شعار قسم ميدان

من التمكين إلى التيه.. أسئلة شباب الإخوان التي لم تجد إجاباتها

ميدان - شباب الإخوان 111

"لم أكن ذاتي، كنت كائنا مبالغا فيه، يقول ما لا يقتنع به، لم أشعر بالخسارة لتركي كل العالم التنظيمي أو الحراك الذي كنت مندمجا فيه، بالعكس، زاد شعوري بأنني إنسان قادر على الاختيار بإرادته الحرة. أما عائلتي التي تنتمي للإخوان وتدعم الشرعية، فهم لا يعرفون شيئا عن تفاصيل حياتي اليومية".(1)

 

هذا ما قاله أحد شباب الإخوان المسلمين الذين تعرضوا لكثير من التحولات خلال السنوات التي تبعت أحداث الربيع العربي، حيث لم يكن سوى انعكاس لحالة الكثيرين مثله الذين تركوا تنظيم الإخوان المسلمين وولجوا مساحات أخرى وتحولات على النقيض ما بين التطرف والانضمام لداعش وما بين الإلحاد، أو الانعزال والبعد عن العمل السياسي.

 

نحاول في هذا التقرير وضع أيدينا على بعض ملامح الأزمة التي يمرُّ بها شباب الإسلاميين بمصر عقب الانقلاب 3 يوليو/تموز 2013 والتي يتشارك فيها أبناء هذا الجيل عامَّة. فمن خلال المقابلات التي قمنا بإجرائها مع بعض أفراد هذا الجيل ممن تأثروا فكريا بجماعة الإخوان المسلمين، وانتموا إليها تنظيميا في فترة من فترات حياتهم، تبيَّن أنَّ ثَمَّ اختلافات بين استجابة الأشخاص وردود فعلهم بالنسبة للأحداث وفق عوامل نفسيَّة واجتماعيَّة عديدة، ولكن ثمة مشترك عام يمكن استخلاصه لأزمات هذا الجيل عامة في علاقته مع التنظيم.

تقول (أ.ع) التي شاركت في مظاهرات طلَّاب ضد الانقلاب بعد أحداث الفضّ:
تقول (أ.ع) التي شاركت في مظاهرات طلَّاب ضد الانقلاب بعد أحداث الفضّ: "كنا نطرح أسئلة كثيرة في لقاءات الأسر، ولم نكن نتلقَّى جوابا مقنعا
 
العجز عن تقديم إجابات واقعيَّة مقنِعة للشباب

تذكر (ق.ص 23 سنة) لـ"ميدان"، وهي التي انتظمت في حضور لقاءات الأُسَر الإخوانيَّة بعد حضورهم العلنيّ الكثيف عقب ثورة 25 يناير، أنَّه في هذه الفترة قد غلب الاهتمام بالسياسيّ على حساب الدعويّ، فبحسبها تحوَّلت اللقاءات لنقاشات سياسيَّة، وترويج لدعم خيارات الجماعة، دون إشراكهم بشكل فعلي فيها، رغم مطالبتهم بتنفيذها، وتضيف (ق.ص) أنَّها دائما ما تعارض هذه القرارات؛ إذ إنَّها لم تجد أيَّ إجابات مقنعة بشأن قرارات الجماعة المتخبِّطة في هذه الفترة، مثل قرار عدم خوض الانتخابات ثُمَّ التراجع عنه، وتضيف: "كنت أستغرب لماذا يدفع الإسلاميُّون بمرشَّحين عدَّة بدلا من دعم مرشَّح واحد يعبِّر عن التيَّارات كافَّة؟"، ذكرت كذلك أنَّها لم تدعم أيَّ قرار لم تقتنع به، وهذا ما أكَّده (م.ف 23 سنة) لـ"ميدان"، إذ ذكر أنَّه غير مُطالَب بتنفيذ ما لا يقتنع به، ولا يصدِّق إلَّا ما تراه عيناه، ويبدو أنَّ هذه سمة عامة، فقد لاحظناها فيمن قابلنا جميعا، إذ أكدوا على استقلاليَّتهم في الرأي، وبناء قناعاتهم الخاصة بأنفسهم.

