شعار قسم ميدان

الفرنسيون بعيون الجبرتيّ!

midan - الجبرتي

"أول سِنين الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف أحوال وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون".

 الجبرتي؛ في وصفه سنة دخول الحملة الفرنسية مصر 1798م.

 

عبد الرحمن بن حسن الجبرتي (1754- 1825م) مؤرخ مصر الأشهر في عصرها العثماني، ومدوّن وقائعها وسير رجالها. وُلد في القاهرة، وتعلم في الأزهر، وجعله "نابليون" حين احتلاله مصر من كتبة الديوان. وُلي إفتاء الحنفية في عهد محمد علي، وقُتل له ولد فبكاه كثيرًا حتى ذهب بصره، ولم يطل عماه؛ فقد عاجلته وفاته مخنوقا في عصر محمد علي باشا، وله عدد من المؤلفات التاريخية المهمة مثل "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، و"مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"[1].

 

مصر في "الأسْر"
undefined

يبدو الجبرتي من آخر المؤرخين المصريين الذين ترى في كتاباتهم صورة المقريزي التاريخية، فكل من الرجلين يتمثّل الروح المصرية بصورة لافتة، في اهتمامهما بالطبوغرافية، والثقافة المحلية، والاجتماع، والتقاليد الشعبية، وفلسفة التاريخ العملية المحرّكة للأحداث.. إن الحالة المصرية تتجلى عند الجبرتي كأفضل ما يكون، على أن الاختلاف بين الرجلين يكمن في أن المقريزي كان يعيش في ذروة القوة المملوكية، وهيمنة مصر على محيطها الجغرافي والإسلامي؛ في حين أن الجبرتي كان يعيش فترة اضمحلال بادية في كل من الدولة العثمانية التي كانت مصر إحدى أقطارها، فضلاً عن الاضمحلال المحلي العسكري والحضاري، والذي تجلى كأوضح ما يكون على عتبة المواجهة مع الفرنسي /الآخر.

ورغم ذلك الاضمحلال الذي كان يُعاينه الجبرتي؛ فإن الرجل كان على وعي دقيق بأحوال عصره، فقد كان من النخبة المدركة لحجم الخطر القادم مع الحملة الفرنسية (1798 – 1801م) التي أبهرت العيون بتقدمها العسكري والعلمي، وبخطورتها على مصر وشعبها وتاريخها في ذات الآن!

 

كانت مصر على مر العصور -وفق المعطيات التاريخية- مطمعًا للكثيرين بحكم موقعها الجغرافي، وقوتها الثقافية والاقتصادية والسياسية اللافتة، وقُبيل دخول الفرنسيين مصر كتب الرحالة الألماني "جون أنتيس" في الفترة ما بين (1770 – 1782م) قائلاً: "إنّ نظرة سريعة على الخريطة يتضح لنا من أول وهلة أن الموقع الذي تشغله مدينة القاهرة يؤهلها لأن تكون مركز التجارة بين أكثر شعوب الدنيا كثافة بالسكان.

فطريق البحر الأحمر يؤهلها أن تكون أقصر الطرق للاتصال بالهند وبلاد العرب والحبشة، وطريق البحر المتوسط يؤهلها أن تكون بالمثل بالنسبة لجنوب أوروبا وبعض أجزاء إيطاليا، وعن طريق جبل طارق تتصل بما تبقى من العالم؛ بل حتى بأمريكا، وعن طريق البحر الأسود تتصل ببقية الممتلكات التركية وبالروسيا، ويمكن أن تمتد من هناك عن طريق الملاحة في الأنهار التي تصب في البحر الأسود؛ لتصل إلى قلب الروسيا وألمانيا وبولندا"[2]هكذا رآها الغربيون قُبيل لحظات من الاندفاع الاستعماري لاقتسام العالم، ولم تكن هذه الحقيقة الناصعة لتغيب عن "نابليون"، القائد العسكري الممجد الذي أراد أن يقتنص لحظة تاريخية فارقة من تاريخ الثورة الفرنسية التي أتت به على رأس السلطة.

 

رأى الجبرتي في دخول الفرنسيين مصر "مصيبة". تتجلى هذه الحقيقة في كل سطر من أسطر كتاباته، فأول سنوات نزولهم مصر (1798م) كتب بأنها "أول سِني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"[3].
 

وفي رصده الأحداث اليومية، لا ينسى آثارها وانعكاساتها على المجتمع المصري؛ حضَرَه وريفه، وحالة الفزع والرعب التي استولت على قلوب مختلف فئات الشعب المصري من جراء الفوضى والاضطراب التي أصبح يعيشها رجال الإدارة والبكوات المماليك، ساعة دخول الفرنسيين، وهروبهم من مواجهة قوة الحملة، وترك فئات المجتمع الأخرى تواجه مصيرها[4].

