شعار قسم ميدان

من داعش للاتحاد الأوروبي.. هكذا تخيل الإسلاميون أشكال الخلافة

إسلاميون - ميدان
اضغط للاستماع
   

"واستبدت بالحركة الإسلامية أحلام "الخلافة" إلى درجة التخريف والهذيان، والخلافة تجربة بشرية غير معصومة، قد تسمو حتى تكون على من منهاج النبوة، وقد تنحط حتى تكون ملكا عاضا أو جبريا!"

(فريد الأنصاري)

      

مَثّلَ سقوط الخلافة العثمانية على يد كمال الدين أتاتورك وحزب الشعب (1) بعد معاهدة لوزان (أ) حالة من الهلع لدى المسلمين القابعين تحت حكم الخلافة في المشرق والمغرب، فلأول مرة يختفي اسم "الخلافة" منذ 1400 عام. حادثة عبر أمير الشعراء أحمد شوقي عن روعها وما صاحبها من فزع طال الأقطار الإسلامية بعد سقوط الخلافة في قصيدته الشهيرة "رثاء الخلافة"، وفي مطلعها:

   

ضجت عليك مآذن ومنابر

وبكت عليك ممالك ونواح

 

الهند والهة ومصر حزينة

تبكي عليكٍ بمدمع سحاح

  

والشام تسأل والعراق وفارس

أمحا من الأرض الخلافة ماح؟

 

ومنذ ذلك الحين، فقد شغل سؤال الخلافة وإمكانية إعادتها أذهان المسلمين، لتقوم على إثرها جماعات إسلامية عديدة (ب) ساعية لإعادة عهد الخلافة مرة أخرى! (2) من ثم برز على الساحة العربية الجدل حول الاتصال والانفصال بين "السلطة الزمانية والسلطة الدينية"، أي بين سلطة الدولة وسلطة الدين أو الشريعة، وازداد هذا الجدال مع تزايد عمليات التحديث التي شهدتها الدول القُطْرية التي نشأت بعد سقوط الدولة العثمانية.

  

فمن محمد عبده ورشيد رضا، إلى حسن البنا وتقي الدين النبهاني، مرورا بأبي الأعلى المودودي وعبد القادر عودة وسيد قطب، حتى أبي محمد الجولاني وأبي بكر البغدادي، يتحدث الجميع عن الخلافة وحتمية عودتها، لكننا نجد مسارات عدة لا تتقاطع في رؤاها حول تصورات الخلافة وماهيتها، لتبدو ملامح الخلافة مجهولة لدى الساعين لإقامتها.

   

قصة انهيار آخر دولة إسلامية – الدولة العثمانية – وثائقي

 

علي عبد الرازق وإنكار الخلافة (ج)!

 

"الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا"

(ابن خلدون – المقدمة)

   

في عام 1925م، أي بعد سقوط الدولة العثمانية بعام واحد، أصدر القاضي الشرعي علي عبد الرازق (د) كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم"، الذي يعده البعض زلزالا في الفكر الإسلامي المعاصر، حيث يقول محمد عمارة: "منذ أن عرفت الطباعة طريقا إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابا أثار من الضجة واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار هذا الكتاب".(3)

  

وقد طرح المؤلف رؤيته بأن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا علاقة لها بالسياسة، وأن نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- لم يؤسس دولة وإنما كان رسولا لا مَلِكا، وعليه فإن الخلافة إنما هي اجتهاد دنيويّ وخلافة مدنيّة لا علاقة لها بالدين.

  

لتثير هذه الأفكار حفيظة علماء الإسلام، مما دفعهم إلى التصدي للكتاب والرد على مؤلفه، وبدورهم اعتبروا كتابه -بحسب تعبير عمارة- يفتح بابا للعلمانية في الإسلام. ومما يزيد من خطورته -في نظرهم- أن مؤلفه أزهري وقاضٍ شرعي، أي منتسب إلى زمرة العلماء!