 

لم يختلف الأمر كثيرا فيما بعد الانقلاب؛ إذ تقول (أ.ع) في حديثها لـ "ميدان"، وهي التي شاركت في مظاهرات طلَّاب ضد الانقلاب بعد أحداث الفضّ: "كنا نطرح أسئلة كثيرة في لقاءات الأسر، ولم نكن نتلقَّى جوابا مقنعا، كنا نتساءل: ماذا بعد المظاهرات؟ ما إستراتيجية هذا الحراك بعد تعرضنا للقتل والاعتقال؟ ولماذا تعين نفسك وصيًّا على الآخرين، وما معاييرك للحكم غير طول الطرحة ونمط الزي؟ وكنا نرفض الإسقاط المتعسف للنصوص القرآنية وأحداث السيرة على الواقع، فلم تكن المناهج التربوية قوية لتسند هزات الأفراد النفسية في ظل توحش الدولة وقمعها".

 undefined

يوافق ما سبق ما أشار إليه الكاتب والمفكّر الكويتي عبد الله النفيسي في نقده للحركات الإسلاميَّة في نقاط عدَّة؛ منها: الإسقاط المتعسِّف للنصوص الدينيَّة على الواقع السياسيّ، وضعف المناهج التربويَّة، ورؤيته أن تحوُّل العمل الإسلاميّ إلى نشاط حزبيّ محض، سيحوله -أي النشاط الحزبيّ- بعد فترة إلى ميكانيكيَّة حزبيَّة تنتظر الأوامر من أعلى وتجمد حركتها الإبداعيَّة.(1) كما أنَّها تعتبر الحزب مُقدَّسا وما خارجه مُدنَّسا، فتعادي كلَّ من خرج عن الحزب، وهذا ما يرويه (ع.ح) الذي تمَّت معارضته وأصدقاؤه، وقد تمَّ فصل بعضهم لدعمهم أبو الفتوح في الانتخابات الرئاسيَّة، ولرفضهم الاشتراك في حزب الحرِّيَّة والعدالة.

 

يلاحظ النفيسي أنَّه ليس ثَمَّ تركيز من الحركة الإسلاميَّة على تطوير الحركات الطلَّابيَّة لتصبح مضغة اجتماعيَّة، وإنَّ جُلَّ ما يريده التنظيم من الحركات الطلَّابيَّة هو استخدامهم في الحشد والتعبئة. ويرى أنَّ التنظيم يعزل عن جسده عناصرَه الشابَّة القلقة المتسائلة، ويستفرغ طاقتها في معارك وهميَّة ضدَّ خصوم وهميِّين من الطلبة.(2) وهذا ما أكَّدته (أ.ع)، وهو أنَّه مع تزايد حدَّة الاستقطاب بعد انقلاب 3 يوليو/تموز استمرَّ خطاب الدفع بتشويه الآخر "العلمانيّ"، رغم أنَّهم، من خلال الاحتكاك الحقيقيّ، لم يجدوا الآخر بهذه الوحشيَّة.(3)

 

لم يعد الذوبان في المجموع يُرضي الذات

يمكن القول إنَّ تفسير رفض الشباب للتنظيمات يرجع إلى سوء إدارة التنظيم نفسه، وعجزه عن استيعاب تطلُّعات الشباب وتوظيف قدراته وطاقاته، أو فهم تغييرات المجتمع عامَّة، إلَّا أنَّه يُفسَّر كذلك بطغيان الفردانيَّة في نفوس الأفراد على حساب ما هو جمعيّ، وعدم قبول التنميط الذي يفرضه التنظيم، وهذا ما أشار إليه (م. م 29 سنة القاهرة) لـ"ميدان" بقوله: "إن التنظيمات تقولب الأفراد، وتطغى على ما هو ذاتي أو مميز فيهم، وتحول الناس لأرقام واحتمالات للدعوة الفردية، وقد تؤثر على علاقات الفرد مع أفراد عائلته غير المنتمين للتنظيم بنمط سلوكه المختلف عنهم، وقد يموت جزء من إنسانيته".

 

تدعو التكلفةُ الباهظةُ التي يتحمَّلها الأفراد، والضررُ المترتِّب عليهم جرَّاء قرارات التنظيم وخياراته غير الواعية، إلى التساؤل عن جدوى التنظيمات
تدعو التكلفةُ الباهظةُ التي يتحمَّلها الأفراد، والضررُ المترتِّب عليهم جرَّاء قرارات التنظيم وخياراته غير الواعية، إلى التساؤل عن جدوى التنظيمات
 

وأضاف (م.م) كذلك أنَّ ما دفعه إلى الانسحاب من الجماعة تنظيميا ليس أحداث الثورة، ولكن تأثُّره بتجربة السفر إلى هولندا.(4) ويتبيَّن من ذلك أنَّه لا يَلزم الربط الشرطيُّ بين الأحداث السياسيَّة والتحوُّلات التي مرَّ بها شباب هذا الجيل، فمن الملاحظ أنَّ تجربة السفر لها تأثير أقوى على التغيُّرات الراديكاليَّة للأفراد من الحدث السياسي نفسه، وإن ساعدت الأحداث السياسيَّة على الإسراع من وتيرة هذه التغييرات. ويعبر (ر.ش 29 سنة) لـ"ميدان" عن ذلك قائلا إنني أعيد اكتشاف نفسي بدون زيف، أجربها في علاقات مختلفة، وأتحرر من كل التزام. فلم تعد لي أي علاقة بالتنظيم ولا أفكاره وعلاقتي بالقرآن أني أحب سماعه وهو نص بليغ، وما زلت مرتبطا بكتابات الغزالي وأحب اللغة العربية.

 

يتبيَّن من ذلك أنَّه ثَمَّ شيوع للفردانيَّة والتفكُّك عن الروابط الاجتماعيَّة، فالرغبة في البحث عن الذات تمتدُّ إلى الدفع بها -أي الذات- وتجربتها في كلِّ التفاعلات التي كانت محرَّمة دينيا واجتماعيا كالإلحاد أو شرب المخدرات، خاصة حينما تغيب مؤسَّسات الضبط الاجتماعيِّ كالأسرة وغيرها، كما أنَّها تزداد في حالة سفر الفرد بمفرده، ومع رغبة الأفراد في الانفكاك من قيد التنظيم أو الأسرة، أو أيَّ التزامات ترتِّبها أي علاقات مستقرَّة بشكل عام.

 

تلك التكلفةُ الباهظةُ التي يتحمَّلها الأفراد، والضررُ المترتِّب عليهم جرَّاء قرارات التنظيم وخياراته غير الواعية، تدعو إلى التساؤل عن جدوى التنظيمات، خاصة حينما يعجز التنظيم نفسه عن توفير الحماية لأفراده، وكذلك حينما تغيب الرؤية الإستراتيجيَّة الواضحة لمسار التنظيم. وتؤكد (أ. ع) لـ"ميدان"، وهي طالبة بجامعة القاهرة، قد فُصِلت سنة من دراستها الجامعيَّة؛ لمشاركتها في مظاهرات طلاب ضد الانقلاب على ذلك، إذ تقول: "إن الوعي الفردي قد زاد بعد شعورنا بالانسحاق من أجل هدف تبين لنا فيما بعد أننا ندفع كلفته بلا مقابل، يدفعنا للسؤال أين أنا من كل هذه الأحلام التي حملتموني إياها؟ لِمَ يتم تسكيني في حلم لم أختره وأدفع الثمن والتكلفة بناء عليه؟".