سجّل الجبرتي ما تعرّض له الشعب المصري من المصادرات المختلفة والمتكررة، ورصد أحداث ثورة القاهرة الأولى ضد الحكم الفرنسي، وضراوة معاركها.
سجّل الجبرتي ما تعرّض له الشعب المصري من المصادرات المختلفة والمتكررة، ورصد أحداث ثورة القاهرة الأولى ضد الحكم الفرنسي، وضراوة معاركها.
 

لقد سجّل الجبرتي ما تعرّض له الشعب المصري من المصادرات المختلفة والمتكررة، ورصد أحداث ثورة القاهرة الأولى ضد الحكم الفرنسي، وضراوة معاركها، وضرب الفرنسيين لخط الجامع الأزهر بالقنابل بعنف، ودخولهم الجامع الأزهر مركز الثورة "وهم راكبون خيولهم، وَولجوه من الباب الكبير، وخرجوا من الباب الثاني حيث موقف الحمير، وداس فيه المشاة بالنعالات، وهم يحملون السلاح والبندقيات، وتفرّقوا في صحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والبحرات، وكسروا القناديل والسهّارات، وهشّموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشّتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالاتهم داسوها"[5].

 

لقد رأى الجبرتي في الدخول الفرنسي إلى مصر فاجعة اقتصادية حلّت بالبلاد والأهلين، فإن "الطلب والنهب والهدم مستمر ومتزايد وأبرزوا أوامر -أيضا- بتقرير مليون على الصنائع والحرف، يقومون بأداء دفعة في كل سنة قدرها 186 ألف ريال فرانسة، ويكون الدفع على ثلاث مرات كل أربعة أشهر يدفع من المقرر الثلث؛ وهو 62 ألف فرانسة، فدهى الناس وتحيرت أفكارهم، واختلطت أذهانهم وزادت وساوسهم"[6].

 

وحتى في لحظات جلاء الفرنسيين عن مصر، وحين أرسل العثمانيون من قبلهم مبعوثاً ظن الناس في مصر أنه الباشا الجديد الذي ما إن دخل القاهرة حتى "ازدحموا على مشاهدتهم له، والفرجة عليه، وارتفعت أصواتهم، وعلا ضجيجهم، وركبوا على مصاطب الدكاكين والسقائف، وانطلقت النساء والزغاريت من الطيقان، واختلفت آراؤهم في ذلك القادم"[7].

وحين تبيّن لهم أنه المسئول العثماني الجديد قادم للمصادرات المالية والجمارك والضرائب، وقد فرض عليهم جمع أموال الجلاء التي ستُسلم للفرنسيين بموجب الاتفاقية المبرمة بين الجانبين، وبرغم الصعوبة والضيق الشديد، والغلاء الذي ترتب على جمع هذه الأموال من التجار وعموم المصريين؛ فإن شيخ التجار حينها السيد أحمد المحروقي كان يجتهد "في توزيع ذلك وجمعه في أيام قليلة، فكان كل من توجّه عليه مقدار من ذلك اجتهد في تحصيله وأخرجه عن طيب قلب، وانشراح خاطر، وبادرَ بالدفع مِن غير تأخير؛ لعلمه أن ذلك لترحيل الفرنساوية، ويقول: سَنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة. كلُّ ذلك بمشاهدة الفرنسيس ومسمعهم وهم يحقدون ذلك عليهم"[8].

 

إن مصر -طوال سنوات الحملة الفرنسية- كانت في نظر الجبرتي "في الأسْر"، فذلك اللفظ هو الذي عبّر به عن وضع مصر وشعبها، ولم يتغيّر هذا الموقف بعد تجربة الحكم الفرنسي، بالعكس كانت الفرحة بالجلاء والحمد لله والمنة بزوال حكم "الفرنسيس"[9].

 وإذا كانت مصر -في ظل الحملة الفرنسية- في "الأسْر"؛ فإنها كانت تعيش لحظات من الخراب والتنكيل، لقد رصد لنا الجبرتي في "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس" الذي كتبه أثناء الحملة الفرنسية، ونقّحه وأهداه إلى الوالي العثماني الجديد على مصر عقب جلائهم، رصدَ مظاهر هذا الخراب في أحياء القاهرة التاريخية العريقة والبديعة، فذكر المباني التي هدموها أثناء ثورة القاهرة على هؤلاء المحتلين، في كل من الأزبكية وبولاق والقاهرة وبركة الفيل التي ذكر عنها أن "ما حولها من الدُّور والمتنزّهات والبساتين، صارت كلها تلالا وخرائب وكيمان أتربة، وقد كانت هذه البِرْكة مِن أجمل مُتنزِّهات مصر قديمًا وحديثًا"[10]

 

الوعي بقصور الذات
حين سقط المماليك، وسحقوا تحت أقدام القنابل والبنادق الفرنسية، وتكتيكاتهم العسكرية الجديدة، دخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر، وهم في أسوأ حال، فمكثوا به يأكلون مِن صدقات الفقراء المجاورين به، ويتكففون المارين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
حين سقط المماليك، وسحقوا تحت أقدام القنابل والبنادق الفرنسية، وتكتيكاتهم العسكرية الجديدة، دخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر، وهم في أسوأ حال، فمكثوا به يأكلون مِن صدقات الفقراء المجاورين به، ويتكففون المارين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.