  

الشيخ علي عبدالرزاق
الشيخ علي عبدالرزاق

     

وعلى إثر ذلك سارع الشيخ محمد رشيد رضا في مجلته "المنار" (4) إلى الرد على عبد الرازق، ووصف فعله بأنه كتاب يتمحور حول صراع سياسي لتأييد سقوط الخلافة ولا يمكن الاعتداد به رأيا علميا، كما اعتبر أفكار عبد الرازق حربا سياسية على الإسلام، وهي -في نظره- أخبث من الحروب الصليبية: "وكانت هذه الحرب السياسية العلمية على الإسلام أضر وأنكى من الحرب الصليبية، وكان آخرها محو اسم السلطنة العثمانية من الوجود".

  

تداعيات كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عند علماء الإسلام!

لم يكتف رشيد رضا بردوده على عبد الرازق في مجلته "المنار" التي جمعها في كتاب عنونه بـ "الخلافة أو الإمامة العظمى"، فقد رفع رشيد رضا دعوى إلى هيئة كبار العلماء بالأزهر لمحاكمة الشيخ عبد الرازق!(5)

   

فيقول محمد محمد حسين في كتابه "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر": "أصدرت الهيئة حكمها وهو يقضي بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الأزهر والقاضي الشرعي من زمرة العلماء" (6)، وعلى إثر هذا الحكم تم سحب العالِمية من عبد الرازق!

  

ثم تتابعت الردود على أطروحة عبد الرازق، وهدف الإسلاميون إلى محاولة إنشاء نموذج متخيل للخلافة في ثوب معاصر حتى ينقض أطروحة الكتاب عمليا! وكان من ضمن الردود رد شيخ جامع الزيتونة التونسي "محمد الخضر حسين" في كتاب سماه "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم". وكتب الشيخ محمد رشيد رضا كتابه "الإمامة العظمى"، وخصص له الدكتور ضياء الريس كتابه "النظريات السياسية في الإسلامي"، ثم كتب الدكتور عبد الرزاق السنهوري كذلك -وهو رجل قانون- أطروحته للدكتوراه بعنوان "الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم".

    

undefined

 

نشأة التيارات الإسلامية المعاصرة واتخاذ حلم الخلافة هدفا لها

 

"وذلك أن خبره صلى الله عليه وسلم بانقضاء "خلافة النبوة" فيه الذم للملك والعيب له"

(ابن تيمية)

  

سرعان ما تحول الصراع حول الخلافة من الحالة الفكرية السِجالية إلى العمل الحركي المنظم، فقد اعتبر بعض المفكرين أن سقوط الخلافة العثمانية هو السبب الأساسي في هذا الوقت لتخلف الأمة الإسلامية، وأن المشروع اليهودي يقف وراء هذا السقوط، فيقول محمد قطب: "وكان المدبر الحقيقي لسقوط الخلافة هي اليهودية العالمية"!(7)، وفي وسط كل تلك الدعوات، التي تستدعي البعث الإسلامي بعد مقتل، أنشأ تلميذ رشيد رضا الشاب حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، وجعل من أعلى أهدافها إقامة الخلافة لإعادة مكانة الإسلام.

  

وبذلك، بدأت الحركات الإسلامية الرامية للدفاع عن الخلافة والساعية لإعادة إحيائها بالظهور، حيث يقول حسن البنا: "والإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله". (8)

  

   

لم تكن دعوة البنا الوحيدة في الساحة، حيث تتابعت الحركات الإسلامية في التأسيس من أجل الحلم بعودة الخلافة، فقد أسس الفلسطيني تقي الدين النبهاني "حزب التحرير" وكان يطمح لإنشاء "دولة إسلامية، التي هي دولة الخلافة الإسلامية".(8) وفي باكستان قامت الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي على المناداة بإعادة الوحدة السياسية الجامعة للمسلمين المتمثلة في الخلافة، وقد ألّف المودودي في هذا السياق كتابه "الخلافة والملك".(9)

  

أما الجهاديون فقد ظهرت بينهم أصوات العودة للخلافة، وهو السند التراثي الذي دفع مؤخرًا دولة العراق والشام الإسلامية لإعلان الخلافة، طالبةً البيعة من جميع المسلمين لأبي بكر البغدادي.