 

ثمَّة لحظات فارقة ترسَّخت في ذاكرة هذا الجيل، منها: لحظة إعلان الانقلاب، ويوم فضّ رابعة، وكذلك المواقف التي عايشها البعض في هذه الأحداث
ثمَّة لحظات فارقة ترسَّخت في ذاكرة هذا الجيل، منها: لحظة إعلان الانقلاب، ويوم فضّ رابعة، وكذلك المواقف التي عايشها البعض في هذه الأحداث
 

تؤكد إحداهن على صفحتها على فيسبوك أنَّ المعاناة التي حصدها الأفراد من جرَّاء قرارات التنظيم غير المدروسة أدَّت إلى رفض الشباب للتنظيمات جمعاء، وبحث الأفراد عن خلاصهم الفرديّ، قائلة: "أفكر في أننا بعد أربعة أعوام من الانهيار الكبير لم نعد مشمولين بـ"ن"، لم نعد نحن، تفرق شملنا جميعا، وأفكر في الدماء المسفوحة بلا ثمن، وأن "هؤلاء" -أي القيادات- تسببوا في إسالته بشكل مباشر". وهذا ما ذكرته (ع.م) التي استشهد زوجها برابعة؛ إذ ترى أنَّ الجماعة هي المسؤولة الأولى عن دمه، لأنَّها أخذت قرارا بالاعتصام دون توفير حماية لأعضائها.

 

شيوع حالة الخوف المبهم

أدَّت الأحداث التي أعقبت فضَّ رابعة والنهضة إلى سيطرة حالة من الخوف على كثير من الأفراد الذين قابلناهم، ويمكن رصد أسباب هذا الخوف -كما تبيَّن من هذه المقابلات- فيما يلي:

الخوف من الانفلات: شيوع حالة الرِّدَّة عن الصحوة الإسلاميَّة، وما صاحبها من موجات خلع الحجاب والإلحاد، ممَّا أثار الخوف في نفوس البعض، فتذكر (ي.م) في حديثها لـ"ميدان" أنَّ أكثر ما هزَّها نفسيا هو حادثة انتحار زينب المهدي؛(5) وتضيف: "كانت شبهنا، وبتمثل الاهتزاز اللي حصلنا، من ساعتها وحياتي اتقلبت واتحوطت بناس مهزوزة نفسيا، وبقيت خايفة عليهم يحصلهم اللي حصلها". فثَمَّ تخوُّف من استمرار الهدم في الثوابت والتفكيك، ولا يوجد ملاذ لاحتواء الأفراد من هذا الخوف السائل.

 

الخوف من الذكريات المؤلمة للأحداث: ثمَّة لحظات فارقة ترسَّخت في ذاكرة هذا الجيل، منها: لحظة إعلان الانقلاب، ويوم فضّ رابعة، وكذلك المواقف التي عايشها البعض في هذه الأحداث. فيروي (ع.م 23 سنة) في حديثه لـ"ميدان" أنَّه كان يذهب مع أصحابه إلى اعتصام رابعة، ويمكث في خيمة هندسة الأزهر هناك، وعندما استشهد زملاء له يوم حادثة المنصَّة قبل أحداث الفضّ، لم يستوعب ذلك حينها، ولم يستطع الاستيعاب حتَّى الآن.(6)

 

ليست المشكلات المادِّيَّة هي المعاناة الوحيدة التي يتعرَّض لها المغترِب، وإنَّما ثَمَّ أيضا معاناة معنويَّة نتيجة لغياب الأهل والأصدقاء
ليست المشكلات المادِّيَّة هي المعاناة الوحيدة التي يتعرَّض لها المغترِب، وإنَّما ثَمَّ أيضا معاناة معنويَّة نتيجة لغياب الأهل والأصدقاء
 