أدرك الجبرتي -بحسِّه التاريخي والثقافي الواعي- الأسبابَ الحقيقية التي أدت إلى هذا التخلف الحضاري أمام الغزوة الفرنسية على مصر، كذلك كان على وعي بالدور الريادي لمصر قبل ذلك التاريخ، فلم تكن مصر "منذ وضع أساسها، وأضاء في ديجور الأقطار نبراسها، محمية عن طرق أيدي المفسدين، مصانة عن أن يطرق حماها عصابة المعتدين. لا يطمع خارجي في الحلول بساحتها، ولا تحدثه نفسه بالتغلب على رياستها؛ رهبة من سطوة حماتها، وأسود غيضانها، الذين كانوا من قديم الزمان كالشجا في حلق العدو… وذلك وقت أن كان الناس ناسا، والزمان زمانا، وجند أهل هذا القُطر متيقّظين لسداد الثغور بأبطال الرجال، وعُقبان الفرسان". لقد تغيّرت الحال، فأضحى مماليك العثمانيين غير مماليك الأمس؛ فقد "ركنوا إلى الدهر، ولم يأمنوا غدره، فخرّبوا الثغور، وأشادوا القصور، واستبدلوا بأبطال الرجال ربّات الخدور"
[11]!

 

وأيقن الجبرتي أن فساد المماليك في عصره، فساد أخلاقي وإدراكي بواقع القوى والأحوال السياسية والعسكرية في عصرهم، لقد أدرك هذه الحقيقة التي أدركها الإنجليز حين قدموا بأسطول لهم قُبيل الحملة الفرنسية بأيام لحماية مصر من السقوط في يد الفرنسيين؛ لا حبًا في المصريين، وإنما كراهية في الفرنسيين؛ وسعيًا لتحقيق توازن القوى على الأرض، لكن حاكم الإسكندرية (وقتها محمد كُريِّم) رفض العرض الإنجليزي بالمساعدة، رغم عاقبة ذلك الوخيمة عليه شخصيًا؛ فقد كان من أوائل من أعدمهم "نابليون" حين وطئ الإسكندرية، كل ذلك حدث والمماليك في مصر (وهم القوة العسكرية المنظّمة والمخوّلة بحماية المحروسة) غير آبهين، يقول الجبرتي "وردَ في ثالث يوم؛ بعد ورود المكاتيب الأولى، مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة، فاطمأنّ الناسُ، وسكن القيل والقال، وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك، ولم يكترثوا به، اعتمادًا على قوّتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم"[12]!

 

لذا؛ حين سقط المماليك، وسحقوا تحت أقدام القنابل والبنادق الفرنسية، وتكتيكاتهم العسكرية الجديدة، وحين وقعوا في الأسر، وبقوا فيه مُدّة تشفّع فيهم رجال الديوان من المصريين فأخرجوهم "وأطلقوهم، فدخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر، وهم في أسوأ حال، وعليهم الثياب الزرق المقطّعة، فمكثوا به يأكلون مِن صدقات الفقراء المجاورين به، ويتكففون المارين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين"[13]!

 

كما أدرك الجبرتي لحظة ضعف العثمانيين في عصره، ولم يكن يتوقع منهم إلا الضعف والإبالة نتيجة أسباب عدة داخلية وخارجية كانت تمر بها الدولة العثمانية. لقد ذكر في وفيات سنة 1168هـ/1754م؛ أي قبل الحملة الفرنسية بنصف قرن أن "آخر سلاطين بني عثمان في حسن السيرة والشهامة والحرمة، واستقامة الأحوال والمآثر الحسنة" قد انتقل إلى جوار ربّه؛ لذا عندما أرسل المصريون سفيرًا من قبلهم إلى إسطنبول يطلبُ النجدة لمواجهة الغزو الفرنسي سخر الجبرتي منهم؛ لأنهم أرسلوه ليأتي "بالترياق من العراق"!

 

إنّ الجبرتي كان يدرك خطورة الآخر بمشروعه وثقافته، كما وضع يده على أسباب الضعف الداخلي والقصور الذاتي آنئذ، لكنه مع ذلك، كان مدينًا لثقافته ودينه وحضارته، واثقا بها ثقة مُطلقة. لقد فرح أشد الفرح حين انزاحت الغمة الفرنسية عن مصر، على أن كتاباته في تلك الفترة تبقى بحاجة ماسّة إلى استكشاف روحه الوقّادة إلى اليقظة وعودة الأمجاد، وإلى تعليلاته البديعة لمجريات الأحداث وأسباب وقوعها.

المصدر : الجزيرة