خلال رئاسته للحكومة الألمانية أزمات عالمية وتحديات داخلية كبيرة أبرزها ارتفاع معدلات البطالة، ومواجهة تداعيات قطع الدول العربية إمدادات النفط عن الدول الموالية لإسرائيل، وتصاعد نذر المواجهة مع المعسكر الشيوعي، وتزايد الهجمات "الإرهابية" لمنظمة بادر ماينهوف خلال حقبة السبعينيات التي عرفت باسم "خريف ألمانيا"، واغتالت خلالها المنظمة رئيس اتحاد الصناعات الألمانية هانز مارتين شلاير، واختطفت -بمساعدة فدائيين فلسطينيين- طائرة ألمانية في الصومال.

تبنى هيلموت إستراتيجية مزدوجة بمواجهة التهديدات العسكرية المتزايدة لحلف وارسو خلال السبعينيات، فوافق على وضع صواريخ نووية أميركية متوسطة المدى في ألمانيا، ودعا حلف الأطلسي للتفاوض مع المعسكر الاشتراكي على إزالة صواريخهما النووية المتوسطة المدى معا من أوروبا. ومثل وسلفه فيلي برانت قدوة لسياسيين ناشئين كثيرين من حزبهما الاشتراكي.

ذكر غيرهارد شرويدر مستشار ألمانيا بين عامي 1998 و2005، أنه دخل خلال رئاسته منظمة شباب الحزب الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي على شميت مكتبه بالمستشارية، فوجده يصرخ خلال اتصاله الهاتفي مع الرئيسين الأميركي جيمي كارتر والسوفياتي لوينيد بريجنيف، وقال له بعد انتهاء المكالمتين "هؤلاء.. يريدون تعليمي السياسية"، وأوضح شرودر أن شميت أصبح مثله الأعلى منذ ذلك الوقت.

بعد خروجه من رئاسة الحكومة الألمانية بسبب حجب الثقة عنها في البرلمان عام 1982، عمل هيلموت شميت في العام التالي وحتى وفاته ناشرا لصحيفة "دي تسايت" الأسبوعية الشهيرة التي تعتبر صحيفة النخبة في ألمانيا.

المؤلفات
بعد استقالته عام 1987 من البرلمان الألماني (البوندستاغ)، كرّس شميت جهوده في مجال الكتابة في القضايا الإستراتيجية التي بدأها عام 1961، وبلغ عدد مؤلفاته في هذا المجال ثلاثين كتابا، منها: "إستراتيجية للغرب" عام 1987، و"العولمة وتحدياتها السياسية والاقتصادية والثقافية" 1998، و"قوى المستقبل والرابحون والخاسرون بعالم الغد" 2004، و"جيران الصين" 2006، و"المسؤولية الدينية وتحديات السلام بزمن العولمة" 2011.

الوفاة
توفي هيلموت شميت في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في مدينة هامبورغ عن عمر يناهز 96 عاما، متأثرا بعدوى أصيب بها بعد عملية جراحية. نعته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، وقالت إنه كان بمثابة مؤسسة سياسية لألمانيا التي ستبقى مدينة لصلابته باجتيازها حقبة السبعينيات الصعبة.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية