شعار قسم ميدان

كيف طلب الشباب العلومَ في حضارتنا؟

midan - الأندلس

"يجب القول: إن هذا التجديد الذي أخذ طريقه إلى البلاد الإسلامية، واحتفظ حتى اليوم بكل خصائصه القديمة، لم يمسّ جوهريًا نظام الحرية القديم، والذي واصل طريقه في الوقت نفسه، ولم تصنع الدولة معه أكثر من إنشاء مراكز دائمة تسهل وسائل تعليم الشعب، وليس مؤسسات ممتازة تتطلب تغذيتها إلغاء التعليم الخاص ضرورة، وواصل الأساتذة منح الإجازات طبقًا للعادات القدية دون أن تأخذ مُطلقًا شكلاً رسميًا على النحو الذي سيُصبح عليه الحال في الجامعات الأوروبية فيما بعد، عند أُنشئ نظام يحتكر هذا العمل، ويُوقفه على غايات تربوية فحسب، وفيه وحده انحصر التعليم الجامعي".

المستشرق الإسباني "خوليان ريبيرا" في مدحه لنظام التعليم في الحضارة الإسلامية

 

ملامح النظام التعليمي

كان العهد الراشدي قد بدأ بالحرص والتشديد على ضرورة طلب العلم والمعرفة، واستيفاد المعلمين والمؤدبين الأكفاء للعاصمة، فقد كان هناك "ثلاثة معلمون بالمدينة المنورة يُعلمون الصبيان، وكان عمر بن الخطاب يُعطي كل واحد منهم خمسة عشر درهمًا كل شهر (1).
 

وكان بعض كبار الصحابة مديرين لمكاتب لتعليم الأطفال في المدينة؛ مثل الصحابي عبد الله بن مسعود (ت 32هـ)، الذي كان يحرصُ على أطفال مكتبه (كُتّابه) كأنهم أولاده (2).
 

لقد كان التلاميذ ينتقلون من مرحلة الكُتاب إلى المرحلة الثانية وهي التعليم في حلقات العلم في المساجد، والتي كانت مقصدًا للعلماء وطلبة العلم على السواء، فيونس بن حبيب الضبي (ت 183هـ) كانت حلقته في مسجد البصرة ينتابها الأدباء وفصحاء الأعراب، وكان مجلس الشافعي يحضره أهل الحديث والفقه والشعر، كل منهم يتعلم ويستفيد، يختلط في ذلك الصغير والكبير.

كان التعليم في المساجد يتمتع بقدر من الحرية بحيث سُمح للمتعلم أن يُراعي ميوله ومواهبه
كان التعليم في المساجد يتمتع بقدر من الحرية بحيث سُمح للمتعلم أن يُراعي ميوله ومواهبه
 

لقد كان التعليم في المساجد يتمتع بقدر من الحرية بحيث سُمح للمتعلم أن يُراعي ميوله ومواهبه، وينضم إلى الحلقة التي يرغبُ في تعلم علومها، فتنوّع المناهج في الحلقات العلمية كان من العوامل التي ساعدت على ظهور المواهب العلمية في شتى المجالات، وقد كانت "خطوة رائدة على طريق حرية التعليم وعدم إجبار الطالب على دراسة علوم قد لا يميل إليها، كما كانت من جهة أخرى حافزًا للتنافس الشريف بين معلمي الحلقات العلمية (3).
 

والناظر لهذه الحلقات كان يجد فتيانًا في الخامسة عشرة من عُمرهم، وإلى جانبهم رجال متفاوتون في أعمارهم، ولكنهم كانوا في زهوة نضجهم، وبينهم من بلغ الخمسين أو تخطاها، وكانت أعداد التلاميذ متفاوتة، تبدأ من التلميذ الفرد، ثم تمضي في اطراد وازدياد حتى تبلغ ألف طالب أو أكثر، وكان جلوس الطلاب وانتظامهم متروكًا لسلوكهم الشخصي، وأدبهم الذاتي، وحسن تقديرهم، وما يحبون أن يكونوا عليه فيما بينهم، وفي كل الحالات يستطيع أول من يصل أن يختار المكان الأقرب إلى الأستاذ(4)!
 

أما العلاقة التربوية والمنهجية بين المعلم والطالب ففيها من الشواهد الكثير، على أن عبد الرحمن الشَّيْزري (ت590هـ) في كتابه المهم "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة"، وهو كتاب في الحسبة بالأساس، لكنه يُلَخِّص بصورة مفيدة طبيعة التعامل والتربية والتعليم بين المعلم والتلميذ في تلك الحقبة؛ وقد خصّص فصلاً في كتابه بعنوان "الحسبة على مؤدّبي الصبيان" كان مما جاء فيه: "ينبغي للمؤدِّب أن يترفَّق بالصغير، وأن يعلِّمه السُّور القصار من القرآن بعد حذاقته بمعرفة الحروف وضبطها بالشكل، ويُدرِّجه بذلك حتى يألفه طبعًا، ثم يُعرِّفه عقائد السُّنن، ثم أصول الحساب، وما يُستحسن من المراسلات، وفي وقت بطالة العادة يأمرهم بتجويد الخطِّ على المثال"(5).
 

