شعار قسم ميدان

"البستان الأحمر".. كيف سيطر الظاهر بيبرس على قيصارية؟

ميدان - معركة المغول

وما كان هذا التختُ من حين نصبه ***  لغير المليك الظاهرِ البدر يصلُح

مليكٌ على اسم اللهِ ما فتحت له *** صوارمها لبيض المواضى ويفتح

أتته وفودُ الروم والكلّ قائل *** رأيناك تعفو عن كثير وتصفحُ

فأوسعهم حلما، وأولاهم ندى *** فأمسَوا على أمنٍ ومنٍّ فأصبحوا

 (في وصف السلطان الظاهر بيبرس حين جلس على عرش سلاجقة الروم)

 

جاء في التقرير السابق موجز للصراع الضاري بين المغول في العراق المحتل وبين دولة المماليك في عصر سلطانها الظاهر ركن الدين بيبرس (658- 676هـ/1260م- 1278م)، خاصة على الجبهة الشامية التي كانت محط الصراع الأساسي والمحوري بين الفريقين، خاصة مع توغل المغول في عمق الأراضي الشامية بعد هزيمة عين جالوت، ومحاولتهم استرداد هذا الإقليم، والثأر لهزائمهم المذلة، وقتلاهم، وتغير أسطورة التتار التي علقت في أذهان الناس لعشرات السنين.

الحلف المغولي السلجوقي

وقد كانت النتيجة المباشرة للهزائم المتوالية للمغول أمام الجيش المملوكي الاستعانة بحليف تابع لهم منذ عقد من الزمان، وهم سلاجقة الروم، وكانت بلاد الروم أو الأناضول تُحكم من قِبل فرع من الأسرة السلجوقية منذ عام 479هـ/1086م، لكنها خضعت للنفوذ والاحتلال المغولي منذ عام 646هـ/1248م، هذا الاحتلال الذي قسّم بلاد الدولة في آسيا الصغرى بين عدد من أمراء السلاجقة، حتى يضمن المغول السيطرة المطلقة على هذه البلدان، ولذلك استغل المغول نفوذهم على السلاجقة بإجبار قواتهم على الانضمام لهم في مواجهة المماليك منذ سنة 674هـ/1275م، حيث عادوا لمهاجمة قلعة إلبيرة على الفرات ومعهم خمسة عشـر ألفا من قوات السلاجقة بقيادة الوزير معين الدين البرواناه، لكنهم خافوا وعادوا أدراجهم لما علموا قدوم الظاهر بيبرس لمواجهتهم، والحق أن البرواناه أعلن انحيازه إلى الظاهر بيبرس مما تسبّب في هزيمة المغول النفسية ثم انسحابهم، وهو ما أغضب الخان المغولي[1].

 
على أن الوزير السلجوقي معين الدين البرواناه تحت وطأة الضغط المغولي وإلحاح الخان أبُغا أو أباقا على مقابلته أذعن لتحالفه معهم مرة أخرى، فأرسل إلى المغول يخبرهم بتحركات المماليك في شمال بلاد الشام، وتهديدهم الجديّ لسلاجقة الروم، وبالرغم من انضمام بعض القادة العسكريين السلاجقة إلى الظاهر بيبرس واتفاقهم معه على ضرورة إخبار السلطان السلجوقي ركن الدين قلج أرسلان بخطأ ما يقوم به البرواناه وضرورة التحالف مع المماليك وعدم مساعدة التتار عليهم فإن البرواناه قطع الطريق على هؤلاء القادة فلم يصلوا إلى السلطان السلجوقي في العاصمة قيسارية الروم (قيصارية الآن في وسط تركيا)[2].

ورأى بيبرس في التحالف المغولي السلجوقي خطرا شديدا على الدولة المملوكية، لأنه يحاصر دولة المماليك في الجهتين الشـرقية والشمالية، لذا أصرّ في العام التالي، وفي ظل معاضدة بعض القادة العسكريين من السلاجقة المناوئين للاحتلال المغولي، أن يستولي المماليك على بلاد الروم، ومن ثم شرع في السفر في رمضان سنة 675هـ/1276م إلى الشام ومعه الجيش المملوكي، وتوجّه شمالا إلى حلب، فعلم أن المغول والسلاجقة اتفقا معا هذه المرة أيضا على مواجهة التحرك المملوكي[3].

معركة البستان الأحمر!