  

 ورغم احتفاء الإسلاميين إلى هذا الحد بالخلافة والفناء في إعادتها، تباينت النماذج التي قدموها للخلافة حتى وصلت حد التناقض، بيد أن فكرة عصبة أمم مثل عصبة الأمم الأوربي كانت أول نموذج مطروح للخلافة، فهي خلافة على الطراز الأُوربي.(10)

  

الشيخ رشيد رضا
الشيخ رشيد رضا

    

خلافة على طراز الاتحاد الأوروبي

    

"يا مولاي إن أجزاء المملكة أخذت تتفكك، فصار من الواجب نظم الممالك وأجزائها، بسلك من النظام أوثق وأشد وأحكم"

(جمال الدين الأفغاني للسلطان عبد الحميد)

 

باتت فكرة "الخلافة على الطراز الأوروبي" مُلهمة لكثيرين ممن حاولوا إيجاد صورة للخلافة الإسلامية وملائمة للعصر الحديث على حد سواء، ففي الثُلث الأول من القرن العشرين أوشكت أوروبا أن تتجاوز قوميتها وتستوعب هذه القوميات في بوتقة الوحدة السياسية المُجمعة (11)، ومنذ عام 1958 اتجهت أوروبا إلى فكرة الاتحاد الأوروبي. ومن هذا الوقت وقد انتشرت كتابات يُصرح أصحابها بأن الطراز الأوروبي هو الطراز العصري للخلافة.

  

ففي باريس كتب الدكتور عبد الرزاق السنهوري (هـ) كتابه "فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية" الذي صدر عام 1926، أي بعد عام واحد من إصدار علي عبد الرازق لكتابه، وقد جعل السنهوري كتابه استقراء لحالة الخلافة في دول الإسلام المتقدمة، ثم عرض لفكرة مفادها أن تكون الخلافة كنظام عصبة الأمم كما فعلت أوروبا، وقد ترجم الكتاب الأستاذ توفيق الشاوي، وهو أحد أعلام الإخوان المسلمين الذين تبنوا بدورهم هذا الطرح لنموذج الخلافة.

   

وتبع ضياء الدين الريس أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة القاهرة هذا المسار، ووضع في كتابه "النظريات السياسية في العصر الحديث" النموذج الذي ارتآه للخلافة، حيث تتبع التطورات التاريخية للحكم الإسلامي ثم نسج على منوالها نظريات سياسية للحكم الإسلامي كما النظريات الحديثة.

   

خلافة القانونيين

 

"العقلية القانونية النصيّة جعلت الفقيه يطلق مقولات خاطئة تماما، يعكس الهاجس الذي رادف ببساطة بين الشريعة والقانون"

(هبة رؤوف عزت)

 

تتميز عقلية رجال القانون بالنصيّة، وهي ما تعني التمسك بالنص في تفسير القانون، وقد ترك ذلك أثره عند الفقهاء الذين درسوا القانون، واعتبروا الفقه والقانون شيئا واحدا.

  

ومن نهاية الدولة العثمانية نادى البعض بأسلمة الدولة الحديثة، وهو ما يعني اعتبار أن الدول القائمة فاقدة لمضامين إسلامية أساسية بداخلها، وبالتالي فإن هذه الدول بحاجة إلى استعادة مركزية الإسلام داخلها مرة أخرى، بيد أن هذه المناداة كانت مع إغفال تام للخلاف البنيوي بين السلطة في الإسلام والدولة الحديثة، في حين أن الأسلمة أوسع كذلك من تحويل الشريعة إلى قانون عام. بيد أن هذا الاتجاه قد دفع البعض إلى القيام بمحاولات عديدة لتقنين الشريعة الإسلامية لا سيما بعد إلغاء المحاكم الشرعية. (12)

