شعار قسم ميدان

بين جنبات قرطبة

ميدان قرطبة

"قرطبة قاعدة الأندلس، ودار المُلك التي يُجبى لها ثمرات كل جهة، وخيرات كلّ ناحية، واسطة بين الكُوَر، موفية على النهر، زاهرة مشرقة، أحدقت بها المنى فحسُن مرآها، وطاب جناها".

(الرازي مؤرخ الأندلس في وصفه لمدينة قرطبة)

حكم الرومان شبه جزيرة الأندلس منذ عصور سحيقة، وكانت كل من قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة من أقدم المدن الرومانية، وظلت الجزيرة خاضعة لحكم القياصرة الرومان حتى أغارت عليها قبائل الوندال في القرن الخامس الميلادي، ومن ثم أطلق على هذه البلاد "فاندلوسيا" أي بلاد الوندال.
 

لكن لم تشأ القبائل القوطية أن تترك الوندال ينعمون بهذه البلاد الغنية بمواردها حتى أغاروا عليها، وطردوا الوندال إلى أفريقيا، وكوّنوا لهم دولة قوية في أسبانيا، عمرت فيما يذكر بعض المؤرخين نحوا من أربعمئة سنة إلى أن جاء المسلمون وقضوا على الحكم القوطي في أسبانيا[1].
 

من روائع قرطبة
تمثال عبد الرحمن الداخل الأموي. (مواقع التواصل الإجتماعي)
تمثال عبد الرحمن الداخل الأموي. (مواقع التواصل الإجتماعي)


ومنذ دخول عبد الرحمن الداخل الأموي إلى الأندلس هربًا من بطش العباسيين في المشرق سنة 138هـ، بدأت قرطبة في البروز لتشارك عواصم العالم في السياسة والثقافة والعمارة وجميع مظاهر الحياة الحضارية، وصارت مستقر الخلافة، وموطن الوزارة، وكعبة الشعراء والأدباء، وموئل أهل العلم، ومقصد الطلاب، ومورد الثقافة، الأمر الذي جعل مؤرخ الأندلس -ذا التاريخ المفقود- أحمد بن الرازي يقول عنها: "قرطبة قاعدة الأندلس، ودار المُلك التي يُجبى لها ثمرات كل جهة، وخيرات كلّ ناحية، واسطة بين الكُوَر، موفية على النهر، زاهرة مشرقة، أحدقت بها المنى فحسُن مرآها، وطاب جناها"[2].
 

لقد بلغت قرطبة مداها مع استقرار الحكم الأموي بها، الأمر الذي أجمع المؤرخون على وصفه، فذكر الحجازي أن "قرطبة في الدولة المروانية كانت قبّة الإسلام، ومجتمع علماء الأنام، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدّيّة واليمانيّة، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء؛ إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، ولم تزل تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحابَ الكتائب… وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد"[3].

حرص ولاة قرطبة -منذ الأمويين- على تقوية سور المدينة من خطر الغزاة
حرص ولاة قرطبة -منذ الأمويين- على تقوية سور المدينة من خطر الغزاة
لذا؛ حرص ولاة قرطبة -منذ الأمويين- على تقوية سور المدينة من خطر الغزاة، ومن خلال وصف الرحالة والمؤرخين لهذا السور نلحظ مدى الاتساع والثراء الذي كانت تتقلب فيه هذه المدينة العامرة، فقد تألف حولها "أرباض" وهي الأحياء المقامة خارج أسوار المدينة، وكان عددها 21 ربضًا وفقا لإحصاءات المؤرخين العرب، كانت جميعها غير مسوّرة، فلما قامت الفتنة البربرية في نهاية الحكم الأموي، وأصبح الناس لا يأمنون على أموالهم وأرواحهم، أمر بعض ولاتها -مثل المهدي بن عبد الجبار وواضح العامري- بإنشاء سور وخندق يحيط بالأرباض جميعًا، وأصبحت المدينة بأرباضها تمتد من الشرق إلى الغرب مسافة تقرب من 3 أميال، ومن الجنوب إلى الشمال ميلاً واحدًا، وفي زمن الجغرافي الأندلسي أبو عبيد البكري في القرن الخامس الهجري أصبح محيط الأسوار يقرب 15 كيلومترًا[4]!

 

أما أشهر آثار المدينة جامعها الكبير الذي أفاض الرحالة بوصفه، فقد بلغ عدد أعمدته في زمن المنصور بن أبي عامر -في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري- 1293 عمودًا من الرخام، "وقباب مقصورة الجامع مُذهّبة، وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أُجري فيه الذهب على الفسيفساء، وثُريات المقصورة فضّة محضة"[5]. وقد ذكر الجغرافي البكري أن عدد المساجد في المدينة بلغ  سنة (460هـ) 491 مسجدًا، مما يكشف لنا حجم الكثافة السكانية العالية التي تمتعت بها قرطبة في عصرها الإسلامي[6].
 

لقد بلغ عدد سكانها أكثر من خمسمئة ألف، فتوسعت عمائرها ومبانيها، وبلغ عدد دور قرطبة ما يقارب المئة ألف دار، تنتشر في أرباض المدينة البالغة واحدا وعشرين، واشتهرت قرطبة بحماماتها البالغة ثلاثمئة حمام، وبفنادقها وساحاتها وحدائقها، ولعل من أهم آثار الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر المعمارية، مدينة الزهراء[7].

