شعار قسم ميدان

ما صورة المراقبة الأخلاقية في التراث الإسلامي؟

ميدان - الحسبة

"الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا أُظهر فعلُه"

(الماوردي في "الأحكام السلطانية والولايات الدينية")

  

حين كتب الباحث والمفكر الأمريكي مايكل كوك كتابه المهم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي" فقد صدّره بقصّة لافتة لعلها كانت السبب الأبرز في تأليفه هذا الكتاب، يقول: عشية يوم الخميس 22 سبتمبر/ أيلول 1988م اغتُصبت امرأة في محطة قطار فرعية في شيكاغو بحضور عدة أشخاص، واللافت أن تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" عن الحادث والمعتمد على  محضر الشرطة يؤكد أن أحدًا لم يتحرك لمساعدة المعتدي عليها، أو يأبه لنداءاتها؛ لأن الاغتصاب تم في ساعة الزحام، ويذكر المفتش ديزي مارتن أن عدة أشخاص رأوا الحادثة وسمعوا استنجاد المغتصبة بيد أن أحدا لم يسعفها.

 

لكن في اليوم التالي ظهرت شهادة مغايرة تقول بأن عدة أشخاص رأوا الحادثة وقد ظنوا أن المواقعة تتم برضى المجني عليها لأن الجاني أرغمها على الابتسام، لكن شابا من بين الحضور وهو رندي كايلز قال في نفسه: "هذا غريب حقا"، إذ بدا له كأن شيئًا مصطنعًا يحدث، ولذا لم يركب القطار، ولما صعدت المجني عليها إلى الدرج وهي تصيح أن الرجل اغتصبها جرى كايلز وراءه ولوّح لسيارة الشرطة فكان هو الذي مكّن من إيقاف الجاني.

 

يقول كايلز: "كان علي أن أفعل شيئًا لمساعدة تلك المرأة، لم يكن ذلك عملا صحيحا، كان يمكن أن تكون أمي أو خالتي أو إحدى صديقات أمي". يُعقّب مايكل كوك على هذه الحادثة برمتها بقوله: "ثمة إجماع أخلاقي واسع خلف هذين التقريرين؛ إذ لا يجوز للمرء أن يقف ويشاهد بلا حراك امرأة تُغتصب في مكان عام، يجب أن يفعل شيئًا. مع ذلك ليست لدينا نظرية عامة حول الأوضاع التي ينطبق عليها، والإرغامات التي تسقطه. إن القيمة الأخلاقية موجودة عندنا لكنها ليست من القيم التي أولتها ثقافتنا (الغربية) صياغة متطورة ومتكاملة"[1].

    undefined

  

هذا الاعتراف الشجاع من كوك بانعدام وجود نظرية متكاملة حول قضية المراقبة الأخلاقية، والإغاثة، غير المتغلغلة في الثقافة الغربية، وهي إن وجدت في المقابل فإنها توجد في نقاشات الحقوقيين والفلاسفة، وهي مناقشات ضيقة النطاق والتأثير كما يقرر هو[2]. لكن كوك يتمادى في شجاعته ويعترف بأن الإسلام يقدم في المقابل اسما ونظرية لواجب أخلاقي من هذا النوع واسع المجال، وهو ما يُسمى بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" باعتباره حق الأفراد في المجتمع الإسلامي في المراقبة الأخلاقية لتقويم أي سلوك منحرف يمس الكيان العام لهذا المجتمع، فضلاً عن وجود الحسبة/ الاحتساب وهو حق الدولة في المراقبة المجتمعية التي تطورت بمرور الزمن لتصبح مؤسسة من مؤسسات الدولة الإسلامية ونظمها الأساسية حتى عصرنا هذا في بعض الدول.

   

الاحتساب والتراث الإسلامي
ينطلق مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التراث والحضارة الإسلامية من سياق الآية القرآنية : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]، وقد جعل بعض علماء السياسة الشرعية هذا المبدأ إحدى الوظائف المنوطة بالحاكم كما رأى الإمام أبو يعلى الفرّاء في "الأحكام السلطانية"[3].

 

لكن معاصره الإمام أبا المعالي الجويني يجعل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشمل وأعم وأهم من أن تُحصر في نطاق يد الحاكم فهو حين يناقش هذه القضية في كتابه "غياث الأمم والتياث الظلم" يرى أن الدين كله أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأن الأمة كلها منوط بها القيام بهذه الوظيفة يقول: "فإن قيل لم تذكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قلنا الشرع من مفتتحه إلى مختتمه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والدعاء إلى المعروف والنهي عن المنكر يثبتُ لكافّة المسلمين"[4].