وفي فترة لاحقة من تاريخ الحضارة والتربية تطورت أماكن التعليم من الكتاتيب المفردة أو الملحقة بالمساجد ومجالس العلم إلى ظهور المدارس منذ العصر العباسيّ الذي كانت تتكئ فيه ماليًا على نفقات المحسنين والمتصدقين، ثم على الأوقاف التي كانت الرافد الأهم والمنتظم الذي كان يدفع عملية التربية والتعليم في الحضارة الإسلامية حتى العصر الحديث.
 

وفي زمن الأيوبيين والمماليك والعثمانيين انتشرت هذه المدارس "الكليات" بصورة لافتة؛ وقلّما خلا شارع من مدرسة أو عدة مدارس في فنون علمية ومعرفية متنوعة ما بين العلوم النقلية الشرعية واللغوية، والعلوم العقلية الطبية والهندسية وغيرها، وتنافسَ في بناء هذه المدارس التي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم، كل من التجار "رجال الأعمال"، والسلاطين والأمراء "السلطة الحاكمة"، وطبقة العلماء "المثقفين"، تنافسًا محمومًا جعل الباحثة في العصر المملوكي دوريس أبوسيف تقرر أن ذلك العصر كان يخرج فيه باحثًا من أصل ثلاثة أشخاص، وهي نسبة تُدلل على مقدار التفوق والبروز الثقافي الذي وصلت إليه حضارتنا في تلك المرحلة!

من مناهج التربية في الحضارة الإسلامية
 
تعليم أهل
تعليم أهل "إفريقية" للأطفال كان يرتكز على القرآن الكريم، ولا يتعدى الطفل هذه المادة الإجبارية إلا إذا أتمها
 

أما المناهج والمواد التعليمية التي كان يتلقاها المتعلمون منذ الصغر وحتى الشبيبة، فقد تناولها العلامة ابن خلدون (ت808هـ) في مقدمته الشهيرة في تاريخه، لاسيما مناهج أهل المغرب والأندلس بشيء من التفصيل والتوضيح والنقد والمراجعة الجادة. وهي تفصيلات من النادر أن نجدها عند غيره بهذا القدر من الخلاصة والدقة.
 

لقد ذكر أن مناهج التربية والتعليم في إفريقية وهي بعض من ليبيا وتونس وبعض من الجزائر اليوم، كانوا: يخلطون في تعليمهم القرآن بالحديث في الغالب، ومبادئ العلوم وقوانينها، وضرب الأمثلة العملية على بعض مسائلها، "إلا أن عنايتهم بالقرآن واستنظار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبعٌ لذلك، وبالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس"(6).
 

إن تعليم أهل "إفريقية" للأطفال كان يرتكز على القرآن الكريم، ولا يتعدى الطفل هذه المادة الإجبارية إلا إذا أتمها إتمامًا جيدًا، ثم تأتي علوم الحديث والخط وبعض العلوم العقيلة كالحساب وغيره تبع للقرآن الكريم، ولكنها ليست بنفس الدرجة، وقد شبه ابن خلدون هذه المناهج بمناهج أهل الأندلس، الذين كانوا يعتمدون تعليم القرآن والكتاب، وكانوا يخلطون في تعليمهم للقرآن "رواية الشعر في الغالب، والترسُّل(7) وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتاب، ولا تختصُّ عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد عن عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب(8).
 

وهنا أيضًا يوضح ابن خلدون أن أهل الأندلس اهتموا أكثر ما اهتموا بتعليم أولادهم للقرآن الكريم، وأما بقية العلوم والمعارف فهي ثانوية فرعية لا تقاس أهميتها بأهمية القرآن، وحتى تعليم الخط لم يكن يلقى العناية المرجوة، وكان تعلميه غالبًا ما يكون بالمجهود الفردي للشاب في المراحل اللاحقة من التعليم، وقد أسف ابن خلدون إلى كون التعليم ينقطع في الأندلس في أوقات يكون الطالب أحوج إلى العلوم والمعارف فيها من أي شيء آخر، ويكون تحصيله الأولي في الكُتّاب هو ذخره وإرثه!.
 

هذه نبذة عن أهم مراحل التربية والتعليم في الحضارة الإسلامية، وهي مراحل استمر عليها الناس لقرون متطاولة، يضيف اللاحق منهم على السابق، لقد كان القرآن الكريم أساس العملية التعليمية في هذه الحضارة، وكل العلوم النقلية والعقلية كانت تخدم في الأساس النص/الوحي، منذ نعومة الأظفار وحتى الكهولة والهرم، على أن هذا النظام ارتكز في فلسفته على الحرية الشخصية للمتعلمين، الأمر الذي ساعد على إخراج النوابغ في المجالات العلمية المختلفة بصورة لافتة!