في صحراء الأبلستين (البستان بالقرب من مرعش جنوب تركيا الآن) ترصّدت القوات المملوكية للحليفين المغولي والسلجوقي في أعلى جبال المنطقة، ثم سرعان ما تخطفت القوات المملوكية رقاب المغول والسلاجقة في معركة صحراء الأبلستين (البستان)، وقد وصف المؤرخ ورئيس ديوان الإنشاء (وزارة الخارجية المملوكية) ابن عبد الظاهر هذه المعركة -وكان شاهد عيان عليها- بأن السلطان بيبرس أرسل القائد العسكري المملوكي الأمير سُنقر الأشقر لملاحقة فلول المغول وليمهد له الطريق إلى العاصمة السلجوقية قيسارية أو قيصارية، وكتب إلى أهلها "بالأمان، وإخراج الأسواق، والتعامل بالدَّراهم الظَّاهريَّة"[4] وهي عُملة دولة المماليك، وهو ما يعني أن أراضي الدولة السلجوقية في الأناضول صارت تدين بالولاء للقاهرة المملوكية.

undefined

ودخل بيبرس عاصمة سلاجقة الروم "قيصارية" ظافرا منتصرا في 15 ذي القعدة سنة 675هـ/ (إبريل/نيسان) 1277م، وقد استقبله أهلها بمختلف طبقاتهم بالترحاب والتهليل والتكبير، هذا الدخول يصفه المؤرخ العلامة تقي الدين المقريزي بقوله:

"وركب السُّلطان في يوم الجمعة سابع عَشـريه وعلى رأسه جتر (مظلّة) بني سلجوق، ودخل قيسارية دار السلطة، وعبر القصور وجلس على [عرش] آل سلجوق، وأقبل النَّاس للهناء وقبلوا الأرض، وحضر القضاةُ والفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية وأعيان قيسارية وذوو المراتب على عادة الملوك السلجوقية في أيَّام الجُمع ووقف أمير المحفل -وهو عندهم ذو حرمة ومكانة ويلبس أكبر ثوب وعمامة- فرتّب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السُّلطان منتظرا ما يشير به. وقرأ القرَّاء أحسن قراءة ورفعوا أصواتهم بالتلحين العجيب إلى أن فرغوا، فأنشد أمير المحفل بالعربيَّة والعجمية مدائح في السُّلطان ومد سماط (مائدة) الطَّعام فأكل من حضر ثمَّ أحضرت دراهم عليها السِّكَّة الظَّاهريَّة. وتهيأ السُّلطان لصلاة الجمعة وقام السُّلطان إلى الجامع، وخُطب الخطب بنعوته وصلي وخطب له الخطباء بجوامع قيسارية وهي سبعة"[5].

وبالرغم من خيانة الوزير السلجوقي البرواناه واتحاده مع المغول ضد المسلمين فإن السلطان الظاهر تعامل مع أهل قيسارية معاملة راقية، قال ابن العبري وهو معاصر لتلك الأحداث: "لم يُؤذِ أحدا من الشعب ولم ينهب، وأخذ جنوده كل شيء بثمنه، حتى إنهم اشتروا التبن لجيادهم، وقد كان يقول: إنني لم أحضـر لأُخرب البلد، ولكن لأحرِّر صاحبها من عبودية التتار"[6].

عواقب المعركة
علم السلاجقة (مواقع التواصل)
علم السلاجقة (مواقع التواصل)

رأى بيبرس أن بقاءه في عاصمة الروم السلاجقة ربما يكون خطرا عليه وعلى البلاد الشامية لتوقع عودة المغول من العراق انتقاما لهزيمتهم المدوية في صحراء البستان في قلب الأناضول، فضلا عن الإنهاك الشديد وقلة الأعلاف لخيول الجيش التي كانت قد بدأت في النفوق[7]، وقد كان صادقا في حدسه، فإنه بعدما غادر قيسارية سار أباقا خان المغول إلى منطقة المعركة، ولما وقف بنفسه على ساحة القتال، ورأى سحق المغول، والآلاف من جثث قواته، قرّر الانتقام من البرواناه قائد السلاجقة، وبالفعل أخذه معه إلى بغداد، وانتهت حياة البرواناه على يد أباقا[8]!

ولم يكتف أباقا بمعاقبة البروناه فقط، فقد كانت ثورته عارمة بسبب هزيمة الأبلستين أو البستان، فإنه حين تحرك إلى أرض المعركة ووجد جثث الآلاف من قواته قرر الانتقام من مسلمي بلاد الروم (الأناضول)، وقد ذكر عدد من المؤرخين أنه قتل أكثر من مئتي ألف من مسلمي الأناضول، وهو رقم إن صح فإنما يدل على انعكاس أثر الهزيمة الثقيلة على نفسه[9].

وهكذا، وقُبيل عام واحد من وفاة السلطان الظاهر بيبرس، نرى هزيمة مدوية لقوات المغول "التتار" الذين أذاقوا العالم الإسلامي الويلات والحروب والدمار والقتل. في تقاريرنا القادمة سنرى إستراتيجية المماليك في مواجهة الغزو المغولي القادم شرقا وشمالا بعد وفاة السلطان الظاهر بيبرس، وهل تمكن المماليك من وأد وإيقاف هذا التمدد العسكري الجارف في عصر السلطان المنصور قلاوون، أم فشلوا في إيقاف هذا التمدد؟

المصدر : الجزيرة