  

 

على أن الجويني يضبط رأيه حفظًا وصيانة لأمن المجتمع فليس لعامة الناس و"الرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب من غير فظاظة وملَق … (وليس) للرعية شهر الأسلحة، لكنهم ينهون الأمور إلى الولاة"[5]. ولم تكن قضية الخروج المسلح على الحاكم باعتبارها تجليًا من تجليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومآلاتها خطيرة في نظر الجويني فقط، فقد سبقه إلى ذلك أئمة كثر منهم الإمام أبو حنيفة الذي نأى بنفسه عن مواجهة العباسيين بصورة مسلحة حين جاءه سؤال حول هذا الأمر.

 

تدل الإشارات التاريخية والتراثية على أن وظيفة الاحتساب قديمة ومرتبطة بوجود الإسلام ذاته، وأن المراقبة الأخلاقية والسلوكية ثم مراقبة الأسواق والبضائع قد وجدت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عصر الخلفاء الراشدين من بعده، وفي الأخبار أن ملك الروم في عصر الخليفة عمر بن الخطاب أرسل إليه سفيرًا بهدايا، فلما وصل السفير إلى المدينة المنورة "قال أين دار الخليفة وبناؤه؟ فقيل له: ليس له دار عظيمَة كمَا توهمتَ إنَّما له بيت صغير. فدلّوه عليه فأتاه فوجد له بيتا صغيرا حقيرا قد اسودّ بابه لطول الزَّمَان فطلَبه فَلم يصادفه، وقيل إنه خرج إلى السُّوق لحاجته وحوائج المسلمين؛ أي للاحتساب، فَخرج الرَّسُول إِلى طلبة فوجده نائما تحت ظلّ حائط قد توسّد بالدِّرةِ (العصا التي يعاقب بها المنفلتين)"[6].

 

تطور في الوظيفة
"يتخذُ المحتسب له سوطًا ودرّة وطُرطورًا وغلمانًا وأعوانًا، فإن ذلك أرعب لقلوب العامة، وأشدّ خوفًا، ويلازم الأسواق والدروب في أوقات الغفلة عنه، ويتخذ له فيها عيونًا، يوصّلون له الأخبار، وأحوال السوقة"

(الشيزري في "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة")

     

رأينا أن الخليفة نفسه كان يراقب حركة الأسواق وحركة الآداب العامة في المجتمع في زمنه، وقد اهتم الأمويون والعباسيون بهذه الوظيفة وعينوا لها رجالا سموا لأول مرة باسم "المحتسب"، وقد تداخلت وظيفته بين الشئون الدنيوية مثل مراقبة حركة البضائع والأسواق وبين الشئون الدينية مثل مراقبة الأخلاق والقيم العامة.

   undefined

   

وما يؤكد ذلك هذه القصة، فالأمير طُغتكين التركي (ت 522هـ/ 1028م) حاكم دمشق في الربع الأول من القرن السادس الهجري/الحادي عشر الميلادي طلب محتسبًا، فذكر له الناس رجلا من أهل العلم فأمر بإحضاره، فلما رآه قال: "إني وليتُك أمر الحسبة على الناس، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". قال: "إن كان الأمر كذلك، فقم عن هذه الطراحة، وارفع هذا المسند، فإنهما حرير، واخلع هذا الخاتم فإنه ذهب. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: "إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها". قال: "فنهض السلطان عن طراحته وأمر برفع مسنده، وخلع الخاتم من أصبعه، وقال: قد ضممتُ إليك النظر في أمور الشرطة". فما رأى الناس محتسبًا أهيب منه[7].

 

ولانتشار هذه الوظيفة، وتشرب الثقافة الإسلامية بأدبيات ونصوص تبين ملامحها وآلياتها؛ فقد مرّ على الحسبة والمحتسب ما مرّ على غيرهما من محاولة التصنيف والترتيب والتحديد على أيدي الفقهاء، من ذلك ما فعله الماوردي (ت 450هـ/1085م) في "الأحكام السلطانية"، وما كتبه الغزالي (ت 505هـ/1111م) في "إحياء علوم الدين"، وما قاله ابن تيمية (ت 728م/1327م) في "الحسبة في الإسلام" وهي رسالة صغيرة نوعًا ما، وما فعله ابن جماعة (ت 733هـ/1333م)  في "تحرير الأحكام". حتى السبكي رأى أنه من الضروري أن يتحدث عن الحسبة في كتاب بعيد نوعا ما عن الحسبة في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم"، ولعل إفساح ابن خلدون مجالاً للحسبة في مقدمته ليس غريبًا على من عالج الدولة والمجتمع والعمران[8].

    

    

ويبدو أن وظيفة المحتسب كانت تعطي لصاحبها مكانة وأهمية بين الناس، فقد كان مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب ومن ذريته فاطميي مصر والشام أبو عبد الله الشيعي كان في أساس أمره محتسبًا وهو ما جعل دعوته تلقى آذانا مصغية بين جماهير الناس في بلاد المغرب[9].

