شعار قسم ميدان

كيف كانت مدارس العثمانيين؟

midan - Ottoman
يقول المؤرخ نجم الدين الغزّي متحدثا عن السلطان سليمان القانوني ومسجده والمدارس السليمانية "عمَّرَ السُليمانية بالقُسطنطينية، وهي أعظم مساجدها وأنورها، حُكي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بستانه في المنام، فأشار إليه بتعمير مسجد جامع به، وأراه مكانًا، فلما استيقظ من منامه اقتطع جانبًا من سراياه منه البستان المذكور، وعمّره مسجدًا عظيمًا شيّد بناءه، ووسّع فضاءه، قيل ووضع محرابه في الموضع الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه، وعمَّر إلى جانبها المدارس العظيمة أعظمها دار الحديث السُليمانية، وكان مصرف ذلك من غنائم رودس".

 

كانت المدارس العثمانية بمثابة المنبع الذي يتخرج فيه الموظفون العثمانيون، بداية من القضاة نهاية إلى المدرسين وكتّاب الدواوين والدفاتر وغيرهم، ويرجع تأسيس تلك المدارس إلى قيام الدولة العثمانية ذاتها في بدايات القرن الثامن الهجري، وجرت العادة أن تُبنى هذه المدارس بجوار المساجد أو ضمن بنائها.

 

وقد بلغ نظام (المدارس/الكليات) العثمانية درجة كبيرة من الكمال والإتقان بإنشاء كلية الفاتح، واتخذت الشكل النهائي الذي استقر لأربعة قرون تالية في عصر السلطان سليمان القانوني.

 

مدرستا الفاتح والسليمانية

undefined

لقد سُميت مدرسة الفاتح بـ"الصحون الثمانية" أو "المدارس الثمانية"؛ نسبة إلى صحونها الواقعة في شمال مسجد الفاتح وجنوبه، أربعة صحون في الشمال وأربعة في الجنوب، هذه المدارس هي جامعة بمعناها المعاصر، كان الطالب يُسمى بها "الدانشمند" أي طالب العلم، ومساعد الأستاذ "المعيد" والأستاذ "المدرس"، ثم أُنشئت ثماني مدارس أخرى لإعداد الطلبة للصحون الثمانية سُميت "موصلة الصحن" أو "التتمة"[1].

 

وقد بنى بايزيد الثاني ابن محمد الفاتح (886-918هـ/1481-1512م) عدة مدارس، وخُصّت مبدئيًّا بدارسة الفقه، ونهج السلطان سُليمان القانوني (926-974هـ/1520-1566م) النهج نفسه، فبنى جامع السليمانية، وألحقَ به مجموعة من المدارس، وفي مجموعة مدارس محمد الفاتح وبايزيد الثاني والسُليمانية كان العلماء الأتراك الرئيسون، وفيه يتخرجون "علماء مدرسين" أو "علماء قضاة ومفتين"، وأحياناً كُتّابًا متفقهين في دوائر الدولة.

 

وفي تلك المدارس خُصّصت قاعات لتدريس الطلبة، وأخرى لإقامتهم، وألحقت بها غرف ثالثة للقائمين عليها والخدم، وفي مدرسة السليمانية وجدنا دراسة الطب كفرع من أفرع هذه (المدرسة/الكلية)، فضلًا عن فرع آخر خُصِّص لدراسة الحديث النبوي الشريف[2].

 

نظّم السلطان سليمان التعليم في تلك المدارس في اثنتي عشرة درجة، ولكل درجة اسمها الخاص، وعلى كل طالب أن يحصل على "إجازة" قبل أن ينتقل إلى الدرجة التالية، وعندما يصل إلى الدرجة السادسة "صحن الثمان" فإنه يُسمح له أن يعمل "مساعد مدرس" في الدرجات الأولى، ويعيد مع الطلاب ما كانوا قد أخذوه من أساتذتهم، ويُسمى "معيدًا". وفي هذه الحالة يتوقف عن كونه "صوفته" أي متشوق للعلم، وإذا أراد أن يصل لمنزلة "المدرس" عليه أن يُتابع تعلمه في الدرجات الست الأعلى المتبقية، والحصول على "إجازاتها"، وإذا تمكن من الحصول على هذه التراتبية الأكاديمية، كان عليه أن يبدأ التدريس في المرحلة الدنيا، ثم يرتقي تدريجيًّا نحو العليا، عبر الدرجات التسع الأولى من أصل الاثنتي عشرة درجة، ولا يصبح مرشحًا لمنصب "الملاّ أو "القاضي الكبير" "المولولية" إلا بعد الوصول إلى الدرجة التاسعة من التدريس على الأقل[3].