ونجد في أحد التقارير التي رصدت حالة التغرب الذي يعاني منه أبناء هذا الجيل الذي بنى أحلامه على الثورة وتفاعله معها في حراكه السياسي والاجتماعي ذِكرا لعدد من المواقف التي علقت في ذاكرة بعض الشباب، مثل مشاهدة مئات الجثث في مسجد الإيمان، وغيرها من الجثث المحترقة بمسجد رابعة، وعدد من المشاهد المؤلمة التي تركت بصمتها في حياة من عايش تلك الأحداث. وهذه المشاهد ولَّدت في نفوس الشباب الشعور بالخوف واليأس والرغبة في الرحيل، فيذكر أحدهم -وقد رحل عن مصر-: "رحلت، لا أريد الاعتقال، ولا أريد الموت بهذا الشكل في عربة الترحيلات"، إشارة إلى حادث مقتل 37 شخصا في عربة الترحيلات من سجن أبو زعبل(7) في 18 أغسطس/آب 2013 .(1)

 

ومن خلال المقابلات السابقة، تبيَّن بروز سمت عام يميِّز هذا الجيل، وهو اللامبالاة والزهد في السياسي أو في كل ما هو شأن عام، ويمكن تفسير هذه اللامبالاة من خلال مفهوم جورج زيمل "la blasement" الذي يعني الاستملاء، أو الامتلاء حدَّ الضجر والاشمئزاز من ملابسات وتوترات الحياة اليوميَّة، ممَّا يؤدِّي إلى نفور يصل إلى حدِّ العدميَّة، حيث تفقد الأشياء معها كلَّ معنى وكلَّ أهمية.(8)

 

التغريبة الثالثة: أبناء هذا الجيل المغتربون ما بين العزلة والرغبة في التكيف

لقد شهدت مصر منذ 1952 ثلاث تغريبات رئيسة؛ وقعت التغريبة الأولى على الإخوان المسلمين في منتصف الخمسينيات خلال حكم عبد الناصر، والتغريبة الثانية شهدها اليسار والقوميُّون خلال حكم السادات، وأمَّا التغريبة الثالثة فهي تلك التي تعرَّض لها شباب هذا الجيل، والتي تُعَدُّ الأوسع انتشارا في تاريخ مصر.(9)

 

لم يتمَّ تقدير الحجم الفعلي للتغريبة، ولكن يغلب عليها صغر عمر المغتربين وتعدُّد البلدان التي ذهبوا إليها ما بين بعض الدول العربيَّة وأوروبا وأميركا، وتلك الأخيرة هي الأقوى والأشدُّ تأثيرا. وليست المشكلات المادِّيَّة هي المعاناة الوحيدة التي يتعرَّض لها المغترِب، وإنَّما ثَمَّ أيضا معاناة معنويَّة نتيجة لغياب الأهل والأصدقاء، مع عدم القدرة على تكوين علاقات جديدة تسانده، هذا بالإضافة إلى الشعور بتفتُّت الذاكرة جرَّاء كثرة التنقُّل بين الأماكن وسرعته، لصعوبة تحقُّق الاستقرار في الغربة.

 

يقول (م.ف):
يقول (م.ف): "رأيت أناسا يموتون أمامي في المظاهرات، وشغل سلميَّة ده مش بيأكل معانا عيش، اللي هيضرب هنضربه"
 

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه الحالة غير مطَّردة، فثَمَّ استجابات أخرى لأفراد عايشوا التجربة نفسها، ولكنَّهم استطاعوا التأقلم والاندماج في المجتمع الذي ذهبوا إليه، وما عادوا يرغبون في العودة إلى مصر مرّة أخرى، وهناك بعض آخر لم يستطع الاندماج في المجتمع، واضطر إلى الانعزال والانطواء، كما تذكر (أ.ه 22 سنة) في حديثها لـ"ميدان": "لقد عرفت مصادفة أني مطلوبة في قضية كبيرة بتهم كبرى، فخوفا عليّ من الاعتقال سافرت إلى تركيا وحيدة، حاليا لا أرغب في شيء سوى أن أرى عائلتي التي أرتبط بكل أفرادها، ولا أريد العودة لمصر، كرهتها، وصرت كائنا انطوائيا للغاية".(10)