  

وقد أُنجزت حركة تقنين الشريعة -التي سعت لصنع سلطة قانونية موجدة للخلافة- منذ نهاية القرن التاسع عشر. يقول المستشار طارق البشري: "وفي مقابل هذه الحركة التغريبية ظهرت حركة التقنين الآخذ عن الشريعة الإسلامية".(13)

   

وكانت المحاولة الأبرز في التقنين "مجلة الأحكام العدلية" التي صدر آخر أعدادها عام 1882م، وتعتبر المجلة أول تدوين للفقه الإسلامي في المجال المدني على شكل بنود قانونية، واستندت إلى مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، الذي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية.

   

   undefined

    

فيقول المستشار طارق البشري: "وتركزت جهود التقنين تقريبا في مجلة الأحكام العدلية والتي أعدها سبعة من علماء إسطنبول برئاسة أحمد جودت باشا في الفترة من 1869 إلى 1876، وجودت باشا كان مثقفا كبيرا ووزيرا للحقانية والمعارف"(14)، وقد توقف تفعيل هذا المشروع بوصول أتاتورك إلى الحكم واعتماد العلمانية مذهبا رسميا للدولة، يقول البشري: "ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، ما لبثت الدولة العثمانية أن صُفيت، وخضعت تركيا لنظام أتاتورك الذي استأصل كل أثر لرابط إسلامي، وأجريت حركة تقنين عامة، ألغيت فيها المجلة واستعير بها القانون المدني السويسري".

  

وفي مصر أُنشئت "مدرسة القضاء الشرعي"(15) عام 1907م، وكتب القانونيون الفقهاء مثل الأستاذ عبد القادر عودة رسائلهم حول الشريعة بعد دمجها في ديباجة قانونية، مثل كتابه "الإسلام وأوضاعنا القانونية"، و"الإسلام وأوضاعنا السياسية"، و"المال والحكم في الإسلام".

  

تقول هبة رءوف عزت: "في الإشارات المقتضبة لفلسفة التشريع من منظور قانوني فحسب في كتاب الدكتور العوا "في أصول النظام الجنائي الإسلامي" نلمس فيه روح عبد القادر عودة، ويختلط فيه فهم "حق الجماعة" مع "حق الدولة"، فتبدو الدولة وكأنها مجموع الأفراد".

  

ودعا محمد عمارة إلى أسلمة الدولة من خلال سن قوانين توافق الشريعة الإسلامية، بل قارن بين دولة النبوة ومؤسسات الدولة الحديثة، وجعل الخلاف بينهما لفظيا والمضمون متحدا، فتحت عنوان "دولة الخلافة دولة مؤسسات" يقول عمارة: "ومع هاتين المؤسستين الدستورتين كان مجلس الشورى -مجلس بيعة العقبة الثانية- والذي كان يجتمع بمسجد النبوة، في مكان محدد في أوقات محددة لتُعرض عليه شؤون الدولة والمجتمع والتقارير الواردة من أقاليم الخلافة".

  

undefined 

  

الجهاديون وقيام الخلافة على أرض الميديا!

   

"فاحذر، فإنك بقتال الدولة الإسلامية تقع بالكفر من حيث تدري أو لا تدري"

(أبو محمد العدناني)

  

لم يغب عن الحركات الجهادية أمر الخلافة، فقد اتخذتها شعارا من آن لآخر، فما بين أناشيد تنادي بعودة الخلافة وتسجيلات مرئية لها تدعو إليها، وبين حقبة وأخرى تخرج مجموعات تطلب البيعة لنفسها مباشرة، ففي الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول عام 2006، بثت الهيئة الإعلامية لـ "مجلس شورى المجاهدين" الذي تأسس ضد الغزو الأميركي في العراق شريطا مرئيا أعلن فيه "حلف المطيبين" قيام "دولة العراق الإسلامية" بإمارة أبي عمر البغدادي "حامد الزواوي".

