شعار قسم ميدان

الأندلس تحفظ الحديث النبوي!

ميدان - علماء المسلمين

كان من عادة أحد علماء الحديث في الأندلس أن يأخذ طلبته إلى النزهة في حدائق ذات بهجة في مدينة بجانة قرب ألمرية شرق الأندلس تسرية للطلاب، وترويحا عن النفس، وكان هذا الأستاذ المعروف بابن إحدى عشرة الأندلسي إذا مشى في الطريق لم يُسلّم على أحد لأنه كان لا يرفع عينيه عن الأرض، قال أحد تلاميذه: وكنا نهابه لدينه وورعه ومعرفته، فخرجنا مرة، فحللنا في موضع لم نر أحسن منه، قد اجتمع فيه كل ما يُشتهي، فلما رأى ذلك بعض أصحابي ، استفزه الطرب وجمال المنظر حتى قام يمشي على رجل واحدة يدرج فرحاً فلما رأينا ذلك فزعنا خوفاً من شيخنا المحدث؛ إذ لم يكن مجلس أحد أوقر من مجلسه، فلما رأى ذلك رفع رأسه إلينا وقال: أين جاء مثل فعل صاحبكم هذا في الحديث الشريف؟ فسُري عنا وجعلنا نبحث ما سألنا عنه ساعة، ثم أجابنا عن الموضع من حديث رسول الله[1].

 

ساسة الأندلس والحديث النبوي

اشتُهرت الأندلس بحضارتها وعمرانها وثقافتها الرفيعة، وفي ظل هذه الحضارة تجلت عناية الأندلسيين بالحديث النبوي الشريف درسا وحفظا، كتابة وتدوينا، ولم يتوانوا في سماعه فكانت رحلتهم إلى المشرق في مصر والشام والحجاز والعراق أمرا لابد منه لمن أراد أن يكون عالما بحق في الأندلس، فكانت رحلة الحج والعلم التي امتدت مع أكثرهم لسنوات طوال سببًا وجيها لانتشار العلوم والمعارف في مدنهم وأقطارهم، ومنها علم الحديث النبوي الشريف.

 
كان عبد الرحمن الغافقي الأمير من الذين دخلوا الأندلس مع حملتي طارق بن زياد وموسى بن نصير واستقروا فيها. وهو من القادة الأكفاء الذين ساهموا في حملات الفتح في جنوب فرنسا، وقاد المسلمين بسلام إلى الأندلس بعد استشهاد السمح بن مالك في معركة طولوشة (تولوز).  لكن في الجانب الآخر من حياته كان الغافقي من التابعين، ومن رُواة الحديث النبوي الشريف، فقد ورد في ترجمته أنه روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولهذا كان محل احترام صلحاء المسلمين، فضلاً عن جنده، لعدالته في تقسيم الغنائم، وعدم رغبته في حطام الدنيا[2].
 

undefined

 
لقد اهتم الخلفاء والأمراء والوزراء بحفظ الحديث النبوي، وسماعه وإسماعه، فاشتهر عن الخليفة الأموي هشام بن عبد الرحمن الداخل أنه كان يؤثر مجالس العلم والأدب ولاسيما الحديث والفقه على غيرها[3]وبرع في عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر (300- 350هـ/913- 961م) الفقيه والمحدث العلامة عبد الملك بن حبيب، الذي غدا أثير الأمير عبد الرحمن ونديمه، لا يقدم عليه أحداً، ولا يعدل بمشورته أحد. وكان عبد الملك فوق براعته في الفقه والحديث، متقدماً في علوم اللغة، والعلوم القديمة، بارعاً في الأدب، وكتب كتباً في إعراب القرآن وشرح الحديث وفي الأنساب وغيرها[4].