 

الزهراء: العاصمة الجديدة!
كانت ثمة أسباب دفعت عبد الرحمن الناصر إلى بناء هذه المدينة، التي أريد لها أن تكون مقرا جديدا للخلافة الأموية
كانت ثمة أسباب دفعت عبد الرحمن الناصر إلى بناء هذه المدينة، التي أريد لها أن تكون مقرا جديدا للخلافة الأموية

تعد الزهراء مأثرة مهمة من مآثر الأمويين في الأندلس، وقد بنيت على مسافة 8 كم شمال غربي العاصمة قرطبة على سفح جبل العروس، وقد كانت ثمة أسباب دفعت عبد الرحمن الناصر إلى بناء هذه المدينة، التي أريد لها أن تكون مقرا جديدا للخلافة الأموية، ولعل أهم هذه الأسباب؛ الابتعاد عن صخب المدينة القديمة التي اكتظت بالسكان البالغ عددهم حينذاك نصف مليون نسمة، والأمر الآخر أن الخليفة عبد الرحمن الناصر كان مشهورًا بالعمران والتشييد، وهي سمة لازمة لكل عظماء الحكام من الخلفاء والملوك.
 

بدأ بناء الزهراء في محرم سنة 325هـ، وخوّل الناصرُ وليَّ العهد (ولده الحكَم) بمهمة الإشراف على بنائها، وقد عمل في بناء الزهراء جيش من العمال والمهرة، أشرف عليهم خيرة المهندسين والمعماريين في ذلك الوقت، وانتقل إليها الناصر بحاشيته وخواصه وخدمه في سنة 336هـ. أما مبانيها فقد اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة جُلب بعضها من رومة والبعض الآخر من القسطنطينية، ومصاريع أبوابها كانت تزيد على خمسة عشر ألف باب، ملبّسة بالحديد والنحاس المموَّه، وجلب الرخام المستخدم في بنائها من مدن اشتُهرت بهذه المادة، فمنه ما جُلب من مدينة ألمرية، وأصناف منه جُلبت من المغرب العربي، ومن مدينتي صفاقس وقرطاجنة، واجتهد الناصر باختيار التحف النادرة من الشام والقسطنطينية[8].
 

وحين زارها الرحالة العربي الشهير الشريف الإدريسي رآها "مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى يُوازي على الجزء الأوسط، وسطح الثلث الأوسط يوازي على الثلث الأسفل، وكل ثلث منها له سور فكان الجزء الأعلى منها قصورًا يقصرُ الوصف عن صفاتها، والجزء الأوسط بساتين وروضات، والجزء الثالث فيه الديار والجامع"[9].
 

ولقد أثبتت الحفائر الأثرية التي أُجريت في موقع الزهراء صدق ما وصفها به الشريف الإدريسي عندما أشار إلى أن القصور الخليفية كانت تقوم في القسم الأعلى من المدينة؛ بينما كانت الدور العامة والأسواق تقع في القسم الأدنى منها؛ بحيث تفصل بين القسمين بساتين وروضات[10].

مدينة الزهراء (مواقع التواصل الإجتماعي)
مدينة الزهراء (مواقع التواصل الإجتماعي)

وذكر الرحالة الشهير ابن حوقل (ت بعد 367هـ) أن عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ) كان قد رغّب أهل الأندلس في سكنى مدينته الجديدة، وقد أعلن عن مكافأة قدرها 400 درهم لمن يسكن هذه المدينة الخليفية الجديدة "فتسارعَ الناس الى العمارة، وتكاثفت الأبنية، وتزايدت فيها الرغبة وكادت الأبنية أن تتّصل بين قرطبه والزهراء"[11] وهي مسافة تصل إلى 8 كيلومترات كما مرّ بنا.

 

وحين اكتمل بناء هذه المدينة، تجلى حسنها وبهاؤها، وصارت مقصدًا للكافة، ودارًا للموهوبين، وأكثر الشعراء في وصف جمالها، قال ابن زيدون الشاعر الأندلسي الشهير في وصفها مادحًا[12]:
 

إني ذكرتُك بالزهراء مشتاقا … والأفق طلْقٌ ووجه الأرض قد راقا

وللنسيمِ اعتلالٌ في أصائله … كأنّما رقَّ لي فاعتلّ إشفاقا

والروض عن مائه الفضّيّ مبتسم … كما حللت عن اللّبّات أطواقا

يومٌ كأيّام لذّات لنا انصرمت … بتنا لها حين نام الدّهر سرّاقا
 

على أن مدينة الزهراء لم تعمر طويلاً؛ فقد ظلت مقراً للخلافة في عهد الناصر وولده الحكم المستنصر، ثم فقدت أهميتها وبريقها السياسي عندما سيطر الحاجب المنصور بن أبي عامر على مقاليد الأمور، وبنى مدينته المعروفة بالزاهرة، وفقدت الزهراء رسومها عندما اجتاحت الأندلس وقرطبة خاصة عوامل الفتنة والفوضى؛ جراء النزاع على السلطة في بداية القرن الخامس الهجري، وتعرضت هذه المدينة إلى الدمار والحرق ونهب ما حوته من نفيس التحف[13].
 

تلك أبرز ملامح قرطبة في مجدها الذهبي، وعصرها اللامع، مدينة كانت عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس، اكتظت بالبنيان والإنسان، وكانت ملتقى العلماء والشعراء والصناع والتجار، وقاعدة الجيش الأندلسي الأكبر، لكن هذه المدينة العامرة تعرضت لخطوب ومحن، وأفلت سريعًا بسقوطها في يد الأسبان في الثلث الأول من القرن السابع الهجري.

المصدر : الجزيرة