  

يقول أكرم حجازي في كتابه "دراسات في السلفية الجهادية": "لم يكن الإعلان كرتونيا كما روجّ البعض، بل كان حقيقة واقعة تعكس سيطرة العسكر على الأرض، ومدعوما بعدد من مؤسسات الحكم كالقضاء، والمال، والإعلام"(16)، وهو ما سيتطور بعد قرابة ثماني سنوات إلى الانتقال من الدولة إلى الخلافة فيما عُرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش، و"كأنها ظهرت من العدم في 2013 – 2014، وأطلقت الدولة الإسلامية على نفسها اسما جديدا وهو: "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وبذلك أعادت تقديم نفسها إلى العالم!".(17)

 

وفي يوم التاسع والعشرين من يونيو/حزيران 2014 أعلن أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي للدولة الإسلامية في خطاب صوتي مبتهجا باعتبار أن الدولة أصبحت الخلافة الخاتمة، وأن سيادتها ستمتد لتشمل العالم أجمع، وليس العراق والشام وحدها!

   

إعلان تنظيم الدولة، تبعه مساعي التنظيم لدعوة المسلمين حول العالم إلى مبايعة البغدادي خليفة للمسلمين، وقد ظهر الأخير في مسجد الموصل بالعراق واستهل خطبته بخطبة أبي بكر "وليت عليكم ولست بخيركم"، وكان من ضمن ما قال: "تبطل شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات، التي يتمدد إليها سلطانه -يعني البغدادي- ويصلها جنده!".(18)

   

أبو بكر البغدادي في أول ظهور علني: "أَطيعوني ما أطعت الله فيكم"

 

ولم يكتف المتحدث باسم الدولة أبو محمد العدناني بإعلان جماعته جماعة الخلافة، فقد أفتى بأن على المسلمين أن يهاجروا إلى دولته، يقول العدناني: "فيا أيها المسلمون في كل مكان؛ من استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر، فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة".(19)

   

وقد أدى ذلك إلى نشأة جماعات جهادية مبايعة للبغدادي في مصر والجزيرة العربية مقرها باليمن والجزائر، فضلا عن التمركز في العراق والشام، وكلها مؤمنة أنها تقيم الخلافة الإسلامية وتقاتل من بين يديها.

   

إعادة التفكير في المُسلمات
    

"لا يجد الجواب من لا يؤرقه التساؤل"

(علي عزت بيجوفيتش)

   

اعتبر فريد الأنصاري في كتابه "الأخطاء الستة للحركة الإسلامية" بأن النقد الذي ينبغي أن يوجه للإسلاميين يتجاوز المقولات التأسيسية لها، ليقف على الإشكالات الحداثية المستبطنة داخلها، والتي جعلتها تفقد معنى الخلافة حين نادت به.

  

وتذهب هبة رءوف إلى كون المقولات الأساسية التي يتبناها الإسلاميون في نظرتهم إلى الدولة والخلافة إنما هي حداثية دون أن يستوعبوا ذلك، فـ "من الطرافة أن نجد ملامح علمنة أوروبية متسربة إلى ثنايا الخيال الإسلامي، تحكمها وطأة هيمنة النموذج الغربي الحديث على الواقع. فلا يكون الاشتباك إلا دفاعيا يسعى فيه الخطاب إلى إسبال الكساء الإسلامي على مقومات تلك النهضة الماثلة في الواقع. فقد قَبل الخطاب الإسلامي واستبطن -بغير وعي- تصورات يهيمن عليها سلطة الليبرالية ومرجعيتها، فصاغ رؤيته بتبني تصنيفاتها وأسلمة أبنيتها".(20)

   