 

ثمَّة خريطة جديدة تتشكَّل ولم تظهر ملامحها بعد، ويرجع ذلك إلى حالة السيولة والتبعثر الحادثة للشباب في نطاق بلدان شتَّى، والتي نتجت عن التغيُّر في تصوُّراتهم عن أنفسهم وأفكارهم السابقة، واختلاف تطلُّعاتهم بعد الاحتكاك في مجتمعات مختلفة، أو لاختبار أفكارهم وقناعاتهم السابقة على أرض الواقع، والتي لا تعطي ملامح إلى أي مستقبل لهؤلاء الأفراد، أو طبيعة الجيل التالي الذي وُلد في الغربة، أو علاقات الجيل الحالي مع الوطن وروابطه القديمة التي انفكَّ منها.

 

وتعبر (م.خ 27 سنة) لـ"ميدان" عن هذه الهواجس قائلة إنها سافرت لتركيا في شهر العسل بعد زواجها، ثم حدث الانقلاب فلم تستطع العودة لانتماء زوجها للإخوان المسلمين، وتقول إنني وزوجي وحدنا في تركيا، رغم أني أحب البلد ولا أريد العودة إلى مصر، فإنني أفكر في ذاكرة أبنائي الذين لن يرتبطوا بأجواء حميمية مثلي، كقضاء رمضان في العائلة في مصر أو أجواء كحك العيد. كما أنني نفسي صرت أخاف من فكرة المقابلة مع أصدقائي وأهلي بعد سفري، أخشى لحظة أنني أتغير وأتكون في سياق مختلف عنهم، ولم يعد شيء يربطني بهم.

 

في الفئة الأصغر نجد أنَّ التفكير في دعوة الجهاد والسفر إلى سوريا أو ليبيا والانضمام لـ
في الفئة الأصغر نجد أنَّ التفكير في دعوة الجهاد والسفر إلى سوريا أو ليبيا والانضمام لـ"داعش"، أصبح ردَّ فعل للشعور بالانهزام والانكسار، ورغبة في"الانتحار بشكل شيك"
 

ومن الملاحظ أنَّ ثَمَّ تأثيرا كبيرا فارقا في الاستجابة وفقا للمرحلة العمريَّة، فنجد أنَّ الفئة التي كانت في المرحلة الثانويَّة أو أولى سنوات الدراسة الجامعيَّة، وشاركت في أحداث ما بعد الفضّ، وتعرضت لانتهاك، أو تجربة تعذيب، أو اعتقال، أو مطاردة تختلف عن تلك التي شاركت في أحداث التحرير عام 2011 وهي في العشرين من عمرها، فقد تبيَّن لنا من خلال المقابلات أنَّ الفئة الأصغر من جيل الثورة، والتي عايشت الانقلاب في مرحلة المراهقة، أكثرُ ميلا للعنف عن غيرهم من الشباب من العشرينيات وقت الانقلاب، ويمكن أن يتَّضح ذلك بشكل كبير في حالة السودان؛ فقد قام أحد المختصِّين النفسيين بعمل دراسة على عيِّنة من طلبة المرحلة الثانويَّة، ممَّن خرجوا من مصر إلى إحدى الدول التي يهاجر إليها الشباب الهارب من حكم العسكر، وخلصت الدراسة إلى أنَّ الشباب قد تعرَّضوا لعدّة وسائل تعذيب شنيعة، ممَّا أدَّى إلى إصابتهم بمشاكل أخلاقيَّة ونفسيَّة، وتكوَّنت لدى البعض منهم الرغبة الشديدة في الانتقام والشعور بالدونيَّة والانكسار.