وقد اهتم الخليفة المستنصر الأموي الحكم بن عبد الرحمن الناصر بتعليم ابنه وولي عهده الأمير هشام المؤيد الحديث النبوي الشريف، وندب لذلك حافظ عصره في قرطبة الإمام المحدث يحيى بن عبد الله بن يحيى وهشام يومئذ في العاشرة من عمره[5]وسار على دربهم بعض أمراء المرابطين والموحدين، واستعانوا بعلماء الحديث وسمعوا عليهم، فأبو بكر بن خلف الأنصاري، الذي كان من أهل قرطبة، اشتهر بغزارة حفظ الحديث النبوي الشريف، وعنى في الحديث بمسائل التعليل والبحث عن الأسانيد والرجال، والتحق وقتا بخدمة الخليفة الموحدي في مراكش، ونال جاهاً وثراءً، ثم ولى قضاء فاس، فلبث فيه حتى توفي في شوال سنة 590هـ/1194م[6].

 

حفّاظ الأندلس!

يعد الإمام العلامة بَقي بن مخلد رائد علم الحديث النبوي في الأندلس، فقد رحل إلى المغرب والمشرق، وسمع على كبار الحفاظ في عصره، والتقى بالإمام أحمد بن حنبل، وقد أحصى ابن الفرضي عدد شيوخ وأساتذة العلامة بقي بن مَخْلد فوجدهم 284 أستاذًا[7]ولم تكن الأندلس قبله تعرف كتب "غريب الحديث" و"المؤتلف والمختلف"، فحين رجع بقي من رحلته العلمية، وبدأ في تدريس هذه المصنفات، عارضه جماعة من علماء الأندلس، ووشوا به عند الخليفة الأموي حينها محمد بن عبد الرحمن حفيد عبد الرحمن الداخل.

يحكي ابن الفرضي قصة وشاية بعض العلماء ببقي بن مخلد عند الخليفة الأموي، والمناظرة التي وقعت بينه وبينهم، وانتصاره عليهم فيقول: "بقيِّ بن مخلد ملأ الأندلس حديثاً ورِواية، وأنكر عليه أصحابه الأندلسيون: عبد الله بن خالد، ومحمد بن الحارث، وأبو زيد ما أدخله من: كُتب الاختلاف وغَرائب الحَديث، وأغْرُوا به السلطان وأخافوه به. ثمَّ إن الله بمَنَّه وفَضله أظهره عَليهم، وعصَمه مِنهم. فنشر حديثه، وقرأ للنَّاس رِوايته. فمن يومئذ انتشر الحَديث بالأندلس. ثمّ تلاه ابن وضَّاح فصَارت الأندلس دار حديث وإسناد؛ وإنما كان الغالبُ عليها قبل ذلك حِفظ رأي مالك وأصحابه"[8].

 

  

أما أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي فكان واحدا من أشهر وأعظم علماء الأندلس فقها وديانة، وقد وصفه علماء التراجم بأنه "إمام عصره، وواحد دهره"، وقد انتقل ابن عبد البر في أصقاع الأندلس شرقا وغربا ينهل من علمائها، حتى أصبح أحد أكبر علمائها في الحديث والفقه، وقد عُين في عصر دول الطوائف قاضيا لمدينة أشبونة (لشبونة عاصمة البرتغال الآن). ترك ابن عبد البر عددا مهما من الدراسات في علم الحديث ورجاله مثل موسوعته الأهم "الاستيعاب في أسماء الأصحاب"، وهو من أهم المصادر في معرفة أسماء الصحابة والتابعين وسيرهم، وله كتاب "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد"، رتّبه على اسماء شيوخ الإمام مالك على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله، وقد جعله ابن عبد البر في سبعين جزءًا[9]وفي هذا الكتاب يقول العلامة ابن حزم ومعاصر ابن عبد البر: "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه"[10].

 

محدثو المدن!