وهو ذات الحال الذي دفع وائل حلاق للتصريح في مطلع كتابه "الدولة المستحيلة" بأن فكرة تقنين الشريعة وإعادة ترسيم الخلافة في إطار الدولة القومية ما هو إلا محو للدولة الإسلامية لصالح دولة الحداثة، يقول وائل حلاق: "مفهوم الدولة الإسلامية (ز) مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة"(21)، وتحت عنوان "حكم الشريعة أم حكم الدولة" يستعرض حلاق الفرق بين الفقيه والمفتي وبين القاضي، باعتبار أن القانوني في الدولة الحديثة يتمثل غرضه الأساسي ومجال عمله في القانون، في حين أن القاضي في الشريعة غرضه الأساسي أخلاقي: "فينظر إلى القاضي في الشريعة باعتباره المفوض الأسمى وليس المفوض للسلطان أو الخليفة فحسب".(22)

   

undefined   

   

وهذا ما سيجعل -بحسب حلاق- تقنين الشريعة مدمرا لحيوية الشريعة نفسها التي تمتعت بها في ظل الاجتهاد، وبالتالي فإنه لن يتحقق من الخلافة شيئ.
   

وقد أفرد حلاق جزءا من كتابه "مقالات في الفقه" لرصد مظاهر غياب الشريعة وتوغل الدولة الحديثة على نظام الحكم الإسلامي فيقول: "ما أريد قوله هو إن تبديل قيادة القانون من أيدي الفقهاء للدولة يمثل أهم ظواهر الإصلاح القانوني في العصر الحديث، وهو في آن واحد الضياع الأبدي للسلطة المعرفية وبزوغ فجر سلطة الدولة!".(23)

   

فهو يعتبر أن الشريعة لن تحل بصورة قانونية على المجتمعات كتلك التي أرادها فقهاء القانونيين في العصر الحديث، وإنما هي قانون أخلاقي في الأساس قبل كونها قانونا مسنونا!

وعلى الرغم من هذه النماذج المتعددة والمتباينة في آن واحد للخلافة، فإن سؤال الخلافة من الأسئلة التي لم يُحسم الجدل بشأنها حتى الآن حتى داخل الحركات الإسلامية، فالكل يسعى إلى الخلافة، لكن إلى أي خلافة؟! هذا هو السؤال الذي أجابه الجميع بإجابات متباينة!

  

وتستمر عملية الاجتهاد والتأويل ومحاولة تنزيل الشريعة للمجتمعات أو العودة مرة أخرى إلى الخلافة من العمليات القابلة للتداول والتأويل دائما كلما تغيرت الظروف والمتغيرات وتعددت الرؤى وتباينت ظروف العصر!

   

———————————————-

الهوامش:

أ: معاهدة لوزان: تم توقيعها في 24 يوليو/تموز 1923، وكانت معاهدة سلام وُقّعت في لوزان، سويسرا تم على إثرها تسوية وضع الأناضول وقادت المعاهدة إلى اعتراف دولي بجمهورية تركيا التي ورثت محل الإمبراطورية العثمانية.

ب: كان بعض الكُتاب يستخدم لفظة المسألة الشرقية دلالة على الخلافة مثل كتابات الزعيمين المصريين مصطفى كامل ومحمد فريد.

ج: تعددت الأصوات الداعية لذلك، ومن أشهرهم الشيخ علي عبد الرازق والمستشار محمد سعيد العشماوي وكثير من كتابات الحداثيين العرب.

د: الشيخ علي عبد الرزاق: شيخ أزهري مصري، وهو شقيق شيخ الأزهر الشيخ مصطفى عبد الرازق، درس في أكسفورد في بريطانيا، وعُين قاضيا شرعيا ثم أصدر كتاب "الإسلام وأصول الحكم".

هـ: عبد الرزاق السنهوري: فقيه دستوري، واضع القانون المدني العراقي والمصري والسوري، ويعتبر أهم شخصية قانونية في القرن الماضي.

و: عبد القادر عودة: قانوني وفقيه إسلامي، أعدمه جمال عبد الناصر عام 1954م.

ز: أي بمفهوم الإسلاميين المعاصرين للدولة الإسلامية.