 

نظام الدراسة والتخرج

undefined

لقد بدأ بناء المدارس السليمانية سنة (956هـ/1549م) واكتمل إنشاؤها سنة (963هـ/1556م) مشتملة على تدريس الدين والفن، وتُسمى أيضًا بالصحون الثمان، وقد تدرجت الدراسة في هذا النظام الجديد وفق ما يلي:

 

أولًا: ابتداء الخارج وهي تعادل مرحلتي الابتدائية والمتوسطة -الإعدادي- الآن، ثم حركة الخارج، ثم ابتداء الداخل، ثم حركة الداخل، هذه الدرجات الأربعة تتغير، والمتخرج فيها كان ينتقل إلى "موصلة السليمانية" إن أراد التبحر في العلوم الشرعية، والمرحلة الخامسة كانت تُسمى موصلة الصحن، وهي التتمة في مدارس الفاتح وتعدل الإعدادية، ثم ينتقل منها إلى مرحلة الصحون الثمان وهي تعدل الجامعة، ثم المرحلة السابعة وكانت تُسمى ابتداء الستيني، وسُميت بذلك لأن أجر المدرس اليومي في هذه المرحلة كان يُعادل ستين أقجة عثمانية يوميًّا، ثم مرحلة حركة الستيني، ثم المرحلة التاسعة موصلة السليمانية أو كانت تُسمى التتمة، وكان المتخرج فيها مؤهلًا للتعيين ملازمًا؛ إعدادًا له لمنصب القاضي، والمرحلة التي تليها أو العاشرة كانت تُسمى الخامسة السليمانية، ثم المدارس السليمانية -وهي أربع مدارس كالجامعة-، ثم المرحلة الثانية عشرة كانت تُسمى دار الحديث وهي تشبه مرحلة الدراسات العليا في علوم الشريعة اليوم[4].

 

لقد كان خرّيجو المدارس يبدأون حياتهم المهنية بواحدة من ثلاث مهن. الأولى، أن يكون مستشارًا لمفتٍ ما. الثانية، أن يكون مُدرّسًا في مدرسة. والثالثة، أن يكون قاضيًا، أولئك الذين يدخلون في إحدى هذه المهن الثلاث كانوا يتمتعون بتقدير عالٍ جدًّا في معظم الدول الإسلامية. ولكن كان هناك بُعد خاص للنظام العثماني، فبالنسبة إلى النظام كل هؤلاء القضاة كانوا متساوين أفقيًّا وعموديًّا ولكي يتم تعيينهم كانوا بحاجة إما إلى الخضوع لتدريب معيّن أو لاجتياز امتحان خاص، ولم يكن مهمًّا كم عدد السنوات التي أمضاها القاضي المستقبلي في هذه المدرسة أو تلك، لكن المهم أن يكون قد اجتاز الامتحانات المرتبطة بالتعليم المدرسي، والأهم من ذلك أن يكون قد تخرّج في إحدى المدارس المعتمَدة الكبرى، مثل مدرسة الفاتح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أو المدرسة السليمانية في القرن السادس عشر.

 

إن أولئك الطلاب -الذين حازوا على استحسان مدرّسيهم وتخرّجوا في هذه المدارس بمستوًى يؤهلهم ليكونوا مساعدي مُدرّس- كانوا يخضعون لامتحان كتابي وشفهي بإشراف لجنة مؤلفة من أشخاص متنوعين، وإذا نجحوا في اجتياز هذا الامتحان، فكانوا يُعتبرون جديرين بأن يحملوا شهادة إسطنبول العالية، وأي شخص كان لا يحمل هذه (الشهادة/الإجازة) لم يكن لديه أمل في التمتع بالتقدير نفسه الذي كان يتمتع به حاملوها، حتى لو درس أربعين عامًا في إحدى المدارس، فضلًا عن مسألة أنه لن يكون قادرًا على أن يكون مدرّسًا، أو مستشارًا لمفتٍ، أو قاضيًا[5].