 

وهذا ما يؤكِّده (م.ف) لـ"ميدان" في الحديث عن أزمة أصدقائه في الأسرة الإخوانيَّة في الحيّ الذي يقيم به، أولئك الذين عانوا من الطرد، أو قسوة تجربة الهرب لبلد آخر بطرق غير شرعيَّة بدون امتلاك أي أوراق رسميَّة، أو السجن، أو الاختفاء القسري في مرحلة الثانويَّة، فقد دفعهم الغضب والسخط إلى الرغبة في ممارسة العنف، فيقول: "رأيت أناسا يموتون أمامي في المظاهرات، وشغل سلميَّة ده مش بيأكل معانا عيش، اللي هيضرب هنضربه"، فخرج هو وبعض أصدقائه بالسلاح في المظاهرات وشاركوا في العمليَّات النوعيَّة، وقُبض عليهم، وبعضهم حُكم عليه. ولم يعد التعويل على الحماية من التنظيم مُجديا، لقد كفرنا بالتنظيمات وعلينا حماية أنفسنا.

 

وكذلك ثَمَّ فارق بين الفئتين يتَّضح من خلال الرغبة في السفر للجهاد في سوريا، بعد اندلاع الثورة السوريَّة، في فترة حكم مرسي حتَّى الانقلاب، وبين الرغبة في الجهاد ما بعد الانقلاب 2013؛ إذ كانت الرغبة في الجهاد بدافع نشوة تحقيق حلم التمكين، والخلافة، والنقاء الثوريِّ والأيديولوجيّ، ويؤكِّد (أ.س 28 سنة) في حديثه لـ"ميدان" إذ يقول: "فكَّرنا كشباب في الجهاد دون انتظار القيادات التي لم تأخذ قرار الجهاد الرسمي (1) رغم رفضها الوضع في سوريا، فقد ظننا سذاجة أننا تملّكنا الدولة فلِمَ لا نذهب للجهاد"، ووالدافع الذي حركه هو الحماسة والإيمان بوحدة الأمة الإسلامية، لعدم التضييق الأمني فترة مرسي خاصة مقارنة بما أعقبها، ثم تلاشت هذه الفكرة بعد الانقلاب".

 undefined

ولكنَّا في الفئة الأصغر نجد أنَّ التفكير في دعوة الجهاد والسفر إلى سوريا أو ليبيا والانضمام لـ"داعش"، أصبح ردَّ فعل للشعور بالانهزام والانكسار، ورغبة في"الانتحار بشكل شيك" كما يروي (أ.ر) لـ"ميدان" عن أصدقائه الذين عُذِّبوا في المعتقلات وطُردوا خارج البلاد في سنٍّ صغيرة، ورغبوا في الالتحاق بـ"داعش". فيروي أن أسرته التي يحضر معها اللقاءات الإخوانية حاول البعض منهم الوصول لداعش، ومنهم من سافر سوريا عن طريق ليبيا، ومنهم من اعتُقل في طريقه إلى ليبيا، ويتم الترويج من خلال التأثر الإعلامي بفكر أبو مصعب السوري وحكايات أصحابه الذين سافروا من قبله(2)

 

لا يستطيع مجرد تقرير إلمام كل مظاهر هذه التحولات لهذا الجيل من شباب الإسلاميين وخاصة المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، لكثرة أوجهها ولاختلاط الجانب النفسي والعاطفي الذاتي بالاجتماعي والسياسي، واختلاف وتنوع الأماكن التي انتشروا بها والاستجابات المختلفة للأفراد، ولكن البحث عن المشترك بين هذه التجارب الذاتية بجدية أمر مهم لرصد مآلات هذه التحولات خلال العقود التالية في هذا العالم شديد التسارع والتغير، لذا فإن التقرير لم يتعرض سوى لجزء من ملامح الأزمة التي يعاني منها أبناء هذا الجيل، ورصد بعض من صور هذه التحولات وليس جميعها التي تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة والإصغاء إلى الكثير من أبناء هذا الجيل.

المصدر : الجزيرة