 

لكن من الملاحظ أن هذه الوظيفة تطورت بتطور الأحداث السياسية في المنطقة العربية، في عصور الدولة الزنكية والأيوبية والمملوكية بدأت التآليف في الحسبة تهتم أكثر بالمنحى العملي والصناعي، ويفسر البعض ذلك بأن المحتسب في هذه الحقبة صار أكثر التصاقًا بالأسواق منه بالعامة في الشوارع والحارات، لذا كانت هذه الأدبيات دستورا لهؤلاء المحتسبين تبين لهم كيفية التعامل مع البائعين والمشترين، كما تبين لهؤلاء الآداب الواجب توافرها[10].

 

مؤلفات جديدة
من هذه الكتب الجديدة فكرا ومنهجًا كتاب "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" لجلال الدين الشيزري المعاصر لدولة الأيوبيين والمتوفى بعد صلاح الدين الأيوبي بعام واحد سنة (590هـ/1094م). في كتاب الشيزري نرى الاحتساب/المراقبة الأخلاقية والسياسية في كافة وظائف المجتمع الإسلامي آنذاك في الأسواق والطرقات، في المكاييل والموازين، في وظائف الدقاقين والجزارين والشوائين، على الطباخين بل حتى على المعلمين والمؤدبين في المدارس، والأطباء والصيادلة وغيرهم.

 

ملاحظات الشيزري في كتابه لافتة ومهمة للغاية، لافتة لأنها كتبت قبل تسعمائة عام من الآن، ومهمة لتطور الحضارة الإسلامية في هذا الزمن الغابر، فلم تكن الحسبة مجرد تفتيش على جودة الصناعات والأغذية وضبط الغشاشين، وإنما تجلى البُعد الأخلاقي قبل هذا. على سبيل المثال في حديثه عما يجب أن يفعله المحتسب في مراقبة أداء الفرّانين يقول: "يُفرّقهم المحتسب على الدروب، والمحال وأطراف البلد، لما فيهم من المرافق وعظم حاجة الناس إليهم، ويأمرهم بإصلاح المداخن، وتنظيف بلاط الفرن في كل ساعة من اللباب المحترق، والشرر المتطاير، والرماد المتناثر، لئلا يلصق في أسفل الخبز منه شيء"[11].

     undefined

    

بعده بقرن وبضع قرن يكتب ضياء الدين بن الأخوة (ت 729هـ/1329م) الأمر ذاته، ويناقش هذه القضايا بمستجداتها خلال هذه الفترة البينية لكن اللافت فيها هذا الحديث المهم، والمراقبة الشديدة على معلمي الأطفال، وما يجب أن يكونوا عليه من صفات شخصية وأخلاقية كيما يتمكنوا من أداء هذه الوظيفة المهمة، وهو بُعد أخلاقي وتربوي كانت له نتائجه المباشرة على جيل تلك الحقبة. يقول ابن الأخوة فيما يُشترط لمن يريد أن يكون مُعلّما: "يُشترط في المعلّم أن يكون من أهل الصلاح والعفّة والأمانة، حافظًا للكتاب العزيز، حسن الخط، والأولى أن يكون مزوَّجًا، ولا يُفسح لعازب أن يفتح مكتبًا لتعليم الأطفال".

 

يتوسع ابن الأخوة في شروطه، وينبه المحتسب المنوط بمراقبة هؤلاء المعلمين أن يكون اختيارهم للمعلمين على أسس أخلاقية باعتبارها وظيفتهم الأساسية مع الأسس التربوية الأخرى يقول: "وينبغي للمؤدّب أن يترفّق بالصغير وأن يُعلّمه السور القصار من القرآن بعد حذاقته بمعرفة الحروف"[12] ثم يناقش ابن الأخوة هذه الوظيفة وما يجب توافرها في صاحبها وواجبات المحتسب ودوره، وهي شروط قاسية ومهمة ولافتة، ويبدو الكتاب طفرة تاريخية وتربوية في هذا الجانب.

 

تبدو مسألة المراقبة الأخلاقية في التراث الإسلامي أشمل وأعمق من هذا التقرير؛ لتنوع الكتابات بين الفقهاء والمحدثين والتربويين في التراث الإسلامي وحتى زمننا الحاضر، وقد صدق مايكل كوك حين وصفها بالنظرية المكتملة الأركان التي افتقدت ولا تزال تفتقد إليها الحضارة الغربية، وهو نفسه قد تناولها في كافة مدارس الفكر الإسلامي على مدار حقبة زمنية طويلة، لكن يبقى السؤال الأهم هل نحن بحاجة إلى عودة الاحتساب أم إلغائه، هل نبقي على صور منه ونلغي الصور الأخرى، أم في عالم العولمة والتقدم التقني والسيبري الهائل لم تعد تلك المسألة بذات أهمية أو وجود أصلا!

المصدر : الجزيرة