ونتيجة لجهود الحافظ بقي بن مخلَد ومن بعده ابن وضاح وابن عبد البر وغيرهم، فقد انتشر الاهتمام بعلم الحديث في كافة الأقطار والمدن الأندلسية، وإن نظرة في مصادر التراجم الأندلسية مثل "الصلة" لابن بشكوال، و"التكملة" لابن الأبار، و"تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي، و"المقتبس" لابن حيان وغيرها ، تكشف لك أن الأندلس قد أصبحت منذ القرن الثاني والثالث الهجري قلعة من قلاع علم الحديث النبوي الشريف.

 
فمن أهل قرطبة محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن بخيح المعافري المعروف بالأعشى،  رحل من الأندلس إلى بلاد المشرق سنة 179هـ/795م، فسمع من سفيان، ووكيع، ويحيى القطان، وغيرهم من أهل المدينة المنورة والعراق، وكان الغالب عليه الحديث والأثر[11]ومن أهل قرطبة أيضا سليمان بن خلف التجيبي الباجي المالكي الحافظ، تعلم على يد علماء بلده، ورحل إلى المشرق أيضًا سنة 426هـ/ 1035م فأقام بمكة ثلاثة أعوام. ثم رحل إلى بغداد فأقام فيها ثلاثة أعوام بتدريس الفقه، ويكتب الحديث ولقي فيها عددا من كبار فقهاء العراق[12].

 
ومن أهل إشبيلية أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن شريعة اللخمي، كان من أهل العلم، متقدما في الفهم، عارفا بالحديث ووجوهه، إماما مشهورا بذلك، وقد سمع عنه وحدث حافظ الأندلس الأشهر أبو عمر بن عبد البر وقال: كان يحفظ: غريبي الحديث لأبي عبيد، وابن قتيبة حفظا حسنا[13]ومن أهل طُليطلة أحمد بن يحيى بن حارث الأموي كان ميالا إلى دراسة وتدريس الحديث، والزهد، والرقائق[14].

   

  

ومن أهل أوريولة جنوب شرقي الأندلس زياد بن محمد بن أحمد بن سليمان التجيبي، سمع من مشاهير علماء ومحدثي الأندلس مثل القاضي أبي علي الصدفي وأبي محمد عبد الرحمن بن عبد العزيز الخطيب، وأبي عمران بن أبي تليد، ولم يكتف بهم، بل رحل إلى المشرق، ولقي منهم عالما كثيرا[15].

 
ومن أهل منطقة مكادة بالقرب من طليطلة سعيد بن عثمان، كان معتنيا بالحديث وسماعه وتقييده. وحدّث، وقد رأى المؤرخ ابن بشكوال كتبه وتقييداته والسماع عليه سنة 421هـ/ 1030م بطلمنكة في جامعها، وطلمنكة هذه على بعد 50 كم من مدريد العاصمة[16].

 
ومن أهل مالقة جنوب الأندلس محمد بن إبراهيم بن خلف بن أحمد الأنصاري ويعرف بابن الفخار. كان إماما في الحديث، مقدما فيه، وفي المعرفة بسرد المتون والأسانيد، وتمييز الرجال. كان يحفظ " صحيح مسلم "، وكان شديد الورع، جليل القدر، شديد التمسك بالعدل، مكرما لطلاب العلم. واستدعى في أواخر حياته من الخليفة يعقوب المنصور الموحدي إلى مراكش في المغرب ليسمع عليه بها، فقصد إليها، ولكنه توفي بها بعد قليل في شعبان سنة 590هـ/1194م[17].

 
في تقريرنا القادم سنقف مع ظاهرة العلماء التجريبيين الأندلسيين الذين جمعوا بين العلوم العقلية وحفظ الحديث النبوي الشريف، وقدرتهم على التصنيف في كلا العلمين، كما سنقف مع اثنين من كبار علماء الحديث في العصر المرابطي، فضلا عن ظاهرة استقرار بعض علماء الحديث النبوي في المشرق وإسهاماتهم في هذا المضمار.

المصدر : الجزيرة