 

وصول المتخرجين إلى أرقى المناصب
undefined

ولدينا عشرات الأسماء ممن وصلوا إلى هذه المنزلة العليا، ممن تخرجوا من مجموعة (المدارس/الكليات) السليمانية في إسطنبول، مثل القاضي ابن الحنائي حسن بن علي القسطنطيني (953- 1012هـ/1546- 1603م) الذي تتلمذ على شيخ الإسلام، ورأس المؤسسة القضائية العثمانية أبو السعود العمادي أفندي، "ثمَّ درس إِلى أَن وصل إِلى المدرسَة السليمانية، وَوليَ منها قضاء حلب في جُمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وتسعمِئة، ثمَّ وليَ قضاء القَاهرة في جُمَادى الآخرَة سنة ثلاث وألف، ثمَّ وليَ قضَاء أدرنة في ذي الحجَّة سنة أَربع بعد الألف، ثمَّ وليَ مصر ثانيًّا في جمادى الآخرة سنة سِتّ وألف، ثمَّ قضاء بروسة في شَوَّال سنة سبع وألف، ثم عُزل وعين لَهُ قضاء أيدنجك على وجه التقاعد، ثم أُعطيَ قضاء كليبولي، ونُقل مِنها إِلى قضاء أيُّوب، وفِي صفر سنة إِحدى عشرة وألف أُعطيَ قضاء اسكى زغرة على طريق التأبيد فاستولت عليه بها أمراض بلغمية منعته من الحركة إلا نادرًا، فطلب قضاء رشيد من نواحي مصر فُأعطيها بقيد الحياة وتوجّه إليها وتوفي بها"[6].

 

 هذه الوظائف القضائية المتنوعة في عدد من أقطار الدولة العثمانية لأحد كبار المتخرجين في المدارس السليمانية في إسطنبول كان تقليدًا متّبعًا وراسخًا في النظام القضائي العثماني حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

 

ويبدو أن هذه البيروقراطية العثمانية التي حرصت على إحكام سيطرتها على النظام التعليمي والقضائي العثماني بصورة مركزية لافتة قد لاقت معارضة من بعض الفقهاء المحليين في الأقطار العربية، خاصة تلك البلدان التي كانت خاضعة للسلطنة المملوكية في الشام ومصر، فقد ظهر مفتون مستقلون كانوا يحرصون على الفتيا والقضاء بين الناس في بعض الأحيان الأمر الذي كان يعني تدخل سلطات الدولة لمنع هؤلاء الفقهاء من الإفتاء.
 

 ويروي المحبي أن علاء الدين الحصكفي كان هو المفتي المعيَّن رسميًّا لدمشق في القرن السابع عشر، ورغم ذلك فقد كان عبد الحليم بن برهان الدين بن محمد البهنسي (ت 1679م) يمارس الإفتاء دون الحصول على تقليد رسمي؛ فتدخل قاضي قضاة المدينة -بأثر من ذلك- ونفَّذ مرسومًا سلطانيًّا مُنِع البهنسي بمقتضاه من الإفتاء[7]..
 

ومن خلال ما سبق، نجد أن النظام المدرسي العثماني كان الغرض منه تخريج مدرسي وموظفي وقضاة الدولة العثمانية حصرًا، والذين رأينا من تراجمهم الثقة الكبرى التي أولتها الدولة لهم، وسهولة انتقالهم من قُطر إلى آخر داخل الدولة العثمانية، سواء كان في الأناضول أم الرومللي أم الشام أم مصر، ويبدو أن هذا النظام كان الغرض منه فرض الهيمنة السياسية والثقافية للدولة العثمانية في أقطارها كافة العربية منها والأوروبية، وإن لاقى بعض الامتعاض والمناوئة من بعض فقهاء تلك الأقطار ممن رأوا في نظمهم التعليمية ومدارسهم منافسًا قويًّا لمدارس العثمانيين كما في الشام ومصر.
 

                                                                                        

[1] أحمد آق كوندوز وسعيد آزتورك: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية – إسطنبول، 2008م،  ص628.

[2] ليلى الصباغ: معالم الحياة الفكرية في الولايات العربية في العصر العثماني، ضمن الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، إشراف أكمل الدين إحسان أوغلو، ترجمة صالح سعداوي، منشورات مركز إرسيكا – اسطنبول، 1999م، 2/312.

[3] السابق 2/312.

[4] الدولة العثمانية المجهولة ص629.

[5] إيلبير أورتايلي: إعادة استكشاف العثمانيين، ترجمة بسّام شيحا، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى – بيروت، 2012م، ص150، 151.

[6] محمد أمين المحبي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، دار صادر – بيروت، 2/28.

[7] المحبي، خلاصة الأثر، 2/310. وانظر: جاي بوراك: النشأة الثانية للفقه الإسلامي المذهب الحنفي في فجر الإمبراطورية العثمانية، ترجمة أحمد محمود وأسامة شفيع، مركز نماء للبحوث والدراسات، 2017م.

المصدر : الجزيرة